فن الترسل..ماذا بقي منه؟
بقلم الأستاذ / حميد الأحمد *
يقول جورجي زيدان في كتابه(تاريخ آداب اللغة العربية) :
بدأت الكتابة بعبد الحميد، وانتهت بابن العميد.. ويقصد بذلك عبد الحميد الكاتب كاتب آخر خليفة أموي وهو مروان بن محمد في القرن الثالث الهجري، وابن العميد هو الفضل بن العميد أحد أدباء ومترسلي العصر العباسي لاحقاً، وقد تبوّأ منصب الوزارة بهذه الصنعة..
إذا كان العرب لا يحسنون القراءة والكتابة في الجاهلية، فإنهم فيما بعد أبدعوا في فن الترسل، وهو كتابة الرسائل، وتنميقها وتدبيجها والاهتمام بلغتها وأساليبها .. فأول من اهتم بالرسائل وأنشأ لها ديواناً خاصاً هو الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، حتى بلغ الترسل إبّان خلافته شأواً عظيماً إلا أنه ازدهر أكثر وأصبح الكاتب في ديوان الرسائل ذا حظوة بعيدة المنال، في عهد هشام بن عبد الملك، ومولاه سالم الذي عيَن رئيساً لديوان الرسائل، وكانت الرسائل تقتصر على ما يصدر من الخليفة أو الوالي إلى أمراء المناطق أو القضاة، والمسؤولين .. وقد اتبع الكُتّاب فيها أسلوباً أدبياً منمّقا مزخرفاً لا يخلو من الصنعة البلاغية والأدبية، وربما ظهرت جلية عليه أكثر من غرض الرسالة الأساسي، إلا أن الكاتب الذي كان له الأثر في ذلك هو عبد الحميد بن يحيى الكاتب، وكان كاتباً لآخر خلفاء بني أمية في المشرق وهو مروان بن محمد، عام32ه وقيل إنه هرب معه حينما لوّحت رايات أبي مسلم الخراساني في سماء بغداد مبشرة بولادة دولة بني العباس، وذلك لشدة محبته لمروان والتصاقه به دائماً، فلعبد الحميد أسلوب بذّ أساليب الكتاب روعة وجمالاً،(ولرب تالٍ بذّ شأو مقدمِ) البارودي.. فذاع صيته وما زالت رسائله تذكر، ومنها رسالة وجّهها للكُتَاب منذ ذلك الحين إلى الآن، يوصيهم بتجويد العمل، وحفظ أمانة الكلمة، ويحثهم على الاستعداد الجيد للكتابة وضرورة الإلمام بأدواتها.. قبل الشروع بالكتابة..
وفي العصر العباسي استمر وهج الرسائل حاضراً، هنا وهنا إلى أن قيض له من قام به خير قيام، وأتقنه أحسن إتقان وهو الفضل بن العميد، وقد تدرّج في مناصبه حتى أصبح وزيراً، عندما أصبحت الكتابة حرفة تجعل لصاحبها الأولوية في كل شيء، كما تسنّم بعض الكتاب في عصره مناصب عليا، ومنهم:
الصاحب بن عباد ويحيى بن خالد البرمكي، ومحمد بن عبد الملك الزيات وغيرهم.
إلأ أن هذه الصنعة أصبحت كاسدة في العصور المتأخرة في زمن الاستعمار، فترك الأدباء أساليب البيان، ولم يعد التنافس محموماً بينهم كسابق عهده..واليوم في ظل انتشار التقنية الحديثة وبسبب ميل الناس إلى الاختصار في القول، والاكتفاء بالقليل من الكلمات خوفاً من الأخطاء، وتمشياً مع الحكمة التي تقول:
(خير الكلام ما قلً ودلً)، فأوجدوا القلة ولكن لم يوجدوا الدلالة فيكتفي الناس بتغريدة في تويتر لا تتجاوز 140حرفاً، ناهيك عن الرسائل القصيرة التي يتبادلونها عبر الهاتف النقال، أو الواتساب وغيره من برامج التواصل..ناهيك عن رسالة البرق سابقاً(البرقية)، وللاقتصاد في التكاليف تم اختصار الرسالة ربما إلى كلمة واحدة فقط، لأنه كلما زاد عدد الحروف زادت التكلفة، والحياة المتسارعة الآن فرضت على الناس عموماً والكتاب خصوصاً اتباع طريقة مختصرة في التعبير، حتى أن مادة (التعبير) الإنشاء أسقطت من حزمة اللغة العربية، ولم تعد تقرأ رسالة مطولة إلا ما ندر وإن كان ففي بعض رسائل البريد الإلكتروني فقط، وتقتصر في غالب الأحوال على مهمة عمل، وليست قطعة أدبية تظهر براعة الكاتب في الترسل..
طبعاً هذا الفن الذي اندثر تقريباً هو الذي أوصل إلينا رسائل الأدباء كالتي دارت بين مي زيادة وجبران خليل جبران، وبينها وبين المازني والعقاد ومصطفى صادق الرافعي، وبين ولادة وابن زيدون في الأندلس، كما نقلت لنا رسائل الأدباء في العصر الحديث كالتي دارت بين غادة السمّان وغسان كنفاني، وبين نزار قباني وكوليت خوري..لذا لا أحد ينكر أننا فقدنا حلقة مهمة من حلقات أدب الترسل، ليس في اختفاء الصنعة البديعية، وجفوة الأقلام بعيداً عن البيان والبلاغة فحسب، بل لأنها كانت تؤرخ لحقب تاريخية ثرية، نستطيع من خلالها ترجمة وفهم واستيضاح معاني النصوص، فأنت عندما تقرأ نصاً أدبياً شعراً أو نثراً، ربما لا تجد صعوبة في فهمه، ولكن لو أحطت بسيرة قائله، أو ظروف كتابة ذلك النص لوجدت أنك فهمته بشكل أفضل..(للاستزادة: عبد الله الحاج /المجلة العربيةع907-2015، ناصر بوصوري مجلة أقلام الثقافية- صحيفة دنيا الوطن/2009).