الشعر وصناعة الكتابة..
بقلم الأستاذ / حميد الأحمد
طرح أحد الأحبة سؤالاً كيف أتعلم الشعر؟ فأحببت إفادته من خلال هذا المقال الطويل..
دخل الفضل بن العميد على الصاحب من عباد، وهو من أصدقائه، وكان الأخير قد وضع شرطاً على كل من دخل إليه أن يحفظ ألف بيت من الشعر، فسأل الحاجب الدخول على صاحبه الصاحب بن عباد، فأخبره بالشرط، فأجابه: أَمِن شعر النساء أم من شعر الرجال تريد ألف بيت؟ فاندهش الحاجب ودخل على مولاه ليخبره بمن في الباب، فتبسم وقال له دعه يدخل فهذا هو الفضل بن العميد..
وجاء رجل إلى شاعر فسأله كيف أتعلم الشعر، فأجابه الشاعر: احفظ ألف بيت من الشعر وائتني، فذهب وحفظ ألف بيت ثم عاد وقال له: انسها..ويقصد بذلك إعادة المخزون اللغوي والمفرداتي لدى الشاعر الجديد (مشروع شاعر)، فالكلمات كلها قابلة للتدوير إن شبهناها بالمادة التي تدخل في صناعة شيء ما، فبذلك يقول الشاعر:
هل ترانا نقول إلا معاراً = أو معاداً من لفظنا مكرورا
فالشعر أولا يأتي من كثرة المحفوظ، يقال إن حافظ إبراهيم كان يحفظ مئات بل ربما آلاف الأبيات من الشعر، وأن ذاكرته بقيت صلبة إلى آخر أيام حياته.. فكان شعره جزلاً غير أنه فقير بالخيال، فالخيال مطلوب لابتداع الصور الفنية الجميلة..(ويكيبيديا)
فالبداية بالحفظ والقراءة لعباقرة الشعراء المتقدمين والمتأخرين كي يستقيم اللسان ، وتصقل المهارة أكثر، فالشاعر محمد الفراتي ينصح زميله نزار بني المرجة في لقاء خاص: احفظ ديوان الحماسة، وديوان أبي الطيب المتنبي..وربما البحتري، طبعاً هذا كان في زمن الفراتي أما اليوم فليس لدى أحد مقدرة على حفظ كل هذه الأشياء، كي يعيد كتابتها وصياغتها بطريقته..
وروي أن أبا تمام كتب ديوان الحماسة عندما أصابته السماء بليلة شاتية مثلجة، فأوى إلى بيت خرب قديم، فوجد فيه رقعاً من الشعر لشعراء عدة، فعكف عليها يقرؤها ويحفظها، وربما ساهمت في صقل شاعريته، فالطريقة الأولى الحفظ والقراءة، وعدم العجلة في النشر وهذا أمر كلنا يقع فيه دائماً، إذا كان زهير بن أبي سلمى يكتب حولياته في حول كامل(عام كامل) كي ينشرها بين الناس، فلم نستعجل أنا وأنت وهو وهي في النشر بهذا الكم الهائل..؟ ونفطم أبياتنا قبل موعد فطامها؟؟؟
لذا ينبغي التريث في النشر حتى يصبح العود صلباً.. ثم إن انتقاء المدرسة أمر مهم مع أني لست مع هذا التوجه ولكن هناك من يرى أن محمود درويش شق طريقه في الشعر الحديث، فهو مدرسة ولا شك أن درويش رأس ضخم، وأن السياب مدرسة أخرى، ونازل الملائكة مدرسة، وبدوي الجبل، وسليمان العيسى، وأحمد شوقي، وخليل مطران، والبارودي، والعشماوي، ونزار قباني، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، وغازي القصيبي، وعبد الله البردّوني، وعبد العزيز المقالح ، ومحمد الفيتوري ، وأبو القاسم الشابي، وأدونيس، وميخائيل نعيمة، والجواهري، والماغوط ، وأحمد مطر، وأحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي وغيرهم كثر..
أعود إلى نقطة البداية.. حيث يكون الشاعر مقلداً يحاكي غيره في أسلوبه وكلماته وربما في معارضة قصائده، ثم ينطلق ليحدد طريقاً خاصاً به، ومن المؤسف أن كثيراً من الشعراء لم يحددوا مسارات معينة لتوجهاتهم، فيغرفون من كل بحر، وما ذلك برأيي إلا لعدم التفرغ التام للشعر، فالشعر كما نعلم هواية لدى الكثير من الشعراء اليوم، وليس حرفة يقتات منها، فبالتالي لم تمنح الوقت الكافي لتنضج بالشكل المطلوب..
أنصح الشاعر بمقارعة الشعراء الفحول، والدخول معهم في مساجلات ومطارحات شعرية، وهذا يسمى التعلم بالاحتكاك، والممارسة.. يقول بشار بن برد:
هجوت جريراً فاستصغرني ولم يرد علي، ولو هجاني لكنت أشعر أهل زماني.. إذا الاحتكاك بالعمالقة يورث قوة وصلابة وجرأة وإقداماً..
التدريب على الإلقاء وهذا مطلب هام وحيوي، مما يؤخذ على أمير الشعراء أحمد شوقي أنه كما روي عنه لم يلقِ بيتاً واحداً فهو يخشى الارتباك ومقابلة الجمهور، وكان يكتب القصيدة وتلقى بصوت غيره، وهذا برأيي انفصام في شخصية الشاعر، كمن يعد نشرة الأخبار للمذيعين لقراءتها على الهواء، فالمذيع الناجح هو الذي يعد ويقرأ بنفسه.. لأنه سيقرأ فكر غيره بلا شك وليس فكره هو فالكاتب هو الذي يتحكم به من خلال كتابته، كذلك الشاعر عليه أن يتدرب على الإلقاء جيداً ولا يخشى من الأخطاء.. وليعرض ما يكتب على أهل الخبرة، فعين الناقد بصيرة ومن شدة حبنا لذواتنا واعتدادنا بأنفسنا لا نقرأ أخطاءنا بأعيننا بل بقلوبنا، وبالتالي لا نراها أصلاً..
كما ينبغي للشاعر تعلم العروض والنظم على الطريقة التقليدية(العمودية) أولاً فجميع الشعراء الناجحين يتقنون العروض وإن كتبوا غير العمودي..
وتعلم الوزن بالتطبيق لا بالتنظير الشفهي أمر لا بد منه، وكذلك التقطيع العروضي ، بالورقة والقلم، ثم التقطيع صوتياً، ثم إنشاد ما يكتب أو غناؤه، لأن الشاعر ينشد ما يكتبه بيده قبل أن يخرجه للناس.. وعلى الشاعر تعلم اللغة العربية على أصولها، وتعلم الإعراب ليعرف متى ينصب المفعول، ومتى يرفع المبتدأ.. ويفرق بين المصروف والممنوع من الصرف ،ولا يلجأ للضرورات الشعرية إلا في الضرورة فعلاً لأن استخدامها نابع من اسمها..
طبعاً هذه نصائح بسيطة، ومن أراد المزيد فليرجع إلى أهل الصنعة من أكاديميين وشعراء، وعليه ألا يظن أن الشعر كالرياضيات 1+1=2 لا الأمر مختلف جداً، ويتبع المزاج والحالة النفسية، ولكن أهم ما ينبغي التركيز عليه قراءة الشعر القديم بتعمّق.. لاستيعابه والنسج على منواله.
* ماجستير لغة عربية