[FONT=Arial][JUSTIFY][COLOR=#16160C][JUSTIFY][JUSTIFY][B][SIZE=5]
[COLOR=#0005FF][SIZE=6][CENTER]صدع البين فؤادي .. وبرح الفراق جوانحي[/CENTER][/SIZE][/COLOR]
بقلم : أ / عبدالله بن معيض البجيدي *
الليلة ليلة الثامن و العشرين من شهر رمضان من عام اثنين وثلاثين و أربع مئة و ألف في ثلثها الأخير.
والمكان مدينة صغيرة حالمة هادئة أظلها الليل بأجنحته فستر عن العيون معالمها فلا ترى غير أنوار شوارعها تتلألأ تلألأ النجم الغابر في كبد السماء .
و في غرفة من زوايا هذه البلدة تجلس عجوز حملت على ظهرها من السنين سبعين سنة أثقلت هذه السنون خطوها و أحنت ظهرها و أعشت بصرها جلست تستعيد شريط حياتها و تقلب صفحات ذكرياتها وكيف أتى الله لها بولد على كبر بعد أن صوح نبت الحياة وولى ربيع العمر فلا تسل عن مقدار الفرح به والأنس بقدومه
لقد أنسى قدومه شقاء الأيام و كروب الدنيا لا سيما أنه وحيدها جاء بعد عشر فتيات فكان خاتمة أولادها .
نشأ الولد في كنف والدته تغذوه بعاطفتها و تفيض عليه من حنانها ليكون عونا لها على أرزاء الدنيا ومصائبها .
مرت الأيام سراعا فبلغ مبلغ الرجال وصار يمرح في رداء الشباب يطير إلى المستقبل على جناح الأمل فتاقت نفسه إلى الزواج فسارعت إلى تزويجه و أعلن يوم الزفاف أسعد أيامه و أسعد أيامها .
الدنيا لا تسع فرحتها بزواجه بسعتها ورحبها لو قسمت فرحتها على بؤساء الأرض لأضحكت بائسهم و أزالت الشقاء عن شقيهم .
فما مر غير قليل حتى عاد ابنها من سفر هو وزوجه و أشرفا على بلد الحبيبة أمه و لاحت لهما أعلامها وبدت لهما رسومها وثار من البلد أريجها فحرك على لوحة هاتفه أصابعه ليرسل عبر الأثير نداء لأمه فيستحيل النداء صوتا من هاتف الأم ألذ في أذنها من النغمات و الألحان يقول لها : هذا الحبيب فردي .
فتزيح حجابها عن أذنها بهدوء اضطرها إليه كبر سنها لئلا يُحجب صوت الحبيب عن أذنها فإذا به يقول لها : أنا على مدخل البلد .
فترد وقلبها يخفق سرورا بلهجة ملؤها الصدق والطهر " حياكم الله و أنا أنتظركم على السحور " فيغلق الخط وبهذا يغلق خط السرور إلى قلبها وتذبل زهرة الحب من حياتها .
فقد كان على مدخل البلد موعد للزوجين لا يُخلف ولقاء لا مفر لهم منه ولا مهرب فنفذ القضاء و انقطعت من الزوجين أسباب الحياة فبردت الأجساد وشخصت الأبصار وانتهت الحياة وانتقلوا إلى دار أخرى
و ذلك جراء حادث أدخل سيارتهم بأخرى حتى صارتا كومة حديد واحدة
ولا عجب فكم ذهب على هذا الطريق من رجل وكم ماتت من أنثى وكم قضى على فرحة وكم قتل من بسمة وكم اغتال من حب .
طريق واحد غير مزدوج بين منعطفات وجبال ونجاد و وهاد لا يكاد يسع سيارتين يحصد الأرواح روحا بعد روح .
و المسؤولون لا تعنيهم أرواح المسلمين من قريب أو بعيد إذ سلمت لهم معايشهم و غاب الرقيب و من يحاسبهم .
أما الأم فأبطأ عليها ابنها و تلعثم الناس من حولها و اختلفت الوجوه و تغيرت
ولا بد من إخبارها الخبر فنزل عليها الخبر نزول الصاعقة فاستحكم يأسها وفنيت حيلتها و قل مساعدها فأصبحت تتقلب على مثل جمر الغضى مما يساورها من الألم
أحقا مضى وحيدي ؟ أحقا قضى قلبي ؟ ألن أكتحل بعد اليوم بمرآه ؟ ألن يهتز هاتفي من اتصاله وتضيء شاشته من مهاتفته ؟ أحقا لن أجد من أشكوا له ألمي إن مرضت ؟ ألن أجد من يواسيني إن كُربت ؟ من سيشاركني فرحي إن فرحت ؟ وهل سيجد الفرح بين ركام الحزن سبيلا أو طريقا إلي ؟
سالت دموعها و بكت وحيدها
بكت ابنها و أمها و أباها ومن مضى من أهلها.
وبقيت تتجرع ألم فقدهم وحدها .
كان يملأ على العجوز وقتها و فراغها فكانت تتصل عليه إن غاب عنها و تتضايق إن تأخر عليها و تقوم بخطاها الثقيلة لتطرق باب غرفته بعصاها إن تأخر عن عمله .
أما اليوم فقد سكنت حياتها سكون المقابر التي دخلها ولدها فلم يعد يشجيها لحن ولا تطربها نغمة ولا تفرح بخبر ولا تأس على فائت ولا تحزن على مصيبة .
أما أنا فقد وقفت على قبرين دفن فيهما قلب العجوز وفي النفس عبرة وفي العين عبرة
كأن قطاة علقت بجناحها على كبدي من شدة الخفقان
نفضت يدي من تراب قبرهما ثم مشيت أهيم كاليتيم أجد دموعا ولا أستطيع إرسالها و زفرات لا أقدر على تصعيدها أنظر و لا أبصر أسمع و لا أعي حتى إذا جزت باب المقبرة صار حالي كحال الشريف إذ قال :
وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب
خرجت أمشي بخطوات أثقلها الهم وجوانح برحها الألم وقلب لا يسكن من الخفقان ولا يستفيق من الهموم والأحزان .
لا أستطيع أن أصف لكم دخولي على جدتي لعزائها فذاك مما يقصر عنه البيان ولكني أقول :
أن في نفسها من عضض الألم ما يلهب الجوانح و يذيب لفائف القلوب لا تستطيع أن تترجم عن ذلك إلا بسفح الدموع .
ولكن أين منها الدموع ؟ لم تسطع أن تسبل ماء عيونها
عدت من دفنه إليها فسألتني : أرأيته ؟ فقلت لها : دفنته
فأسبلت من عيونها دموعها كأني بها وهي تقول :
" والله يا بني لقد غذوتك رضيعا وفقدتك سريعا و لم يكن بين الحالين مدة ألتذ بعيشك فيها فأصبحت بعد النضارة و رونق الحياة و التنسم بطيب روائحها وعبق أريجها تحت أطباق الثرى جسدا هامدا ورفاتا سحيقا و صعيدا جرزا لئن كانت أمنيتي مذقة لبن من يدك أو فنجال قهوة أستلمه من بين أصابعك فإن أمنيتي اليوم صبرا يبلغني يوم اللقاء بك في مستقر رحمة ربك واجتماعا على شاطئ من شواطئ الجنة أو غدير من غدرانها أو في قصر من قصورها يا بني ليس لي بعدك من متعة في هذه الدار وليس لي من أمل أرجوه في هذه الحياة
كان لي بالأمس قلب فقضى و أراح الناس منه واستراح
اللهم إنك قد وهبته لي قرة عين فلم تمتعني به كثيرا بل سلبتنيه وشيكا ثم أمرتني بالصبر و وعدتني عليه الأجر فصدقت وعدك و رضيت قضائك فارحم اللهم غربته و آنس
وحشته و استر عورته يوم تنكشف الهنات والسوءات"
وا ثُكل الوالدات ما أمض حرارة قلوبهن و أقلق مضاجعهن و أطول ليلهن و أقل أنسهن و أشد وحشتهن و أبعدهن من السرور و أقربهن من الأحزان .
ثم ماهي إلا لحظات حتى جاء طوفان الليل وفار التنور فغرقت بأمواجه الدنيا وغرقت ( الشملي ) في لجته وغابت في قاموسه ليواجه الزوجان أول ليلة لهم في عالم الآخرة .
و تتجرع العجوز غصص الفقد و ألم الفراق .
أما أنا ففي أرجاء منزل ضمهما حينا من الدهر قضيت تلك الليلة ليلة ذاهلة النجم بعيدة مابين الطرفين أسمع ممن حولي أنينا يفصح عما في صدورهم من الحزن الدفين و أرى دموعا تدل على ألم يبرح الجوانح .
وإن مما يهون المصيبة شهادة شهود الله في أرضه ببره بوالده و أشهد أنه كان به بارا يعطيه دوائه ويقضي حوائجه وينجيه بعد قضاء حاجته بل وقبل وفاته بليل حلق لوالده العاجز .. على مرأ مني ومسمع .
ولقد جالسته و زوجه كثيرا و أشهد أني ما أكاد أسمع صوتها من حيائها و لطالما شككت أردت علي تحيتي لها أو لم تردها ؟
هذه مشاعر نثرتها لكم بعد أن صدع البين فؤادي و برح الفراق جوانحي و انا راض بقضاء ربي .
وقديما قيل :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
اللهم إن فارس بن عبيد البجيدي و زوجه عبدك و أمتك نزلا عليك أضيافا – ولم يقصرا يوما في إكرام ضيفهما – و أنت أكرم الأكرمين فارحم ضعفهم واغفر زللهم واغسل حوبهم و أكرم نزلهم و نور قبريهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس و اخلف على أهلهم خيرا و رضهم بقضائك يا رب العالمين .
[COLOR=#FF3600]* كاتب وتربوي .[/COLOR]
[/SIZE][/B][/JUSTIFY][/JUSTIFY][/COLOR][/JUSTIFY][/FONT]