موعد مع القدر
بقلم الأستاذ / محمد أنيس *
لعل فكرة القضاء والقدر هي إحدى القضايا التي رافقت الإنسان منذ قديم الأزل حتى يومنا هذا ، فما أن تحل مصيبة بإنسان في ماله أو عياله ، سرعان ما يبادر الناس بلا تكلف أو تكليف بالتحليل والتعليل وإبداء الرأي ، حول ما إذا كان الذي وقع هو قضاء مقدر عليه منذ أن نُفِخت فيه روح الله وهو في بطن أمه ، أم هي عين حاسدة ، يقر الجميع بأثرها ويتبادلون الأمثال حولها بأنها ( ترمي الفارس عن فرسه ) .
وكلا الأمرين مسلم بهما في معتقد الدين الإسلامي ولا ينكرها مسلم نطق الشهادتين .
ولا نعدم أن نجد فريقاً ثالثاً يرد الأمر إلى أسباب مادية محسوسة لا علاقة لها بالقدر أو العين الحاسدة .
ظلت هذه الأفكار تتلاحق وتتدافع كأمواج بحر على شاطئٍ فلسفيٍ بين مدٍ وجزر ، أو كأنها أنوار منارة تسطع على الشاطئ لترشد بنورها بعض السفن التائهة ، لكنها لا تلبث أن تغيب وتخفت لتخلٓف غموضاً وتيهاً في المعارف والمفاهيم .
ولعل حادثة قد مررت بها مع بدايات صيف من قديم سنوات عملي في الكويت هي ما جعل تلك الأفكار تتلاطم في خاطري منذ حينها إلى حاضر أيامي .
لا زلت أذكر يوم اشتريت سيارة فارهة فخمة ، ونزلت بها متبختراً متفاخراً إلى دمشق حيث أسكن ، ولا زلت أذكر يوم أن تحلق شباب الحي حول سيارتي يبدون شتى آيات إعجابهم بها ، فما أن يبدي أحدهم انبهاره ببريق ألوانها حتى يقاطعه آخر مندهشاً بنعومة صوت محركها ، ويتبعه ثالث لينبه إلى جمال فرشها وعداداتها ، بينما نزغات الزهو والتفاخر تنفخ رأسي الذي بدأتُ أحسُ به يكبر ويزداد حجمه حتى كادت رقبتي تعجز عن حمله
ولم أجد مهرباً من هذا الموقف إلا بإبداء رغبتي للتوجه إلى بيتي لتناول وجبة الغداء .
تمددت على سريري محاولاً أخذ قسط من الراحة والقيلولة ، ويا للعجب !!!
لم يغمض لي جفنٌ ولم يتسلل النوم إلى عينيٓ رغم محاولاتي الجاهدة !!!.
وفجأة ... وبدون سابق إنذار .. لمعت في خاطري فكرة عجيبة غريبة !.. يجب أن أسافر الآن وفوراً إلى مدينة حلب - حيث أهلي يقيمون - يجب أن أزورهم اليوم بل الآن !..
وانتفضت من سريري وكأنما لسعتني أفعى .. وبنبرة جادة حازمة خاطبت زوجتي - عروستي حينذاك - إذ كنت حينها عريساً ، هيا وضبي أغراضك وحاجاتك بسرعة ، يجب أن نسافر فوراً إلى حلب !... وردت زوجتي مستغربة ، الآآآآن ؟؟ !! وتحت شمس الظهيرة !! انتظر قليلاً ريثما يبرد الجو قليلاً ونسافر على أجنحة الراحة ، لكني رفضت جوابها ، وأصررت على أن تسرع بتوضيب مستلزمات السفر ، ولما وجدتها تبطئ بتجهيز حقائب السفر ، انقضضت على الحقيبة كأسد هصور لأتناول الثياب من يدها وأكدسها في أكياس بلاستيكية في عجالة وفوضى عارمة بينما زوجتي مأخوذة بتسرعي وانفعالي ، ولم تنطق ببنت شفة ، وأسرعت بارتداء ثياب الخروج لتدرأ حصول مشكلة بيني وبينها بعدما صُدمت بانفعالي وتسرعي العجيب .
وحملت الأكياس مسرعاً إلى سيارتي التي توجهت بها إلى مدينة حلب وفجأة قالت زوجتي مستغربة : لكنه أمر معيب أ ن تدخل من سفرٍ على أهلك بدون حلوى أو هدية ، فأجبتها بعصبية : الحلوى في حلب كثيرة وأهلي لا يحتاجون حلوياتي ، ورحت أضغط على ( دواسة ) البنزين في سيارتي لتزيد السرعة عن المئة ( كم ) على طريق ثنائي ذي اتجاهين متقابلين في تلك الفترة ، مما يعرضنا إلى شديد الخطر . وبعد أن جاوزنا مدينة حماة بقليل أرادت زوجتي أن تكسر جوّ الانفعال والتوتر ، فطلبت مني ببرود أن أضع حزام الأمان ، وبعد رفضي لطلبها المتكرر رضخت فقط لأتخلص من إلحاحها ، ثم التفتُ إليها لأجدها لم تضع حزام الأمان ، ومن باب المضايقة طلبت منها أن تضع الحزام ما دامت قد ألحت علي بوضعه وأيضاً هي رضخت لطلبي وو ضعت حزام الأمان .
وتابعت أسابق الزمن في توتر وانفعال ، كأني متأخر عن موعد مع القضاء والقدر ، يجب أن أسرع لملاقاته ، بينما قدمي تضغط على ( دواسة ) البنزين وتضغط .. وفجأة وبدون سابق إنذار فوجئت بسيارة نقل عمومي متوقفة أمامي في وسط الطريق كجبل من حديد ، ولم تسعفني مكابح السيارة لتوقف اندفاعها الجنوني ، وكأنما انتقلت إليها عصبيتي بالعدوى فانتابها شيء من هستيريا السرعة اللاعقلانية . وبسبب سرعة واندفاع السيارة لم أشعر حينها إلا وسيارتي فاتحة ذراعيها وجبل الحديد أمامي يتراجع بسرعة جنونية ليحط في أحضان سيارتي ، ولم أعد أرى حينها إلا تناثر الزجاج الأمامي وقطع من مقدمتها تتطاير ، تنين غضبان هائج ينفث بخاراً وشرراً من محركها ، بينما انخلع مقعد زوجتي من قواعده ويندفع إلى الأمام لتصطدم زوجتي ( بتابلوه ) السيارة وينكسر ضلعين في صدرها ، وبدافع الخوف والهلع غادرنا السيارة المحطمة مسرعين غير مصدقين أننا على قيد الحياة ، وبعد فترة من الزمن وصل رجال الشرطة والمحققون ، ليسألني أحدهم : أين السائق الذي كان يقود السيارة ؟ فأجبته مشوشاً مرتبكاً : أنا من كان يقود السيارة .. فرمقني المحقق بنظرة ملؤها الضيق والضجر وكرر السؤال : يا بني اصدقني القول ، أين الذي كان يقود السيارة ، فكررت الجواب
مؤكداً: أنا ، فعاد ليتابع كلامه قائلاً : يا بني سائق هذه السيارة إما ميت وإما بالمشفى فاصدقني القول ولا تحاول أن تضلل التحقيق لسبب ما ، وأمام إصراري على أني كنت فعلاً سائق السيارة ، نظر إلي طويلاً ثم قال : يبدو لي من شكلك وهندامك أنك مثقف محترم ، لذلك سأسألك عما إذا كنت تكتب يومياتك في مذكراتك الخاصة ؟.. فأجبته : أحياناً ، فتابع ليقول لي : إذاً اكتب في مذكراتك ، أن الله قد أماتك في هذا اليوم ، ثم أحياك مرة أخرى ، ومرت كلماته على سمعي كبرق لامع أضاء على معلومة شديدة الغرابة في خاطري ، لأجيب بسرعة : صدقاً أقول لك إن هذا اليوم هو بالضبط ذكرى يوم ميلادي الحقيقي ، فانتفض قائلاً : الله أكبر .. حدث غريب وصدفة عجيبة !!...
وتعود أجنحة الزمن لتعيدني إلى واقعي الحالي لأتساءل ؟؟؟... هل حقاً لعين الحاسد أثر ؟! ، أم للقضاء والقدر موعد تسرع إلى موقعه وتسعى لتحقيقه وكأنما انت مسيٓر لقدرك ؟؟!!..
أم أن ما حدث كان مجرد صدفة وحدث لا يحتمل أي تحليل وتفكير !!...ثم وأخيراً ألم يخطر ببال أحدكم أثناء قراءته ، ما مبرر إصرار زوجتي على ربط حزام الأمان وإصراري على أن تربطه أيضاً قبل دقائق فقط من الحادث ؟؟؟!!! ... ، وما شدة الأذى الذي كان سيصيبنا لو لم نضعه ؟؟؟!!!... ، ونحن الذين لم نضعه يوماً قبلها ، رغم أننا كنا نقطع دولاً وآلاف ( الكيلومترات ) دون حزام الأمان هل من رابط بين هذا الحدث وبين ما ندعوا به دائماً : " اللهم لا نسألك رد القضاء ، ولكن نسألك اللطف فيه ؟؟؟!!!...وهذا هو بالضبط ما سأكتب حوله في مقالتي القادمة .
* موجه فني لغة عربية
18 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓