حقيبةٌ منسيّة
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
لا تخبروهُ أنّي في معظم الصّباحات أحبّه ..
لازلتُ أحتفي بهجره بكاملِ أناقتي و رشاقةِ عبرتي ، لازلتُ أنفض الغبارَ عن العبارات المذهّبة التي يغصّ بها أكبر فم جائع إلى الحبّ .. إلى النار .
في ذلك الصباحِ سمعتُ همساتهم ،تجاهلتها باستكبار كما هي عادة رأسي ،حملت حقيبتي مبتعدة أنتظرُ وصوله إلى المكانِ الذي ما كان يخلو منّا كل مرةٍ أسافر فيها ، بينَ الناس جميعاً و في الأحداق وحدنا .
على حافة الطاولة وضعتُ حقيبة يدي و قربَ النافذة حقيبة سفري السوداء دائمة الترحال ،غرقتْ عيني اليمنى وحدها بدمعها و اليسرى تكابرُ حتى وقعا تحت دويّ الألم معا ،لم أكن أريدهُ أن يقول شيئاً فربما ما سمعتهُ كان صحيحاً .. لكنّ صمته يدميني من صوبٍ آخر و الأفضلُ موت واحد ، ، ، أضعتُ السبيل حقاً ،هوانٌ و تستّرٌ بعد صمتٍ أم طلقةً واحدة في عنقِ القلبِ و كفى ؟!
مسحتُ ما ضاعَ على قسمات وجهي من أيام بهتتْ ألوانُها ، شبكتُ أصابعي أدّعي صلابةً خلعَ القهر جذورَها ثم اعتدلتُ في جلستي ،فأخرجَ بخفّة لصّ خاتماً من جيبه كان قد خبّأه ، وضعهُ في إصبعه بهدوء لا نهاية له ،قال : نعم ، ما سمعتهِ صحيحٌ .
الإجاباتُ الصغيرةُ كافية لسدّ جحيم الغضبِ على الأغلب ، حين تدفعكَ من الشّـرفة لتلقى الفراغَ تحتَ قدميك ،نسيتُ الحممَ التي كنت أنقلها تحتَ ثيابي طوالَ طريقي إليه، نسيتُ أن أخبرهُ أنّي اخترتُ ثوبَ الزفاف بعد آخرِ لقاءٍ لنا ،أخبرتُ صديقاتي أنْ ينفرنَ إلى الأسواقِ لشراء ما يلزمهنّ فقريباً زفافُنا و لابدّ أن يكنّ أميراتٍ إلى جانبي .
غبيةٌ هي الذاكرةُ عندما تحمرّ خجلاً و تكون أكثرَ غباءً إن اشتعلتْ غضباً لكنني ما كنت غاضبة ، أو كنت كذلك ،أو تلك الصدمة ، أو .. لا أدري .
وقفتُ نخلة جريحة ترى الصّحارى ممتدّة أطولَ من جرحها ، رحتُ أجرّ حقيبتي السّـوداء خلف جثتي ، المسافةُ بعيدةٌ و طريقي إلى الغرفة التي أقيم فيها يحتاجُ أن أستقلّ سيارة لكنْ لمَ أحتاجها و قدمان بلا دماء معي ؟
لا أستطيع دخولَ الغرفة بهذه الهيئة المزريةِ ،هذا الدمعُ ينتحرُ ملقيا بجسده من كل صوب حتّى أطراف شعري ، كيف أدخلُ البناء أمام الفتيات هناك و الموتُ أجمل مني ؟ لن يكون بمقدورهم تفسير ما حلّ بي و ما أحسّه لا يفهم الأحياء وجع القبور أبداً ، إذ يخلفونها بعدهم ،فإن عادوا إليها حملوا حياة تشبههم و وردا ، يجملون الفكرة إلى أبعد مدى ليسهل مضغها ، سرت ، سرت كثيراً قرابة ساعتين و نصف ، بعض السيارات العابرة لمحتها تتمهل قربي ، لربما وصلها صراخي الذي سال على خديّ صريحاً ،أخبئ وجهي تارة بكفّي و بشعري تارة أخرى ، حقّاً البحر لا تغطي وجنتيه مظلة !
وصلتُ فارغةَ الألم تماماً ،في رأسي مطحنةٌ غارقة في ضجيجها ، فقدتُ أفكاري كلها أبيضَها و أسودَها خلال المسير الطويل ،لا أشعرُ بالعطش ، لا الجوعِ ، لا البرد رغم أنّا في كانون الثاني ،ألقيتُ التحية على الجميع أثناء دخولي ، ابتسمتُ لهم فمَ جرحٍ ينزفُ ، رددت تلويحاتِهم بأعواد يابسة ثم أوصدتُ بابي و دخلت ،قررت أن أبدّل ثيابي ،رفعت يدي لأجد حقيبتي السوداء الصغيرة فقط .. ماذا كنت أجرّ خلفي إذاً ؟
أكلُّ هذا الثّقل كان حقيبة يدي الصغيرة ؟ ثيابي و أغراضي كلّها .. المشروعُ الذي سأناقشه غداً ..؟
سأنساهُ بعضَ الصباحات إن غلبني النعاس ،أعرفهُ سيزاحمني فسحةَ الأحلامِ أيضاً ، لا تخبروهُ أوصيكم ، لعلّه لا يدركُ معنى حياةٍ بلا ذاكرةٍ أو سفرٍ و حقيبة منسيّة .
* كاتبة وقاصة
8 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓