رحلة أبراهام فكرتها وأهدافها
بقلم : د. إيهاب محمد عويص *
نواة هذا العمل كانت تجربة واقعية خضت غمارها عندما تغربت في رحلة طويلة إلى الخارج بهدف الدراسة الجامعية, ابتداء من ألمانيا (الغربية), ومروراً بهنجاريا, إلى أن حط بي الرحال أخيراً في روسيا, التي تزوجت إحدى بناتها, وتخرجت، ثم تخصصت من جامعاتها ومشافيها, واكتسبت جنسيتها, قبل أن أعود إلى سورية حيث أقيم حالياً. وكان أكثر ما صدمني في أثناء فترة دراستي الطويلة هو مقدار التفاوت الشديد بين مستوى بلاد العرب التي نشأت وتربيت بين ربوعها, وبين مستوى بلاد الروم , من غربها إلى شرقها، كما صدمت أكثر بتفسيرهم لاغتصاب بلدي فلسطين, وجعلي لاجئاً يهيم في الأرض دون وطن, كتنفيذ لوعد إلهي, وإشارة على قرب عودة الرب!!!
كنت آنذاك منبهراً بحضارتهم وعلومهم, بل بأسلوبهم في الحياة كذلك, ولم أكن واثقاً من أن معلوماتي القديمة كانت أصدق, فقط لأنني تعلمتها أولاً, ومنذ الصغر! فأتباع دين الروم هم الأكثر عدداً, ويربون حالياً على المليارين , كما أنهم الأكثر تقدماً في العالم كله من جهة العلم والثروة والسلطان، ولا يعقل أن يكون كل هؤلاء على خطأ, ويكون مليار ونصف مليار مسلم على الحق! وهم غير قادرين حتى على ردع ستة ملايين مشرد جاؤوا من مختلف أصقاع الأرض ليستوطنوا عقر دارهم ويغتصبوا عروس عروبتهم جهاراً نهاراً وسط عشرات الدول العربية المحيطة بهم من كل جانب, ومثلهم من الدول الإسلامية الأخرى حولها. وما يزيد الطين بلة هو أن تلك الأرض المغتصبة بالذات كانت قبلة الإسلام الأولى وثالث الحرمين الشريفين, ووصفت وحدها في القرآن الكريم بـ "الأرض المقدسة"(المائدة 21). لذلك, ولأسباب أخرى, فقد نزعت من رأسي ما تعلمته من أن الإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله غيره, وتجاهلت ما تؤكده أسرتي من أن نسبنا يمتد إلى أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام, وعزمت على مواجهة موروثي بمنتهى الجرأة, ومهما كلفني الأمر, كي أحسم ترددي نهائياً, وأختار باقتناع كامل, الجهة التي سوف أصدقها وأنتمي إليها بقية حياتي.
وما أعظم ما خرجت به من تلك التجربة؛ فقد فتحت لي آفاقاً واسعة, مكنتني من سبر أغوار معظم الأمور المحيرة, وإجلاء العديد من الأوهام المغررة, وحل الكثير من الألغاز العصية على الإدراك. وأهم ما في الأمر, أنها جعلتني أقدر تمام النعمة التي منَّ الله تعالى بها علي إذ جعلني مسلماً, وكفى بها من نعمة.
ومع أن رحلتي في البحث عن الحقيقة والتحرر من الأوهام قد انطلقت من افتراض خطأ الإسلام, وانتهت بأن عدت إلى الله تعالى صاغراً, ومسلّماً بدينه؛ إلا أنني رأيت ألا أدخل بطل رحلتنا بتلك المتاهة التي عانيت منها سنوات عجافاً؛ فتسليط الضوء على ذلك ليس هو الهدف الرئيسي الذي أنشده من وراء هذا العمل. لذا فقد جعلت بطل هذه الرحلة من أتباع أقدم دين سماوي معروف, ومن نسل الأنبياء والكهنة اللاويين الوارد ذكرهم في الكتب السماوية, ثم مهدت له طريقاً مستقيماً يبدأ بالتيقن من وجود الله عز وجل, بعد المرور على بعض أشهر العقائد الإلحادية لمشركي هذا العصر ووثنييه, ثم يغطي بتدرج منطقي عقائد أشهر الفرق اليهودية والطوائف المسيحية, ومن ثم يغوص في جذورها مقارناً أصولها العقدية بمناهجها العصرية. وفي نهاية المطاف يختم بحثه في إخضاع كل ذلك إلى الكتاب بعد أن يخضعه هو نفسه للبحث.
وقد استلهمت اسم بطل هذه الرحلة "أبراهام" , وتدرج مسيرته في رحلة بحثه عن الحقيقة وتحرره من الأوهام, من اسم جده (المفترض) "إبراهيم" عليه السلام أبي الأنبياء, ومسيرته في البحث عن الإله الحق, بعد عدم اقتناعه بآلهة آبائه وأوهامهم، حيث تنقل عليه السلام في جدله الفلسفي مع قومه من عبادة النجوم إلى القمر ثم إلى الشمس, حتى يوصلهم في النهاية إلى الخالق الحقيقي جل جلاله, المستحق وحده للعبادة.
أما أبراهام المفتقد لعصمة جده الكبير ورسالته وعزمه, الذين قدموا له الحقيقة الحنفية من الله مباشرة، فلم يسعه إلا أن يبحث عنها بجهده الخاص, بعد أن بدأت الشكوك تراوده حول عقيدته السابقة وتعاليمها، ليتخذ بحثه صورة صراع حاد بين العقل والدين, قاده إلى الخوض في رحلة طويلة من المجادلات الفلسفية مع ذاته أولاً, ثم مع قومه وأقوام أخرى, مقارناً بين نجوم النظم الإلحادية ، وأقمار الفرق اليهودية , وشموس الطوائف المسيحية حتى يصل في النهاية, وبتوفيق من الله عز وجل, إلى النور المبين المنزل من الله عز وجل، والذي يجيب عن مختلف تساؤلات عقله بعد تشككه, ويعمر قلبه بعد خرابه, ويملأ روحه بعد خوائها، محطماً أصنام الموروث, ومتحملاً نيران مجتمعه, لتصبح برداً وسلاماً عليه، تاركاً كل شيء وراء ظهره ومهاجراً إلى الله تبارك وتعالى, ليبذل في سبيل مرضاته الغالي والنفيس.
كان في نيتي, عندما بدأت في هذا العمل قبل أكثر من ثلاث سنوات, أن يكون على شكل رواية أدبية ممتعة كي تعم الفائدة المرجوة منه أوسع شريحة ممكنة من القراء, متعمداً الابتعاد عن التعقيد الممل قدر الإمكان, وفي الوقت نفسه أن أعطي صورة متكاملة عن مواضيعه المختلفة بشكل سلس, دون أن يكون ذلك على حساب التفاصيل المهمة، إلا أن المدة الطويلة التي قضيتها في جمع المعلومات محاولاً قدر الإمكان تغطية مواضيعه المتشعبة على الوجه الأمثل, قد أخرجت العمل عن تصنيفه الأول, متجاوزاً لما ينتظره الناس عادة من رواية أدبية, حتى إن كثيراً ممن عرضته عليهم قد وصفوه بأنه صار أشبه بموسوعة مختصرة في الأديان والحضارات! وأنا بالطبع لا أدعي هذا بأي شكل من الأشكال, بل إنني لا أصنف هذا العمل المتواضع حتى كبحث توثيقي أو كدراسة أكاديمية, على غزارة المعلومات والحقائق الموثقة فيه. ولا أدعي أنني قد أتيت بجديد لم يتنبه له أو يفكر به أحد قبلي؛ فجل هذا العمل هو عرض متواضع لمختارات من بعض الدراسات الأكاديمية المنشورة سابقاً عن الأديان والحضارات، والفضل فيها يرجع بعد الله تعالى إلى أصحابها بالذات, وليس لي منه إلا الجمع والتنسيق والتقريب. وحتى ما يمكن أن يعتبر جديداً في هذا العمل, فهو ليس أكثر من إعادة ترتيب المكعبات للوصول إلى الشكل الأكثر قرباً من الحقيقة, ووضع النقاط على الحروف, ومن ثم تحليل المعطيات للوصول إلى النتيجة المنطقية .
وفي الختام, فإني أشهد الله تعالى أنني قصدت من وراء هذا العمل وجهه الكريم, ولم أشرك معه أحداً في قصدي وأنا أعلم. فإن أحسنت في شيء, فهو توفيق منه جل جلاله, وأطمح إلى مثوبة منه, إنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وإن أخطأت أو قصرت في أشياء أخرى, فذلك من نفسي القاصرة, واتباع هواها بغير علم والعياذ بالله. فأرجو عفوه وهدايته, إنه يغفر الذنوب جميعاً ويهدي من يشاء, وهو أعلم بالمهتدين. وأنا أدرك جيداً أن كثيراً من الناس من مختلف التوجهات لن ترضى عن صراحتي في نقطة أو أخرى, ولا عن تطرقي إلى مواضيع يعتبرونها حساسة أو محرمة, وأنهم سيهاجمونني بشدة، ولكنني لم أضع في حسباني إلا إرضاءه وحده, فهان علي غضب بعض خلقه. وأعوذ بالله من أن أَضِل أو أُضَل أو أن أَذِل أو أُذل أو أن أَظلم أو أُظلم أو أن أَجهل أو يُجهل علي, وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
* دكتور اختصاصي في تقويم الأسنان وكاتب روايات رحلة أبراهام