أصابعُ الحياة
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
لا نفكّر طويلاً بقيمة الحياة طالما فحيحُ الموت بعيد عنا أو هكذا نظنّ ،نستيقظ صباحا بكامل صحتنا و عافيتنا و حواسنا ننسى شكر الخالق على الأغلب لنتذكر صداعاً بسيطاً ألمّ بنا في يومٍ سابق ،أو موقفاً كدّرنا عديم القيمة لا يعني لنا مرتكبوه شيئاً ، بل بإمكاننا محوهم من الملف مباشرةً ،نبدأ لوم أنفسنا و محاسبتها على إقدام أو إحجام ، على ثرثرة أو صمت ،نتجاهل أن الدروس العظيمة لا تأتي مجانية مهما بلغت تفاهة مقدّميها لأنها الخبرة و الخبرة فقط .
منذ مدة و أثناء تواجدي في دورة للإسعافات الأولية في مركز اليرموك الصحي برفقة مجموعة من الزميلات ،تابعنا شروحات طبيبتين رائعتين حول الجروح و الحروق و التسمم و الصّدمة و غيرها ..... حتى وصلنا إلى الإنعاش القلبي الرّئويّ و آلية عمل مزيل الرجفان الخارجي الآلي ،أخذتني الصور أبعد من المكان و خلف الزمان، أتابع الفيديوهات حيث صوّرت جميعها في أمريكا ،أُدهشُ كيف يحاربون الوقت الضّائع ،يصارعون الموت بأصابع الحياة لينتظم النبض أو تدبّ الأنفاس من جديد ، حتى لو أدى الضغط المستمر إلى كسر الأضلاع و تهشيمها ... المهمّ هو الحياة ! و تساءلت لمَ نعشقُ نحنُ خنقَها إذاً ؟ تطالعك الصحف بالكوارث ،بالفساد و نهب الأوطان و مقدرات الشعوب ،تبدأ صباحك بجرعة أخبار موجعة ثم تقفل نافذة ليلك على العويل و نحيب الطفولة ، على التهجير و الغرق و الموت و القصف ،تحاصرك صور من الداخل و طوفان من الخارج ، يضيق بك المكان حتى تصير الروح زنزانة رطبة ،ما من فسحة بيضاء لديك تحكي فيها لأطفالك عن قيمة الحياة و نحن جميعاً نبصرها تتبخر بين الغيوم و تُسفح فوق التراب ، تحارُ في أمرك كيف تصفُ الغد و بأيّة صورةٍ ترسمهُ أو تغطي قبحه ،إذ لا تملك تصوّرا لمفاتيح غدٍ ما عاد ملكاً لأيّ منا ،هل تجدي مطالبة أبنائنا بنبذ العنف و كونُنا كتلة تلتهب عنفا ؟
في داخلي جملة ظلت تتردد كلما أعادوا ذكرها في الفيديوهات المعروضة ،تقول : (اللحظات الأولى للمصاب تعني له الكثير ،اللحظات الأولى فارقة ، اللحظات الأولى تفتح الباب أو توصده أبدا ) تلك لحظات رمي حبل النجاة ، لها كامل القرار و ما أصعب أن توضع في موقع المتقاعس و بإمكانك أن تكون المنقذ ،الأعمار بيد الله لكن بيد المسعف المدرّب المحافظة على الجذوة مشتعلة ريثما يصل المختصون أو يبدأ المصاب بتلقي الرعاية الطبية اللازمة .
تأثرتُ كثيراً بما سمعت و رأيت ،عدتُ أحكي لولديّ عن كل شيء ،داعية إياهما إلى الاحتفاء بنعمة الحياة و نعمة الصحة و غيرهما مما لا تحصيه الأصابع ،فما من ضرورة إلى طرق باب الموت لنكتشف بهاء وجه الحياة ، هذا ما تقوله جوان بايز الكاتبة الغنائية : (أنك لن تستطيع اختيار طريقة موتك أو موعده، كلّ ما في يدك هو أن تقرر كيف ستعيش ) .
* كاتبة وقاصة