خلف الأبواب المغلقة
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
" أطرقُ باباً أفتحهُ لا أبصرُ إلا نفسي باباً أفتحهُ أدخلُ لا شيء سوى بابٍ آخر يا ربي كمْ باباً يفصلني عني . "
عدنان الصائغ لم يفتح باباً بل عاصفةً ، و ما أكثر الأسئلة التي تحلل و تفكك عملية الكتابة ، فحين تكون موجّهة نحو الآخر في الغالب ثمة فسحة ممتدةٌ و قيودٌ تزداد ثقلا ،لمن تكتب ، ماذا تكتب ؟ متى عليك أن تكتب و كيف تكتب ؟ لماذا تكتب و إلى مدى ستمضي في الكتابة ؟ فيض أسئلة تجد إجابتها أثناء سيرها و تسقط أحيانا في حفر موحلة لا مخرج منها ، لكننا متفقون مع بوكوفسكي حين يدعو إلى الكتابة في حالات خاصة ، كقوله :
إلا إذا كانت الشمس داخلك تحرق أحشاءك
لا تفعلها ..
وحدها الكتابة للذات و من الذات و بالذات تغدو في الظاهر بسيطة ،حين تجفف عرق نهارك على ورق يطلقون عليه مذكرات شخصية أو المذكرات اليومية ، تحبس فرحاً عارضاً بين دفتيّ دفتر ليحفظ عطره ،أو ليظلّ جمر الفكرة متقداً أحيانا يذكّرك بجرح لا تأمل أو لا تريد له نسيانا ، بحثاً عن شفاءٍ عزّ على وجه البسيطة ... لكن ليس الأمر سهلا البتة كما نتخيل ، ليس سهلا اختصارُ الأرواح في سطور حين يكون الكلام متاحاَ بلا حدود و المدّ مؤهّل للمضيّ نحو اللانهاية ، حين يكون بإمكانك السير عاريا فوق السّطور دون أن يلمح أحد عورتك أو يتفقّد خيوط أثوابك الشّفافة من وهم ، تتشمّس تحت أشعة أحزانك ،تعلّق قمصان الخيبات في وجه الريح و تغفو بليداً موجَعا .. لكن ماذا لو كان بإمكان أحدهم التلصّص على قلبك من فجوة لا تدركها أو لم تحسب لها حساباً ؟ أن يسترق النظر إليك و أنت تستحمّ بآهاتك و في حضرة تأملاتك ؟ أن يكون بإمكانه الاستماع إلى تسجيل حيّ لأحداثِ قصتك الخاصة ساعة أراد ؟ ماذا لو ... ؟ إذاً هل كتابة المذكرات الشخصية حقّ غير مشروط و لا مرتبط بضوابط ما دمنا نكتب لنا ؟ هل كنا سنتخلى عن هذا الحقّ إنْ علمنا أنه سيغدو يوماً
سلاحاً موجّهاً نحو صدورنا ؟
باسكال ديسان الذي تناول في روايته ( بعيداً عن البشر ) محاور عدة ،مرّر بصورة عابرة فكرة الشّاب الّذي وجد المذكرات اليومية لبطل الرواية ، بعد أن قامت أخته برميها في الحاوية انتقاماً منه فعاش آلام البطل ، حمل قضيته دون معرفة تفاصيل الأمر فإذا به يعبث بما بين يديه من أرواح كانت يوما مجرد كلمات على سطور ،لا ينتظر سماع الأطراف الأخرى و من وردت أسماؤهم في الصفحات ، يطلق أحكامه ثمّ يأخذ بثأر بطله - الذي لم يقابله يوماً - على طريقته ، منتقماً لنفسه ،لحياته البائسة المسيّرة بفعل الفقر و سطوة الأب القاسي .. فما أضعفنا حين نعجز عن إيقاف الظلم نتحوّل إلى وحوش يصحو الظلم النائم فيها .
الغرب بصورة عامة يجد فكرة المذكرات شافية للنفس و فرصة للجلوس مع المتاعب و الآلام على طاولة الهدنة ،كما أنها ليست مبعث خوفٍ لأن خصوصية المرء مُصانةٌ محفوظة إلى حدّ كبير ، و لا أحسب هذا متاحاً في بلادنا لنسكب أرواحنا على بياض الورق و ننام هانئين خلف الأبواب المغلقة .
* كاتبة وشاعرة