العفو عِندَ المَقبَرَة ..!!!
بقلم الأستاذ / أحمد النجار *
دقيقة للغاية هي الفروق بين مراتب قيمة التسامح وهي : العفو والصفح والمغفرة , وهي درجاتٌ كما رتبتها وقد أخذت الترتيب من قوله جل من قائل :
﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
1- العفو : وهو مأخوذ من المحو , وهو ترك معاقبة من ظلمك إن أمكنك الله من معاقبته مراعاة لظروفه الحالية وذلك طلباً للأجر من الله ولاعتبارات أخرى كثيرة ومنها الطمع في صلاحه وعدم عودته للظلم ثانية , وهذا لايمنع وجود عتاب وتثريب ولوم وتقريع ..! فيكفيه تأنيباً لضميره عفوك عنه , أما إن كان لاضمير له ولاإحساس فهذا مبحث آخر ..!! فالعفو هو إسقاط العقوبة دون إسقاط الذنب , ومثل ذلك هي الأحكام التي تسقطُ عقوبتها بالتقادم ..!!
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾
﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾
﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾
2- الصفح : وهو مأخوذ من صفحة الوجه وإعطاء صفحة الوجه الجميلة للمذنب , وهو إشارة إلى التنازل عن معاقبة من أساء إليكَ وإنزاله منزلة الجاهل, إما طًلباً للأجر من عند الله أو لاعتبارات أخرى كثيرة .. , مع عدم عتابه والتثريب عليه ولومه وتقريعه , ولابأس هنا من وجود عتاب ذكي بدرجة محسوبة يوضح له ماوقع فيه من خطأ ويضمن ذهاب من القلب من أثر سيء من فعلته السيئة وعدم عودته لمثلها ثانية ..!!
﴿ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾
﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾
﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
3- المغفرة : وهي أعظم درجة من درجات التسامح , وهي مأخوذة من الغفران وهو الستر والإخفاء , وهي ترك معاقبة المسيء وستر ذنبه وعدم لومه ولا التثريب عليه , بل وأكثر من ذلك , الإحسان إليه وإكرامه .., وهي أكثر ماتُنسبُ لله سبحانه وتعالى ..
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾
﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾
﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
**********************
حرصتُ على ذكر هذه المراتب بهذا التفصيل لأصل إلى أنه طالما أن التسامح مُرتبطٌ برقي وسمو وارتفاع النفس , وأن التسامح مراتب , فإذن كلما ارتقت النفس وارتفعت كلما ارتقت مرتبة التسامح عندها ..
وأنت بالتالي قسْ على نفسك في هذه المراتب من ناحية رقيك وارتفاعك وسموك , فإن وجدت صعوبة في الوصول ولو إلى المرتبة الأولى وهي العفو , فأنت تحتاج إلى مجموعة من التدريبات التي ترتقي بنفسك وترتفع وتسمو بها ..!!
(عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ ) ..
*********************
وهناك سؤالٌ هامٌ للغاية :
هل العفو - وهو المرتبة الأولى - يكون للجميع وبلا استثناء ؟
طالما أن سؤالنا خاص بالعفو , فمن باب أولى أن يكون منسحبٌ على بقية المراتب ..
في وجهة نظري – وأعلم أنه قد يُخالفني البعض – في وجهة نظري لايكون العفو – ولايصح أن يكون – لأي أحدٍ ..
فمن الناس من قد بلغ حدأً من التجبر والتكبر والطغيان والاستهتار واللامبالاة يجعل العفو وقوداً لمحركات سوء أدبه فتندفع بسرعة أعلى مع كل عفو , مما يزيده تمادياً وسوء أدب ..!! ولابد من اتخاذ إجراءات صارمة في حقه تكسر هذه الروح المتمردة المتنمرة الطاغية قبل العفو عنه ..!!
ومن الناس من أحدث في حياتكَ أضراراً جسيمة وبالغة ومتعددة طالتك وطالت حياة أحب الناس إليك , فهذا لاينفع معه العفو مالم يُقرُ بذنبه ويعتذرُ عنه ويُصلحُ ماتسبب به من أضرار , وإلا فلا عفواً ولاحُباً ولاكرامة ..!!
وأنا واثقٌ من حكمة الله ورحمته وأنه لن يؤاخذك على عدم عفوك , وإن كان سيُثيبكَ عليه إن وصلت لدرجة عالية جداً من ارتفاع ورقي وسمو الروح تُمكنك من العفو وأنت تعلم أن نتائج عفوك ستكون سلبيةً للغاية ..!!
قال جل من قائل :
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾
فهذه الآيات جاءت في وصف المؤمنين , وذكرت أنهم ينتصرون عندما يبغي أحدٌ عليهم , وأنهم يجازون السيئة بسيئة مثلها دون زيادة وطغيان , وأنهم إن انتصروا بعد أن وقع عليهم ظلم ما فإنهم معذرون ولأشيء عليهم , وهذا يكون لمن قلنا عنهم بأن العفو لايصلح معهم , ونهى عن ظلم الناس والبغي في الأرض بغير حق , فالعقاب الايجابي – كما يحلو لي تسميته – هو – على الحقيقة – فيه إفساد جزئي في الأرض ولكن مصلحته أكبر من ضرره المحدود والمؤقت بكثير , ثم قال سبحانه أن من استطاع الصبر والغفران , والصبر هو نوع من أنواع الحلم عظيم ولايطيقه أي أحد , سأل رجلٌ شيخاً حليماً من حلماء العرب : عن الحِلم , فقال له : هو الذل أتطيقه ؟!!
وفوق الصبر غفر – وقد عرفنا الغفران في بداية المقال ..- فإن ذلك من عزم الأمور , أي أن ذلك من الأمور التي لايُطيقها إلا من استطاعوا الوصول إلى درجة عالية جداً جداً من الاصطلاح مع الذات ومن ارتفاع وسمو وارتقاء النفس ..!!!
ولو لاحظنا أن الآية ربطت العفو بالإصلاح , وذلك من جهتين :
أخبرتكم أن العقاب الايجابي فيه بعض الإفساد في الأرض وتركه فيه إصلاح ..
أن العفو إن تحقق فيه إصلاح لمن عفوت عنه , فلا بأس في أن تعفو , أما إن لم يتحقق فيه إصلاح , فالعفو عنه لامعنى له ولاهدف , وسيؤتي نتائج سلبية كثيرة ..!!
وهاهو صلى الله عليه وسلم يَظهرُ واضحاً في منهجه – بأبي هو وأمي – هذه الفلسفة التي أخبرتكم عنها , فقد جاء في الحديث : أخرج النسائي في سننه عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً وكان أشب الرجلين فقتله، وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا. فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريماً فجاء فأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله بايع عبد الله قال فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك؟ قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين.
قال الشيخ الألباني: صحيح.
فهناك من لم يعفو عنهم صلى الله عليه لشناعة جرمهم وبشاعته ولأن العفو لايصلح معهم ..
ويبرز هنا سؤال :
عكرمة وابن أبي السرح , قد أسلما وحَسُنَ إسلامهما , بل كانت لهم مشاهد وفتوحات وأمورٌ عظيمةٌ جداً في الإسلام , ولولا عفوه – صلى الله عليه وسلم – لما كان لهما كل ذلك وماتا على الكفر .., فما تقول في ذلك ؟!!
من الطبعي أن قدر الله سابقٌ كل شيء هذا أولاً , وثانياً منع العفو عنهما كان صدمةً شديدةً عليهما , وعندما تحقق لهما بعد يأس ومعاناة التزما به وترك أثراً عميقاً في نفسيهما , وهذا هو المقصد من عدم العفو , فمن أوصلت له رسالةً بعدم عفوك عنه ثُم رأيت أثر ذلك السيء عليه وحرصه على أن تعفو عنه حرصاً بالغاً كل حد , فلابأس من العفو عنه وأنت ترجو أن يؤتي العفو ثماره ..!!
وإن عاد لفعله السيء فلا تعفو عنه , أما قرأت قول الله تعالى , وهو الرحيم الرحمن العفو سبحانه :
﴿ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ﴾
*************************
لابُد أن نفرق في ذلك بين العفو والذي هو مرتبة من مراتب التسامح , وبين التناسي والتجاهل وإخراج المسيء الذي لاتنطبق عليه شروط العفو من حيز تفكيرنا تماماً , وهذا يحتاج إلى تدريب عالٍ جداً , والعفو – وهذه حقيقة – يوفر عليك كل هذا , فأحياناً نعفو من أجل أنفسنا فقط ..!!
كما أن هذا الكلام لاينطبق على دائرتك الخاصة بك ( فصلت في ذلك في مقال لي بعنوان : دوائر العلاقات الاجتماعية , ويمكنك العودة إليه ) ..
*************************
وتظلُ في القلب كلمةٌ لابد منها :
أحياناً نضطرُ اضطراراً للعفو رغم كل شيء , فالحياة قصيرة , وتخشى أن يُغادر وفي قلبك شيء على أحدٍ وقد تلقى الله بقلبٍ غير سليم والعياذ بالله , أو قد يُغادر الشخص قبل أن تعفو عنه , فيكون حقاً :
العفو عند المقبرة ..!!