أيّها العام الجديد
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
أن أغدو ناضجة بما يكفي و أتطلع إلى واقعي فقط بعيداً عن الأحلام ، أن أمزّق كل رسالةٍ كاذبة كتبتها إليك أو خبأتها في انتظارك ، أن أحفظ قصّتنا في ثنايا الروحِ ، أن أفتح النافذة التي أغلقتها بأخشابٍ متينة بعد آخر تلويحة لك ، أن ، أن .......
وعدتك و وعدتك و بعدها تلاشى كلّ شيء ، الوعود من جنس الهواء أمّا الحبّ فهلاميّ ، لكنهما يلتقيانِ خلف أعيننا و حتى اللحظة لسنا على علم بحقيقة ذاك اللّقاء .
اليوم في مكتب المحامي جالسةٌ أنتظرُ الدخول ، معي أوراق أودّ لحظاتٍ أن أمزّقها بدافع كرهي لك ، ليس كرها بل غضبٌ يشتدّ أوارهُ حيناً ، متوترة أقلّبُ ما عانيته خلال سنوات عمري ترتجف رجلي اليمنى من الفخذ حتى الأصابع نابضاً لا يهدأ فيهتزّ الكرسيّ معه ، راح الوقت يمرّ ثقيلاً و قد فرغ المقعدانِ المواجهان موضع جلوسي أنا و سيّدة خمسينية تقلّب مجلّة بين يديها ، أنيقة بمعطفها و شعرها البنيّ القصير .
راح دمعي يهرب من عينيّ فزعاً مما رآه في سجن خاطري ،أحسست دفء يد السيدة التي تجاورني يملأ ظاهر كفي ،نظرت إليها فألفيتها تلقي عليّ التحية ( السلام عليكم) مغمّسة بابتسامة هادئة ، رددت التحية بالطابع عينهِ و وجدتني أعتذر إليها عن توتري الذي نقلته ربما إليها باهتزاز المقعد طوال الوقت ، أشارت بيدها متبعة الحركة بقولها لا لا ، اطمأن خاطري قليلاً أنها لم تتأثر ، حرّكت الظرف في حجري ببلاهة أدعو نفسي إلى حديث لا تحتاجه هي و لا غيرها ، قلت : حدث ذلك قبل عشرين عاماً و نيف حين كان معلّمي في مادة اللغة العربية و كنت تلميذته قبل أن نتبادل الأدوار ، لم أخبر أحداً قصّتنا كما وعدته لكني اليوم لا بد أن أبوح و إلا سأموت ، هزّت رأسها و التفتت إليّ بودّ فرُحتُ أحكي : قدمَ إلى بلدتنا معلّماً جديداً و كنت تلميذة في المرحلة الثانوية ، مخطوبة لابن عمّ لي هاجر من أجل العمل و نويت انتظاره فما عرفت في مراهقتي سوى حبّه و انتظاره .
لم يبدِ معلّمي يوماً اهتماماً خاصّاً بي ،مهذّباً محترماً رأيته كما رآه غيري أيضاً شاعراً شغوفاً بالشعر و موسيقاه ، مرهف الحسّ لا يعلو صوته غضباً ،تعلّمت منه الكثير إلا حبّ النحو أعياني حتى اتهمني أني أخذت في طفولتي إبرةً ضدّ النحو . تنهدّت بعمقٍ فحركت السيدة قربي رأسها ، عادت تضغط بتعاطف على أصابعي ، أخبرتها أنه مع نهاية الصفّ الثاني عشر كانت علاقتي بابن عمي رسميّاً قد انتهت عقب رسالة أعلن فيها عدم قدرته على الاستمرار في ارتباطنا ،حتى سقطت في حفرة الألم و الخيبة رأيت الحياة فارغة و قد أخذ معه الكثير من الأحلام السابقة و العالقة.
شجعني الجميع على إكمال دراستي الجامعية فدرست اللغة العربية التي ما أفلحت فيها قطّ ، التقيت معلمي في الجامعة خلف حجج مختلفة قدمها و أقنعتني أثناء عطالة عقلي و قلبي عن عملهما ، مرّ العام الأول كان فيه إنجازي في الدراسة متعثّراً فحاول تقديم المساعدة من جديد ، خلال لقاءاتنا المتكرّرة عرض عليّ صندوقاً فاجأني محتواه ، إذا هي رسائل و قصائدُ كتبها إليّ واضحة التاريخ تعود إلى العام الذي كنت فيه طالبة عنده ، كان يحلم أن أكون له و لا يجرؤ في ظل الظرف آنذاك على الاقتراب مني ، الأروع أنه لا يزال يكتبها متأملاً لقائي بعد أن علم أني ما عدت مرتبطة بأحد .
تزوجنا ، أنجبنا بنتاً رائعة و صبيّاً ، سافرنا .. لكن وجع الماضي لازم قلبي حتى أخذني العمل في المغترب لا أرى إلا المال و اللهاث خلف الأحلام ، نسيت زوجي واجباتي بيتي ، نسيت من كان هذا الرجل و من يكون عندي ..
طفح به الكيل عائداً إلى الوطن يخيرني بين العودة معه أو البقاء هنا وحدي ،أمهلني حتى صباح الحادي و الثلاثين من ديسمبر ، بعدها رجاني إن اخترت البقاء أن أطلب الطلاق عبر مكتب محاماة و أرسله إليه .. لا يطيق أن يبادر به .
قاطع حديثي صوت موظفة الاستقبالِ تتحدث بلغة غير مفهومة ، تشير نحو السّيدة التي تجاورني لتردّ عليها الأخيرة و تنهض باتجاه المكتب بعد أن هزت رأسها مودّعةً مبتسمة .. صعقتُ ، جاهدت النفس لأسأل الموظفة عن الأمر ، جاءني الرد صادماً أنها برازيلية تتحدّث البرتغالية و أنها لا تعرف من العربية إلا نعم و لا و السلام عليكم !
وقفت أضحك ، أضحك ، أضحك ..
حملت الظرف أمزقهُ منصرفة بعد أن اعتذرتُ من الأخيرة على هيستيريا ضحكي ، سعادة في أعماقي لا توصف ، الطريق كانت خالية من كلّ زحام و الزينة فيها أخاذة حتى السيارات بهدوء لافتٍ عبرت أمامي ، أما حقيبتي كان سهلا للغايةِ إعدادُها لأكون مع من أحب .
لعلّ العام القادم استثنائيّ بامتياز ، عام خيّرٍ يختلف عن كلّ أعوام عمري ، صان سرّ لقائنا بأمانةٍ حين كدتُ أفشيهِ ..
أحبك أيها العام الجديد .. أحبّ الكون كلّه .
* كاتبة ، و قاصة