قل خيرًا .. أو لا تقل شيئًا
بقلم : أ. جولان رشاد الواوي*
شعرت بالبرد وأنا في محاضرة ما ، فأخرجت الشال من حقيبتي وأرخيته على أكتافي ، ابتسمت زميلتي بعد أن استرقت نظرة عابرة ، فسألتها عن سبب ابتسامتها في الاستراحة ، قالت : اعتدت عليك بكامل أناقتك يا صديقتي ، هذا الشال خارج الموضة بنصف قرن ، وفي حالةٍ يُرثى لها، ألا ترين أنه يُفسد طلتك و يُضفي عليك مظهر "جدة "
ابتسمت وانا أشدّ الشال أكثر ، قلت لها بكل هدوء : يجب أن تعتادي رؤيتي به يا عزيزتي لأنني لا أحمل غيره في الأيام الباردة ، ولا أنوي استبداله مطلقاً ، انصرفت صديقتي للحديث مع أخرى بعد أن ظنت ردي مجرد انفعال ، وأنا انصرفت للكتابة.
كان بإمكاني أن أخبرها بسر الشال ، لكنني لم أرد إحراجها ولا تحميلها خطأ الناس جميعاً.
لن أجعلها تتحمل خطأ تلك التي لم تسلم عليّ وقد أقبلت عليها مبتهجة وسط حشد من معارفنا رجالا ونساءً ، ودفعتني على بعد متر بيننا لأنها تخاف انفلونزا الخنازير ، أراد زوجي أن نغادر الحفلة يومها ، ولكنني لم أفعل .
ولن أحملها تهكّم أخرى من شهيتي المفتوحة ذات عشاء بعد أن قضيت شهرين متتابعين بدون طعام لمرض ألمّ بي ، ورفضت أن تخبرها صديقتي الأخرى بمعاناتي حتى الأمس ، وأكملت وجبتي برضا مطلق عن ذاتي .
ولن أضع عليها وزر المرأة التي صرخت بي أمام البائع واتهمتني ( بالفسق ) بسبب ضحكة انفلتت مني ، وقد كانت تلك الضحكة الأولى لي بعد مصيبة راحت بابتسامتي لأشهر .
لقد عاهدت نفسي منذ مدة أن لا أبرر أفعالي لأحد ، فالذي يُحبك لن يحتاج أي مبرر ولو احتاج سيضعه هو لك ، والذي يكرهك لن يقتنع بأي مبرر ، وعاهدت نفسي أن أراقب كلماتي مثلما أراقب صغيرتي وهي تسير على حافة المسبح ، فإذا سقطت لا قدر الله ، وأصابت الكلمة جرحا لدى الآخر سارعت للقفز وإنقاذ الموقف ، والاعتذار عما بدر مني ، وإن كنت أعلم أن الاعتذار غالبا ما يكون مثل ضمادة جرح سخيفة لا تعالج الجرح من الداخل.
لو تعلمّ كل واحد منّا أن يتذوق الكلام في فمه قبل أن يقذفه في وجوه الآخرين لابتلع أغلبه مع غصة ندم ، و لفظ الباقي في سلة المهملات ، ولو قاس على نفسه الأشياء التي تزعجه لما أجبر غيره على ارتداء ما يناسبه هو فقط وكأنه المقاس الوحيد الذي يصلح لكل البشر ، ولو راعى ظروف الناس ، لكان الناس أول من يراعي ظروفه ، ويحرص على عدم الإساءة إليه ، إنه قانون ثابت .
عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ، لكن لا تعاملهم كما يعاملوك فعلا ، لأن بينهم المخطئ والناسي والقاصد ، وكلهم لا يستحقون أن تغير طريقتك في التعامل لأنك ستؤذي نفسك قبلهم .
لو قام أحدنا بالشق عن قلوب الآخرين لوجد فيها ما يكفيها ، ولما سرّه أن يزيد عليها شعرة ، كل القلوب مجهدة حد الألم ، وكلها فيها ما يكفيها من أذى الناس .
ولذلك فالكلمة الطيبة صدقة ، والابتسامة صدقة ، ينميها الله للإنسان حتى يدفع بها عنه حرّ جهنم .
ضع بينك وبين الآخرين مسافة أمان كافية ، مهما كانت علاقتكم قوية ، ولا تتدخل فيما لا يعنيك ، بعض الكلام يجرح ، والأسوأ أن بعضه قد يقتُل ، كلمات قد تدفع صاحبك إلى تمني الموت فلا تتحمل وزرها ، واحرص على زرع كلمات طيبة في أذنه قد تزهر في أشد أوقات حاجته إليها ، حاول أن تتنفس ببطء أثناء الحديث ، وتحبس بعض الكلمات غير المؤثرة ، ولا تحرص على الإجابة واستلام دفة الحوار أو الانتصار لنفسك فقط ، قلّ أن يؤذي الصمت بشر ، في حين أن أغلب المشاكل بسبب كلمة سافرة هزت ثقة الآخرين بحسن أدبك .
رحم الله أختي الغالية ، كان ذلك الشال ميراثي منها ، مدّته لي أمي وأنا أسافر وحيدة إلى غربتي بعد عزائها ودموعنا لم تجف بعد ، وقد عاهدت نفسي أن أرتديه كلما شعرت بالبرد حتى أدعو لها بقدر حاجتي له ، فتحسب صدقة جارية عن روحها ، وحتى أشعر أنه لا يزال بإمكانها إحاطتي بذراعيها كما كانت تفعل .
*كاتبة وروائية ، إعلامية ومدربة في تطوير الذات والتنمية البشرية