طقوس الوداع
بقلم / خولة سامي *
ترى أيختلف الدمع أثناء الغضب عما نذرفه شوقاً و حنيناً ؟ هل تشبه الدمعة المتساقطة جرّاء المرض ،تلك التي تعدو على الخد إثر جرح عاطفيّ مثلاً ؟! ماذا لو أننا لا نستطيع البكاء ؟ هذا و أكثر بكثير ظل يتنازعني و أنا أعاتب من اخترع الطائرة و أوجد المطارات ،
من جعلني أغتسل بدمعي عاماً قادماً بل أكثر ،ثم أعود لأخفف عن نفسي الأمر أن الرحيل وجد قبل أن نعرف الطائرة و تُقام المطارات ، فلطالما ابتلعت الرمال و الفيافي خيالات الأحبة المغادرين و أخفت البحار الممتدة تلويحات المغادرين بلا إياب ، و ألفيت نفسي أردد و الدمع يقاسمني الهواء :
مناديل من ودعت يخفقن فوقهم فلا ترهقيهم يا سفينة أقلعي
أسابيع مرّت جفّ فيها الماء و ظل ملحه ، هدأت النفس قليلاً غير أن القلب لا يزال مبتلاً بأصواتهم ،بضحكاتهم ، صارت المطارات تأخذ قلوبنا قطعة تلو أخرى و نحن الواقفين على شفير الانهيار نحرك أصابعنا وداعاً فقط ! تشتتاً و حيرة ليس إلا .. أهو قدر العربيّ أم أقدار أكثر منه سوءاً تقذف بنا إلى الهواء إلى الماء إلى الأرض الغريبة الممتدة بلا آخر ؟
المؤسف أن أحلامنا في الحياة أصغر بكثيرٍ مما يتخيلون ، بل باتت تتضاءل حتى أصبحت بيتاً صغيراً أمامه شجيراتٌ و زهرٌ هنا و هناك ،و عصفوران يحلمان أحلاماً صغيرة أيضاً ، لا نريد سماء لا تصفو و ماءً لا يعرف النقاء و أرضاً تغلي ، أيصير أن نقول كفى ؟!
أيحقُ لنا أن نصرخ بعض الصراخ بأدبٍ جمّ و نطالب بموتٍ أكثر كرامةً؟! نسيَ أطفالنا من أين أتوا ، ما عاد يذكرون أرضهم ، و أطفال اللجوء يجيبونك ببراءةٍ إن سألتهم عن هوياتهم ،أنهم أطفال مخيم كذا ! تخيلوا حتى أوطاننا انكمشت أحلامها لتصير بحجم خيمة ، بات العراء فسحة آمالها و آلامها ، العالم يمشي قدما في اختراع وسائل الرفاهية و نحن الشعوب البائسة نحيي عصور ما قبل الحضارة .
وجوهنا غدت مألوفة للجميع ، ملامحنا الموزعة على أقطاب الحزن مميّزة ، و أحلامنا الموؤودة تنوح في محاجرنا ، لم يبق في جعبتنا ما نقوله لمن سيأتون بعدنا ،نفد الكذب ، نفدَ التسويف ،نفد الغد الذي خبأناه في الجيوب طويلاً ..
ماذا نقول للآتين ، لمن حسبونا شجراً لا تقتلعه الرياح ؟ أعلنّا الإفلاس يا مطارات العالم كلّه ، أعلنّا الحزن الدائم فما عاد هناك من حزنٍ أكبر، أعلنّا الصمت فقد مات الكلام بقذيفة كبيرةٍ كبيرة .
* شاعرة وكاتبة
2 pings