قصّتي مع الحبق
بقلم / أ. خولة سامي سليقة *
كانت الشّرفة على الدوام مصدر فرحٍ لها ، المستطيل المملوء هواءً و أملا ،تتنفّسُ عبرها ،تبوحُ بما يعذّب الصدرَ ،حيث تخرجُ الكلمات بلا رقيبٍ و تجفّ الدّموع قبل أن يلمحَها الآخرونَ ، كثيرا ما جلستُ مع جدّتي وقت الغروب و بعده ،حين كانت تطلب مني أن أساعدها في الخروج إلى الشّرفة ، و قد صار الجو ألطف و المنظر أكثر جمالا رغم
ضعف نظرها ، لكنْ لترويَ لي خذلانَ الماضي و انتصاراته ، كنتُ أهيئ كرسيّها الضّخمَ قريبا إلى حافةِ الشّرفة ،لتتمكّنَ من الرّحيل بعينيها بعيدا دون رقيب ،و تكونَ أقرب إلى أحواضِ الزّرع الصّغيرة التي ملأتها حبقا.
بين الحديث و الحديث كانت تطلب منّي أن أمرّر كفي فوق شـجيرات الحبق المشرقة خضرةً و أهزّها قليلا ،كانت تفوح عندئذ رائحة العطر الزّكية في أرجاء المكان لكأنها دفقة موج مجنون ، و علّلتْ طلبها هذا أول مرّة ، بأن في الحياة أشياء رغمَ صغرها فهي بمثابة غرفة إنعاش للقلبِ و الروح و الذّاكرة ، فإذا ما احتجت دما صارتْ لك دما .
و لتزيدَ الأمر وضوحا شـبّهت شجيراتِ الحبق بأناس رائعين قاسـموك رحلة الحياة أو مازالوا يعبرون ، فإنْ مرّوا على الخاطر طبتَ روحا و نفسا و على محيّاك ارتسمتْ ابتساماتُ الرّضا ، فعبقهم لا ينتهي ، يزيدونك قوّة و رغبة في الحياة حين يكونون دليلا دامغا على وجهها الناصع ، و أنّه ثمّة خيرٌ ، حبّ ،نقاءُ ، إنسانيةٌ بعد . تغيّرتِ الأيامُ فما عاد هناك شرفاتٌ تعانقُ المغيب ، و لا كرسيّ الخيزرانِ الكبير ، ما عادت جدّتي و لا الحبق ينتظران أصابعي ، لكن في الذاكرة مساحة نديّة ما زلت أحرّكُ حبقَها الخفيّ بكفي ، أستحضرُ كلّ من كانوا على المدى مبعث فرح لروحي ، أستعيرُ أسـلحة الجداتِ في حرب الحياةِ و الغربة الّتي لا تتوقّفُ .
* كاتبة وشاعرة