رائحةُ التّانغو و غيرُها
بقلم / خولة سامي *
في هذا المختبرِ الصّغيرِ الذي ندعوه مجازاً جسداً ،تحدثُ الكثيرُ من التفاعلات و الانفجاراتِ بعد موجة غضب ، أو الاحتراقات عقب غيرةٍ أو فقْدٍ ، الاتحادات ،
الانفصالات بُعيدَ شوقٍ جارف ،و هلمّ جرّا من الكيمياء و الفيزياء الغريبة ، بعضها يتّخذ الهدوءَ لغةً و الآخر ليس بوسعه إلا الضّجيج في الأوردة و على السّـطوح ، يلوّنها يعبثُ بها ليخرجَ ظافراً .
و ما الروائح إلا بعض المؤثّرات المحفّزة لعمل هذا المختبر الصغير ، حتّى أن الطب دشّن فرع طبّ الروائح رغبة في التوصّل إلى البصمات التي تخلّفها الروائح على العقول و النفوس ،إذ لا ينكرُ أحدُنا مثلاً أنّ الأبخرَ يستطيع نيلَ مراده و الحصول على أية موافقة يريدها ،حين يتوقّفُ عقل من يقف أمامهُ مضطراًّ إلى إنهاء الأمر بأسرع وقتٍ ممكن لعدم قدرته على الاحتمال ،و إن يكن الأمر حالة مرضية لكنها سهلة العلاجِ و الحلول غدت متوفرةً .
و أذكر جيداً عندما عشتُ مدة في روسيا ، كان في الجزء الخلفي من البناء الذي نقطن فيه مخبزٌ كبيرٌ ،رغم عدم اكتراثي للخبزِ و المعجنات بأنواعها و شبه المقاطعة لها في الآونة الأخيرة ، إلا أنّ عطر الخبز كان يملأ رئتيّ صباحاً كلّما عبرتُ الحديقة الكبيرة أمام منزلي ،و خُيّل إليّ مراراً لو أنّهم صنعوا عطرا برائحة ( الصّمون الطازج ) لأكوننّ أول من يشتريه ، ما استهجنت عندما قرأتُ أن روائح بعض النباتات قد دُرست كرائحةِ النعناع ليجدوها تزيدُ التركيز و تنشّط العقلَ بصورة عامة ،رائحة الفانيليا مثيرة للراحةِ النفسية محفّزة للسعادة ،رائحة القرفة تزيدُ كفاءة القدراتِ العقلية ، و غيرها و غيرها ... و أذكر أن اهتمامي بالأمر تولّد منذ زمن بعيدٍ بسبب السعادة التي كنت و ما أزالُ أشعر بها عند نزول المطر ،تتسرّب إلى روحي رائحة الترابِ المبلّل ،أتخيلهُ طفلا جميلاً شهيّ القبلة بعد الاستحمام ،أتنفسُ ملء روحي مغمضة عينيّ طويلا ، أفتحُ النوافذ ،أتوهُ بعيداً و لا أسمعُ إلا وقعَ أقدام المطر . فإنْ طالَ اشتياقي إلى تلك الرائحة وجدتني أحفرُ التربة قليلاً ،أفتحُ الطريق لتلك الرائحة الغافية لتخرجَ خادشة ذاكرة المطر عندي ،قيل لي إنّ السّر كامنٌ في بكتيريا الإكتينومايسيتات
و عائلتها ، حيث تنشرُ رائحتها بعد أن يهطلَ المطرُ على تربةٍ جفّ أعلاها طويلا ، يساعدُ في انتشار الرائحة تلك بخار مياهِ الأمطار المنطلق من الأرض الحارة ،أو الرياح أو عوامل أخرى ،ليس مهما أيّا كانت لكنّي أطلقُ عليها رائحة الحبّ ،رغم أنّ تحلّلَ الهورموناتِ في الجسم و خروجَها عبر العرق ،ثم تفاعلَها مع البكتيريا الموجودة على البشرة ليكوّن الفيرمونات التي تسهمُ في الانجذاب بين الجنسين ،هو ما يطلق عليه الباحثون رائحة الحب ،و أعتقد جازمةً أنّ لكلّ منّا ذاكرةً عطريّة أو غير عطرية معيّنة تثيرُ فينا الحبّ كما نراهُ نحن و تفهمه أجسادُنا بلغاتها .
يا سادة البحثُ العلميّ شيءٌ و مختبرات أجسادِنا شيءٌ آخر لا يعرفه إلا نحنُ ، ففي رواية (رائحة التانغو ) للكاتبة دلع المفتي تمثّلَ الإحساسُ الجميلُ بعطر رجلٍ ،تجسّد في شخصهِ وطنٌ كاملٌ و أنموذجُ رقصٍ تعلّق برائحة قميصهِ الأزرق ، قد لا يكونُ هناك أية ميزةٍ لما نخزّنهُ في عقولنا حولَ الرائحة ،لكنّ العقلَ له قوانينُه أيضاً ، له لحظاتُه التي يشدّنا فيها من أعناقنا باحثينَ عن الماء في التربة كجذرٍ ظامئٍ ،أو هاربين بعيداً كساقٍ تعدو صوبَ الضّوء ، لعلّ نزار قباني فقط من توصل عقله مبكراً إلى فاكهة الحبّ فقال :
للحبّ رائحةٌ و ليسَ بوسعها ألّا تفوحَ مزارعُ الدّراقِ .
* كاتبة وشاعرة
2 pings