( الغربة الوطن )
بقلم : أ. جولان رشاد الواوي*
سأبقى أكتب عن الغربة ، لا أحد بإمكانه أن يألف ذلك الشيء ، أولئك الذين فعلوا ، صاروا بلا هوية ، وبلا حلم ثم ماتوا وهم على قيد الحياة .
وفي اعتبار ما سيكون بعد أعوام أُخر ..
وجبات الطائرة باردة ونيئة، أقلعت عنها منذ زمن بعيد ، في المطار ، لم يكن ثمة أحد لاستقبالنا ، على عجل حملنا الحقيبة الوحيدة، و مثل أي عابر سبيل أخذنا سيارة أجر. عندما سألني السائق عن أمتعتنا، قلت:
إنها حقيبة واحدة يا سيدي .
فنحن لم نعد نشتري الهدايا، كل الصغار الذين نعرفهم كبروا وأغلب الكبار قد رحلوا، بدا الوطن هرما ً أيضا من النافذة نصف المفتوحة ، وهوائه لم يعد مختلفاً كما كان.
سأل السائق ولدي على سبيل المزاح :
لماذا أتيت إلى هنا يا ولدي ؟
فردّ ببساطة : لأنجز بعض الاوراق الرسمية.
هكذا صار الوطن، دائرة حكومية.
على باب العمارة استقبلنا الحارس ، وحده الذي ظلّ يستقبلنا يوم غاب الذين نحبهم ، وسأل عن بقية المتاع أيضاً،
هل يُقاس المرء بحجم متاعه ؟
همّ ولدي بإزالة المفارش عن الأثاث قبل أن أقول له:
لا بأس إننا هنا ليومين فقط ، سيكفينا مقعدين على الشرفة.
لقد ضاع العمر ونحن ننظر للوطن من ، شرفة .
بدأت أحدثه عن عدد المرات التي أتينا به هنا وهو لا يزال صغيراً ، عن فرحة أجداده به ، عن أولاد أعمامه و أخواله لم يحرك الحديث وجدانه ، ثم قاطعني فقال :
أماه إنها ذكرياتك أنتِ ، أنا لا ذكريات لي هنا .
وانكسر الليل في خلدي ، حتى الدموع لم تجد لها طريقاً،
قال : سأصحو باكراً لأنجر الأوراق، فأين ستذهبين يا أمي؟
قلت وأنا أغالب الدموع: سأزور من بقي على عجل يا ولدي ، لن أستطيع أن أخبر الجميع بأننا هنا ، سيلومنا الكل وليس معنا غير يومين فقط، لا أدري إن كان قد ضاق بنا الوطن ، أو أننا ضقنا به ، في الغد عاد ابني باكراً ، قبل أن أبرح مكاني على الشرفة . قال : أنجزت كل شيء بسرعة ، همست : كم تغيرت الأحوال ، وابتلعت بقية الحكاية، إنها ذكرياتي أنا لا ذكرياته هو ، حتى طوابير الإنتظار في الدوائر الحكومية صارت ذكرى محببة ، إلى هذا الحد كبرنا، كل الأشياء التي كنّا نمقتها، نفتقدها.
قال وهو ينظر في ساعته : متى نعود ؟
آهٍ يا ولدي ، كم سألت نفسي هذا السؤال ، ولم أجد يوماً إجابة واحدة ، طيلة أعوام الغربة ، متى نعود ؟
لطالما أردت أن أعود إلى الوطن ، ولكنني لم أعد ، وكنت أبعد عنه كل يوم أكثر، واليوم يريدني ولدي أن أعود إلى الغربة ،
فأنا ذكرياتي هنا ، وهناك ذكرياته هو، وبقية أحلامه ، وعلينا أن نعود لالتقاطها من الغربة (الوطن).
*كاتبة وروائية ، إعلامية ومدربة في تطوير الذات والتنمية البشرية