أين ضاع قلبي ؟
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
أرقب القمرَ فزِعةً ،فكلّما اكتمل فارَت ركوة القلب و راحت القهوة الساخنة تخُطّ مسارات جديدة ،أمامي على الطاولة خيالات لا تُحصى و قطارات أحاديث سريعة و فنجان يتيم . عندما كنّا صغاراً لم يخبرونا أن اكتمال القمر ثورة صغيرة تحت جلودنا ،أن موج الدم يتلاطم فينا بلا هوادة ،أمزجتنا تتقلّب .. نزداد عنفاً .. نكسر القشرة و نخرج هاربين ،و كل تمام صار في أيامنا فراراً جديداً ،تُرى لو عرفنا أنّا خلف دورة القمر تلك سنكبر .. سيكبرون ، أكنّا لعبنا معه لعبة الانتظار تلك ؟
في ذلك الزمن رأيت مموزين آخر الحب بل نهاية العالم ، لمّا مضيت أبعد من الضفائر ظللت أرقب بتوجس أكف الحيارى تبحث عن لقاء خاطف ،أتسقّطُ همسات الجالسين على مقاعد الشوق ،أتلهف إلى تأمل قهوة العاشقين لعلها تشبه شيئاً لم أره ،أبحث عن فيروز و القهوة الجاثية على مفرق لا أصادفه ،أغمض عينيّ لأشرب عينيّ حبيب يشرب قهوته كما أخبرتنا ، أطارد صوتها في اللهب المتبختر بصلف ،أتخيّل الخطوط القابعة بصمت كيف ترسم طيرين و عناقاً من نشيد ، تتعثر قدمي هنا فوق الشارع المرصوف حجارة ندية زرقاء و وقع الأحلام يتلحّف الفرار من زقاق إلى زقاق قبل يقظة العيون ..
أتعبني السّلم الموسيقيّ ،أكلتني الكتبُ جعلتني أعيشها ،نهشت راحتي قصصُ الناسِ و رواياتهم ،أكونُها أكونهم أعدو معهم ،أرافق قلق حروفه و صرير قلمها و أبكي معها ، معهنّ .. من هم ؟ من كل هؤلاء ؟ لا أعرفهم .. لكنهم جميعاً أنا !
كبرتُ و لازلت أشارك الجميع بكاءَهم ،يرقبني ابني أقرأ فأبكي ،أشاهدُ فيلما عن رواية عظيمة أو أستمع إلى أغنية رقيقة فأبكي .. يتعجبُ لمطرٍ لا يختار فصلاً يرتاح فيه .. و أسألني أكبرتُ حقاً و كبرتْ كلّ السّـواقي معي ؟!
في عمّان مساءً أخذتني النافذة بصورها الغريبة فتوجهت إلى المقهى ،أمامي شارع ممتد و فضاء من الأحاديث الغريبة ،رحت أرقب عيون الصبايا و الشباب تجوب المكان تبحث عن أشياء كثيرة ،رغم ما فيها من فراغ شاسعٍ ممتدّ بدت حالمة تغزوها صورٌ خضراء بلا سياج ،أشفقتُ عليها ، أشفقت على قلبي الذي ما كان يبصر إلا غياباً .. كيف كبروا و متى كبرنا ؟ متى توقفتُ عن الحب و أين ضاع؟
لكني رهينة الدمع بعد .. إذاَ ما مات قلبي بعدُ ،ثمة أمر آخر حدث في داخلي ،أتراه..؟ لا بل هو الحبّ ، حرّ من كلّ قيد و أسمى من العطف المذلّ و أعلى من العطاء المجنون ،كان عليّ أن أمضي صوب الشيب بخطى واثقة لأعرف كيف يكبرُ الصغارُ معَ القمرِ ليصبح العشّ الدافئ خالياً من لهوهم و شغبهم ،أن أفتقد فوضى المكانِ لأدرك أنّي بتُّ وحدي ،لو أنّي سألت الآباء عمّا يفعلونه بعد أن ترفرف الأجنحةُ الفتيّةُ بالأحلام بعيدا ،بعد أن تغدو الغرفُ باردة ،خالية من ضحكات الصغارِ و رائحة الحب ، لو أني سألتُ كفّ أبي و تجاعيد الحزنِ تحت عينيه .. ما الذي تغيّر ؟
القهوة أمامي اللهب يخنق الصّور ،و الذاكرة الكسيحة تتلوى ،و أنا ما عدت أنا ! تسكنني أمٌّ تخشى مسرح حياةٍ ما عادت تملك مفاتِحه ، تضيقُ بمقاعدِ المتفرّجين و قد اعتادت أدوارَ البطولة ،تهذّبَ ذلكَ الحبّ الأرعنُ ،ذابَ ،انصهرَ ،و أسّ الحياةِ باقٍ هنا في زاوية قصيّة من الصّدر ،تتلمّسهُ جذعاً يزدادُ ضخامة ،ما عادتِ الذراعانُ تحيطانِ خصره .
* كاتبة وشاعرة