نتلمّسُ الطّريق
بقلم الأستاذة / خولة سامي سليقة *
نقرأ القصصَ و الرّوايات لاستكمال الصّورةِ المنقوصة للحياة ،فالأدبُ عكاز و مرآةٌ و غبش أحياناً ،كأننا بامرأةٍ قبيل الخروج من منزلها تستطلعُ زينتَها ،مواضعَ الركاكة في هيئتها ،يسهم هذا في رفع معنوياتها عالياً و الخروجَ بمزيد من الثقة أو العدولِ عن فكرة الخروجِ لعدم توفر القناعات الكافية لمتابعة الهدف ،الأدب برمّته كالكثيرين يصدقُ حديثه طوراً و يشطّ بعيداً في الخيال طوراً آخر ، حتى حين ينوي الصدق يحدث ما لا يكون في الحسبان .
يعتقد البعض أنّ العالم اكتفى من الأدب الخيالي حتّى اكتظّت الصّدور بالأوهام ،فعاد الأدبُ الوثائقي أو أدب الحقيقة يبحثُ عن مادته التي توفّرها كوارثُ عالمنا الخارجة عن القدرة على إحصائها إذ فاقت قدرات المبدعين في الابتكار أحياناً ، يرى كثيرون أنّ الأدب الوثائقي مهما عمد إلى المصداقية و النّقل الحرفيّ للواقع لابد و أن تعبث به أخيلة الرّواة و أحبار الكتّاب لأننا بشر ، قد لا يتمكن الكاتب من تغيير تاريخ الحدث و الأرقام الواضحة لمن عايشوه لكن أيكون حيادياً تماماً أم أنه سيميل هنا أو هناك تحت ضغط التأييد لأمر أو استقباح آخر ؟
حتّى النشرات الإخبارية التي يُفترض أنها تبث حدثاً واقعياً تتوجه به إلى متابعيها في العالم كله و يقوم بصياغة أخبارها مختصون نجدها تطرح أموراً لا تخلو من القضايا الشخصية أو الميول العاطفية ، المشاعر وتر دقيق لكنه مرن أنّى أردناه .
إذاً يعتمد كتّاب الأعمال الأدبية الوثائقية على شهادة الشهود و المقالات الصادرة في تلك الفترة و الندوات حول الحدث و النشرات الإخبارية ، و المصادر السابقة لا يمكن أن تبلغ حياديتها و مصداقيتها نسبة كاملة ، أضف إلى ذلك أن نقل الوقائع بطريقة حرفية يجعل النص باهتاً تماماً بلا تشويق و لن تلقى أي نجاحٍ ،الحدّ الفاصل رقيق جداً بين الواقع و الخيال ،و ما كان ضرباً من الخيال غدا في الكثيرِ من المواضع عينَ الحقيقة ،الرواية الخيالية من الأرض إلى القمر للفرنسي جول فيرن تحقّقت بعد مئة عام ، من صعود الإنسان إلى سطح القمر إلى تطبيق فكرة الألواح الشمسية في الإبحار الفضائي ، حتى علم النفس وقف حائراً في تفسير ما حدث مع كاتب القصة القصيرة الأمريكي مورغان روبرتسون حين نشر قصة غرق التيتان عام 1898 التي حملت تفاصيل كارثة تيتانيك قبل أربع عشرة سنة من حدوثها ،هل بقيت هذه الأعمال و غيرها ضمن تصنيفها السابق من الخيال العلميّ و قد تجاوزها الواقع بمئات السنين فكراً و تطوراً ،أم أنه يمكننا تسميتها الواقعية الاستباقية التي تتقدم خلاف الأعمال الأخرى خطوة أو عدة خطوات في الغد ؟
أن تكون عجلتها أسرع من حاضرنا أعني هنا الأشياء التي قد لا ترد على خاطر و لا يكون فيها تخاطر بين اثنين من البشر ،أما الروايات التي صُنفت في خانة حرق المستقبل من حدوث الثورات و الربيع العربي فإني أرى الأمر لا يلزمه نبوءة و لا عرافات ،فأي وعاء ضاق عمّا فيه لابد أن يفيض و يسكب معظمه بل كلّه !
أما من يكتب حول حياة الإنسان و إمكانية أن يعيش حياتين معاً؛ يعيش واحدة و يتابع أخرى عبر زمن يمضي أو متوقف ضمن فلك الذكريات فلا هو منجز في دوره الأصليّ و لا قادر على تغيير الأحداث في دوره الآخر ،هل بنى الكتاب أفكارهم هذي على فكرة التقمص القديمة الحديثة ،أم هي حالات نفسية مرضية مدروسة ؟
الخيال متشابك جداً مع الواقع ، توأمان في رحم واحد يتغذيان من مشيمة واحدة ، يتطابقان معاً في الملامح أحياناً و الطباع و كل شيء .. إلا البصمة .
من أجل هذا وجدت الوثائقية الفنية نفسها تمثل أماً لفتَييْن أحدهما حقيقيّ و الآخر متبنى ، لكنهما ولداها على كل حال ٍ،الحقيقة تدفعنا إلى قربى المشاعر لنحسّ جميعاً وحدة الفرح و الألم أما الخيال كفيل بإكسابنا حرفة التنبّه و اليقظة إن أجدنا تفسيره.
من منا لا يبدأ أحلامه قبل النوم بكامل وعيه و واقعيته ، و حين نحسب أننا غادرنا الحلم نحمل منه شيئاً نفكر فيه مع ذواتنا أو نرويه لآخرين و هذا ما يجعل الخيال ابن الصحوة أيضاُ ، قدمٌ نضعها على الفراش و أخرى تمضي بنا في الفضاء بعيداً ،أيجوز لنا بعد هذا أن نضع حدّا قاسياً يفصل بينهما عند الكتابة ؟
يكفي أن نقول ما قاله مارك توين : (الواقع أغرب من الخيال، لأن الخيال يجب أن يحتوي على بعض الواقعية ) .
* كاتبة ، قاصة