يا مريم
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
كنت خلفه أو أبعد قليلاً ، تزيدني الأنفاس الحارّة الآتية من كل مكان توتراً ، رغم الظلام المطبق لكزتهُ برفق أو ربما أحسّ بي دون أن أجده في الظلام ، همست له :
لم تركتهم يقتلون مها ؟
لم أتبين وجهه لكني سمعت صوتاً لم أميز ضحكه من بكائهِ ، لعله الموقف يحتمل الأمرين معاً ؛ سخرية و وجعاً .
ازدردت ريقي حتى غارت عيناي ، تابعت همسي له :
أن يُتهم المرء بأنّه رهن الماضي و حبيسه أمرٌ لا يثيرُ الحزن ،ما كان على يوسف أن يألم لهذا ،كلّنا في وقت قادم أسرى الماضي و إن كان الأمر اتهاماً فكلنا متهمون إذاً ، ربما ظن نفسه الوحيد الذي يعيش داخل متحف من هواء ،متحف لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاقتراب من جدرانه ، نتلمس برودتها نخطط للابتعاد عنها و في نهاية المطاف نقفز فوقها ممزقين أثوابنا و أرواحنا .
سنان أنطون .. أيها الكاتبُ الموجَع .التقطَ وشوشة روحي فأحسستُ جسده يلتفت دفعة واحدة ، لم أتبين دهشة وجهه غير
أني عددتها قد حدثت ، وجهه الطافح همّاً شربتْ بعض خطوطه دمعاً ساخناً ، وراءه وقفنا جميعاً صفّاً طويلاً في ملجأ لا يتنفس إلا جراحنا ،أصواتُ الأطفال ما عادت مثار إزعاج لنا و قد أخدمت القذائف أحلامهم دفعة واحدة ،حتى أنه من المستغرب غداً إن عثرنا على جيل يتذكر كيفية الكلام بعد أن فقد السمع و النطق معاً .
المكان لم يكن مناسباً أبداً و الزمان كذلك ، لكني لم أستطيع أن أدسّ فرحتي في القلب دون أن أخبره أني كنت جدّ سعيدة حين أمسكت به متلبساً في روايته أكثر من مرة في غير موضع ،كانت أمكنة أرتادها بيني و بين نفسي ، أحببت أنّا كثرٌ و قد التقيت
قبله مكلومين مثلنا يعرفون تلك المخابئ السرية ، الواضحة لبعض العيون فقط ،لم أُضِع الوقت طويلاً ، دسستُ في ما وثقت في الظلام أنه جيبُ سترته ،ورقة كنت قد كتبتها أثناء قراءتي لروايته ( مريم ) وجدت من السخف الاحتفاظ بها بادئ الأمر ، لكن عنادي كان محقّاً أني سألتقيه يوماً و أجد الفرصة للتحدث إليه ، في الورقة كتبت إليه :
عبارتك " كانت الأغاني و المقامات بالذات ، غرف روحي التي أدخل لأجلس فيها وحدي " أيقظت الناي الغافي في حنجرتي ، رفيق صمتي و ضجيجي الأخرس ، كم أسعدني أن ثمة من يسير مغمض العينين مثلي خلف نشيد الوتر الذي أثق به ، أسلّم
له قياد عمري .
و عبارتك : " إنّه الخريف و الحديقة في حداد على نفسها . لكنّ كل شيء سيولد من جديد في الربيع ." هنا رأيت روحي المقاومة لشتى أشكال اليباس ، أدوسُ أيامي الجافة تنهرس بصوت محزنٍ ،لكنْ أرفع عينيّ صوب الشمس الطفلة و أفتعل ضحكةً.
أما قولك :" كنت مؤمناً على طريقتي الخاصّة ، لم أكن أتقيد بالواجبات و التعاليم ، فهي علامات على الطريق إلى الله لمن يحتاج إلى علامات و نظام سير أمّا أنا فلم أكن بحاجة إلى علامات كهذه ، أعرف بأن الله موجود . " طار له قلبي رفّ حمامٍ ، طابورٌ طويل نحن خلفك ، فما في القلب لا يعرفه إلا مالئ القلب و باعث الخفقات ، عطشُنا ما كان يوماً ظمأ إنهُ ارتواءٌ ، حبّ ، شيءٌ من الحياة بل الحياة كلّها ، نظلم بعضنا كلما طرقنا الأبواب ، التي خُلقت ليظلّ ما خلفها هادئاً ساكناً شارداً في طيات الفضاء .
أرجوك حين نخرجُ من قبونا انتبه و أنت تبحث عن شيءٍ ما في جيبك ، تلك كلماتي آمل أن تتذوقها بابتسامة عينيك ، قبل أن يشغلك وخز أذنيك و قد انقشعت موسيقا القذائف ، سيكون من بقي منا حولك و على جانبيك ، على مسافات تتراوح بين القرب و البعد ، بينما صلواتنا تتشابك محلّقةً عالياً صوبَ بوّابة السّماء .
* كاتبة وقاصة
2 pings