فلان ( سلك السماعة )
بقلم الأستاذ : أحمد النجار *
أكثر شخصية خصبة يعشقها الروائي - في ظني - وتساعده كثيراً في تكثيف السرد لروايته هي الشخصية المزاجية المُعقدة المُضطربة , ومع أنه في علم النفس كل سمةٍ من هذه السمات التي نسبناها للشخصية تُعتبرُ مختلفة اختلافاً كلياً عن الأخرى , فالمزاجية غير المعقدة وهي بالتأكيد غير المضطربة , ولكنها للشخص الغير مختص تُعتبرُ سماتٍ واحدة لافرق بينها لشخصية إنسان - ذكر أو أنثى - يضطر للتعاملِ معه فيؤذيه مزاجيته الحادة وتعقيده الغير مقبول واضطرابه الغير مبرر بالنسبة له وتقلبه الشديد ..!! فتراه يشتكي من شخصٍ ما في حياته قريباً أو زوجاً أو صديقاً أو ربَ عمل فيقول : لقد أرهقني وضغط على أعصابي بشكلٍ لايُطاق , فما عدتُ أدري كيف أرضيه ولاحتى كيف أتجنب غضبه وانفعاله وردود أفعاله العدائية على أسبابٍ هو من يتخيلها وليست صحيحة أبداً ؟!! هذا الشخص بات كأنه ينتظرُ بفارغ الصبر أي خطأ يصدرُ مني حتى ولو كان بسيطاً وعادياً وغير مقصود لينفجر في وجهي مُعلناً غضبه العنيف وشانأً حرباً شرسة ضدي لاتنتهي ..!! وحتى ولو لم يجد هذا الخطأ فهو يملك قدرة مُدهشة على التفسير الخاطئ لأي سلوك يصدر مني ولأي كلمة أتفوه بها ليحولها إلى خطأ ثم يبدأ في معاقبتي على هذا الخطأ الوهمي مُدمراً كل جسور المودة وناسفاً كل إمكانية لعودة العلاقات الودية والصحية بيننا ثانيةً وهو - وفي نفس الوقت - لايتردد لحظة في استخدام أي سلاح ضدي مهما كان هذا السلاح قذراً وسافلاً , ماسحاً - وبكل عندٍ وتجبر - كل ذكرى جميلة كانت بيننا , ويستمرُ الشاكي في القول بأن هذا الشخص حيره في تقلبه ومزاجيته ففي فترة تكون العلاقة بيننا في أعلى مستوياتها وأجمل أحوالها , وفجأة ودون مقدمات أتحول من شخصٍ مُقربٍ له إلى عدو مبينٍ وجبَ حربه وقتاله وتصفيته وقطع كل علاقة معه , ويبدأ في نقل كل هذا إلى من حوله ناشراً ثقافة العداء والحقد والكراهية والسواد , فأتفاجأ به يحاول أن يؤلب حتى أولاده ومن حوله ضدي ويطلب منهم مقاطعتي وكراهيتي , فيفعلوا ودون أن يعلموا إلا الأسباب الغير صحيحة التي نقلها لهم هذا الشخص ..!!!
وأقول للشاكي - وغيره كثير - هذه الشخصية شخصية مريضة للغاية وتحتاج لتدخلٍ علاجي عاجلٍ , وأقرب وصفٍ أستطيع أن أصف به هذه الشخصية هو سلك السماعة Earphone , فسلك السماعة الذي نضع طرفه في جهازنا والآخر في أذننا , تقومُ بلفه جيداً ووضعه في جيبك تم تتفاجأ به عندما تخرجه ثانيةً بأنه قد ألتف وتشابك وتعقد وتحتاجُ وقتاً طويلاً لتفكيكه ثانية ..!! هذه الشخصية - في الغالب - هي مزيج من عُقدٍ قديمةٍ واضطرابات متراكمة ويزيدُ الطين بلةً أن تكون هذه الشخصية متضخمة متعاظمة لاتقيم إلا للأقوياء وزناً وقيمةً ولاترى إلا نفسها , وفي الغالب أن تكون هذه الشخصية حقودة حسودة غيورة للغاية ..!!!
والتعامل مع مثل هذه الشخصيات مُرهق ومؤذٍ للغاية وعلاجه صعب ويحتاج إلى وقتٍ ليس بالقصير وجهدٍ ليس بالقليل , ولابد أن يتخذ هو الخطوة الأولى في أن يبدأ في التغيير وطلب إصلاح ذاته وتحسين نفسيته ليستطيع الباقون من حوله مد يد العون له , وهذا الشخص يضر نفسه ومن حوله في المقام الأول ضرراً شديداً , ولايعني بالضرورة أن يكون هذا الشخص سيئاً البتة ولكنه مريض ويحتاج إلى علاج وهذا كل مافي الأمر ..
ولابد لمن حوله أن يكون لهم دور فاعل في الإسهام في علاجه ودعمه ليعود إلى رشده عن طريق وسائل شتى , ولكن من يحتك به إن كان مُضطراً لذلك لأي سببٍ من الأسباب فلابد أن يبدأ في تنبيهه والحذر في التعامل معه وإلا فليبتعد عنه وليجعل علاقته فيه علاقة رسمية للغاية دن أي تداخلات جانبية منعاً لحدوث مالايُحمَدُ عقباه ..!!
كما أن الاحتكاك المباشر بمثل هذه الشخصيات خطرٌ على الشخص المُحتك نفسه , فقد ينقلُ إليه كل سماته دون أن يشعر أو قد يحوله مع الوقت لشخصية عدائية هجومية , وأذكر أني قرأت في رائعة الفيلسوف الفرنسي البلغاري (تزفيتان تودوروف ) ( الخوف من البرابرة ) :
إن الخوف من البرابرة هو الذي يُخشى أن يحولنا إلى برابرة والسوء الذي نتسبب به لأنفسنا سيتخطى السوء الذي كنا نخشاه في الأساس , إن التاريخ يعلمنا ذلك , يمكن للدواء أن يكون أسوأ من الداء ..!!
مع أن ( تزفيتان تودوروف ) هذا هو الذي أعلن وفي الرواية أن مفهوم الشخصية هو أكثر المفاهيم غموضاً وأنها لم تحظ بدراساتٍ كافية , إلا أن مقولته التي ذكرها في رائعته توفر لنا جهداً كبيراً في دراسة الشخصية على مستوى الفرد العادي والغير متخصص ..!! فإن لم تجد حيلةً إلا الابتعاد عن هذه الشخصية والتحفظ معها فافعل وستكون أنت الرابح الأكبر ، فخوفك من البرابرة - حقاً - قد يحولك إلى شبيه لهم ..، هذا مجرد خوف قد لايكون له مبرر فما بالنا بالاحتكاك المباشر مع شخصية ( سلك السماعة )؟!!
** لايُقصد بلفظة البربري الإساءة بل الإشارة إلى اختلاف الثقافات والحضارات ..
1 ping