فَنُ إدارةِ العداوة ..!!
بقلم الأستاذ / أحمد سليمان النجار *
كثيرٌ هم من كتبَ عن النزاعات وطريقة التعامل معها وفضها
Conflict Management , وقد أدرجها المختصون تحت باب الذكاء الانفعالي , ولكني أزعمُ - ولعلي أكون على خطأ - أني أول من حاول تأطير فن إدارة العداوة بمفهومها الواسع وبأسلوب يجعلُ الأمر خطواتٍ يَسهلُ على كل من أراد اتباعها ..
وهلموا معي لنبدأ القصة من بدايتها ..
مخلوقٌ طيني غريب وجديد يحتلُ مكانةً عاليةً جداً تفوق مكانة النور والنار مجتمعان .., النور ولأنه نقي وصافٍ تجاوز هذا الأمر وقبلَ بهِ عندما علمَ أنه من الله سبحانه وتعالى وبناء على حكمته جل في علاه , أما النار فلم تقبل بذلك أبداً ورَكَزَتْ – ومن البداية – للعداوة ألف رايةٍ وراية ..!!!
آدم - عليه السلام - والملائكة - رضوان الله عليهم - والشيطان الرجيم .., من حينها نشأت عداوة لن تنتهي إلى يوم القيامة بين آدم والشيطان , ثُم تم هبوط آدم إلى الأرض ومعه الشيطان , وبدأت صفحات العداوة تُكتَبُ بحممٍ من غيظٍ وحقدٍ وكراهية لاحدود لها ..!!
من هُنا نستنتجُ أن العداوة حتمية ولافرار منها بأي حالٍ من الأحوال , وهذا يقودنا – بالتالي – إلى تقسيم العداوة إلى قسمين اثنين :
1- عداوة حتمية
2- عداوة طارئة
**القسم الأول : الأعداء الحتميون , وهم على نوعين اثنين :
أ – حتمية دائمة ( الشيطان )
{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم }
هاتان الآيتان توضحان أن الشيطان وعلى الرغم من عداوته الحتمية الدائمة إلا أنه أضعف أعداء الإنسان وأقلهم شأناً وأضعفهم خطراً , إن تمكن الإنسان من السيطرة على عدويه الحتميين الآخرين ( النفس , الهوى ) ..
ب – حتمية غير دائمة ( النفس , الهوى )
ولاشك أن النفس أخطر وأشد وأشرس عدو للإنسان بلا منازع , ودائماً كنت أقول أن معركة الإنسان مع نفسه هي أم المعارك , والتي إن انتصر بها فقد انتصرَ في كل معاركه الباقية بكلِ سهولةٍ ويُسر ..!!
وتأتي خطورة النفس من كونها ملتصقة بالإنسان وخبيرة به وعارفة لتوجهاته ومايُحبُ ومايكره ..!! وكان الله – جل في علاه – يستطيع أن يهب الإنسان نفساً مُنقادة له طواعة للخير مُحبة له , ولكنه لو حدث لذلك لنتفت الحكمة من الاختبار ومن الثواب والعقاب , ولم يكن هناك تفاضل بين الناس , ولكانت الملائكة بقدراتها الخارقة تفوق الإنسان قدراً وطاعةً وبكثير ، وماكان هناك معنى لتكريم آدم عليه السلام , وماكان هناك داعٍ لوجود الشيطان ..!!
ومن ينظر في كتاب الله يجد أن النفس قد ذُكرتْ في أخطر الجرائم وأشدها عنفاً وشراسةً ولايجدُ ذكراً لاللهوى ولا للشيطان ..!!
- قتل الأخ في قصة قتل أحد ابني آدم لأخيه { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ }
- الخيانة الزوجية والشروع في الزنا بالإكراه في قصة إمرأة العزيز مع يوسف عليه السلام { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ }
- الشرك بالله في قصة السامري الذي صنع لبني اسرائيل ثوراً يعبدوه من دون الله { وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي }
ولذلك كان الحذر من النفس واجبٌ , وإدارة تلك العداوة مُقدمةٌ على بقية العدوات , ليتمكن الإنسان عبر وسائل عديدة أوضحها الشارع من ترويض هذه النفس والسيطرة عليها وردعها عن شهواتها , لتتحول إلى نفسٍ لوامة ثم نفس ٍمطمئنةٍ , وأبرز هذه الوسائل هو مخالفتها وعدم إطاعتها ودفعها نحو الطاعات والمعروف والأعمال الصالحات دفعاً حتى لو أبت وتمنعت .. , وهذه الأمور تحتاج إلى تدربٍ وبذلِ جهدٍ وجهادٍ حقيقي , لينال الإنسان الهداية كما قال الله سبحانه وتعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } , وإذا سيطر الإنسان على نفسه بدأ في السيطرة على الهوى والذي هو الميل والحب والرغبة نحو أشياء معينة , واستطاع أن ينهى نفسه عن الهوى , بل واستطاع أن يجعل هواه تباعاً لما يُرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
وخلاصة الأمر : أن من استطاع أن يكسب معاركه مع أعدائهِ الحتميين بنوعيهما الدائم والغير دائم , استطاع وبكل يُسرِ وسهولة أن يكسب كل معاركه في الحياة أياً كانت صعوبتها وشراستها ..!!
**القسم الثاني : الأعداء الطارئون :
وقوع هذه العداوة حتمي من جهة الوجود وطارئة من جهة الأشخاص ..
فمن جهة وجود العداوة قال الله تعالى : {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } , أما كونها طارئة : فعدو اليوم قد يُصبح حبيب اليوم والعكس صحيح , فقد يُسلمُ الكافر المعادي ليصبح أخاً مُحباً , فتنتهي العداوة من حيث الأشخاص لا من حيث الوجود ..!!
وبالتالي قد تطرأ عداوات كثيرةٍ لأسباب مختلفةٍ منها الغيرة والحسد والكِبرِ ودناءة النفس وعدم حب الخير للآخرين , أو لمواقف قولية أو فعلية مسيئة للشخص فتزرع العداوة في قلبه تجاه شخصٍ ما , أو لأسباب أخرى كثيرة ومتعددة , أو قد يطرأ جفاء ونفور يُشبه العداوة - ولكنه ليس عداوة - لغير سببٍ معروف فالأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف ..!!
وقد تختلف درجة العداوة وحدتها والتعبير عنها من شخصٍ إلى آخر , ويحكم ذلك عوامل نفسية واجتماعية كثيرة للغاية ..
ولإدارة هذا النوع من العدواة لابُد أن نتبع التالي :
1- لابُد أن نؤمن أن العداوة ليست في كل الأحوال سلبية , وأنها ليست دليلاً على سوء أخلاقك , وأنك لست السبب فيها بأي حالٍ من الأحوال , وأنها قد تكون – في كثير من الحالات – دليل نجاحك وتميزك وتقدمك , وأنك إن نجحت في إدارتها فقد تكون دافعاً إيجابياً لك في كثير من جوانب حياتك ..!!, فالعداوة - في بعض الأحيان – تجعلك يقظاً مُتأهباً حريصاً على نفسك وعلى نجاحك , وقد تجعلك تسعى لتقوية نفسك وتحصينها وزيادة مكانتك ونجاحاتك وحماية إنجازاتك , بل على العكس , فبعض أعدائك قد يدلك – دون أن يعي - على مكامن الضعف والخطأ والقصور في حياتك وعملك فتتفاداها وتصلحها , وأكادُ أجزمُ أن العصابة المُسماة ظلماً وعدواناً ( دولة اسرائيل ) تستمدُ قوتها من كونها محاطة بالأعداء من كل جانب , فتسعى للقوة والحرص والحذر ..!!!
وقديماً قال المتنبي :
وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنَالُكَ نَفْعُهُ **
وَمِنَ الصّداقَةِ ما يَضُرّ وَيُؤلِمُ ..!!
2- أن هناك بعض العداوات لامجال للقضاء عليها إلا بعد محاولات مضنية شاقة جداً جداً , وقد تنجح وقد تفشل ونسبة فشلها أكبر من نسبة نجاحها بكثير ..!!
وقد قال الشافعي :
كلُّ العداوةِ قد تُرْجى مَوَدَّتُهَا **
إلاَّ عداوةَ من عَادَاكَ عن حَسَدِ ..!!
فمن يُعاديك حسداً , فغالبا من الصعب وللغاية أن تقضي على هذه العداوة في نفسه مهما فعلت , ولكن تداريه وتكرمه وتُحسن إليه وتحذره وتجتنبه وتُخفي عنه نجاحاتك وإنجازاتك ماستطعت إلى ذلك سبيلاً ..!! وتستعن على قضاء حوائجك بالكتمان , ولابأس أن تُظهر له أنه شريكٌ في نجاحاتك , وتشركه فيها إن استطعت على حذرٍ منه ..!!
3- أن تحاول أن لا تصنع أعداءً مهما كان السبب , وإن حدثَ وشعرت بعداوة نشأت , فتتبع أسبابها وعالجها مُبكراً , حتى ولو بذلت من مالك , حتى ولو تنازلت عن بعض حقك , واطفئها بالبذل والعطاء والإحسان والإهداء والإطراء ...
العربُ كانت تقول قديماً : لاتُبقِ على جريحاً في أرض المعركة وأجهز عليه حتى تضمن أن لايُعاديك ثانية أو يضرك .., وأنا أقول أجهز على عدوك بالحب والإكرام والهدايا والإحسان والبسمة وصنائع المعروف وببذل ما تستطيع مادياً ومعنوياً , حتى تكسب قلبه ويصفو لك وداده وتأمن جانبه بإذن الله ..
4- لاتستهنْ بعدوٍ مهما صغر شأنه , فأنت لاتعلمُ من أي الجهات يستطيع أن يؤذيك ..!!
لا تَحقِرَنَّ صَغيراً في مُخاصَمَةٍ **
إنَّ البَعوضَةَ تُدمي مُقلةَ الأسدِ ..!!
لا تَحقِرَنَّ مِن الضعيفِ عَداوَةً **
فالنارُ يَحرِقُ جَمرُها وشرارُها ..!!
5- كن متقياً لله , واضح الأهداف , صافي النية , مخبرك كمظهرك , مبادراً للخير , محجماً عن الشر , مبتعداً عن الظلم , نقي السريرة , باذلاً للمعروف , حريصٌ على كلماتكَ , وازناً لأفعالك , دائم البسمة , متواضعاً في غير مذلة , ليناً في غير ضعف , قوياً في غير تجبر , مُرتدياً قفازاً من حريرٍ على قبضةٍ من فولاذ , كتوماً لسرك , حريصاً في من تضع فيه ثقتك , حذراً في غير شك , يقظاً في غير اتهام , وثق أنك لن تكادَ تجداً لك عدواً , حتى وإن طرأ لك عدوٌ ، حسداً أو دناءة نفسٍ ، فسينصرك الله عليه بجيوش محبيك الذين لن يرضوا عليك الضرر والأذى ..!!
6- إياك أن تجرك العداوات لمستنقع الانتقام وتصفية الحسابات والتشفي , فذلك سيقلل من قيمتك ولو عند نفسك ..
وَلَوْ لَمْ تَكْنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَة ** لمكَّنتها من كلِّ نذلٍ تحاربهُ ..
وعدوك حينما ينجح في جرك لهذا المستنقع فسيكون حينها قد انتصر عليك انتصاراً مدوياً وحولك وبالتدريج إلى شخصٍ يُشبهه ، فتفقد نقاءك وصفاءك ..!!
( طنش ) وتجاهل
لو كل كلب عوى ألقمته حجـراً ** لأصبح الصخر مثقالاً بـدينـار ..!!
واعفُ وسامح واغفرْ وتجاوز , وقابل – ماستطعت – الإساءة بالإحسان , وادفع بالتي هي أحسن .., واقبل الاعتذار حتى ولو كاذباً , ولاتُدقق في كل شيء , واقبل الناس كما هي , وخذ منهم مايظهر لك ودع ماخفي منهم لله ..
كل هذا مالم يجرك عدوك نحو منطقة ضيقة للغاية ويجبرك إجبارأً لامفر منه بأي حالٍ من الأحوال على مواجهته بالقوة , فكن قوياً وعلى قدر تلك المواجهة وإذا ضربت فأوجع ، دون غضبٍ يُخرجك عن الحق ويدفعك نحو تجاوز الحد ويقلب الأمور عليك فتصبح محقوقاً بعد أن كنت صاحب حق ..!!
7- ولأني أحبُ الرقم سبعة كثيراً فسأجعله مسك ختام هذه الدورة المُصغرة فأقول :
كن قريباً من الله , وأكثر من الدعاء له أن يكفيك شر أعدائك ماعلمت منهم ومالم تعلم , وكن دائم الحرص على الأذكار والتحصينات , فبها سيحميك الله من كل شرٍ ..