شواهد على الإخاء
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد كانَ أجدادنا يصنعون الأواني الفخارية. أرأيتِ طيناً يعقّ أمّهُ الحياة؟
ظلّ جدي يذكّرني بنكهتي الحياة و الموت كلما رفعتُ إبريق الماء لأشربَ، استغرقني تعلّمُ الشّرب منه عن علوّ مدّة، عندهُ لكلّ فنّ أصوله و كلّ نمطٍ حياتيّ فنٌ قائم بذاته.
الماء الباردُ اللّذيذ في فمي استشعرته أثناء قراءتي كتاب الرسائل" شواهد على الإخاء".
كلّ قديم يعيدك إلى طور من أطوار العمر، ليس ضرورياً أن تكون ابن تلك الحقبة يكفي أن تعيش ظلالها و أفياء البساطة الباقية منها.
عرف الملوكُ و الأمراء الرسائل كما رأيناها في وصايا الخلفاء، بين الهيئاتِ الرّسمية، بين الأفراد، بين العلماءِ و بين الأدباء أيضاً، كما في الكتاب آنفِ الذكر.
الحقيقة أنّ الحضارة الفائرةَ بكامل جنونها ألغتْ رسائل الورق المحبّبة إلى نفوسنا، تلك التي تحفظُ الرائحة و لهيب الشّوق بأمانة، أضع نفسي في خانة من يحفظون الرّسائل، يدارونها بأهدابِ الخوف.
قرأت الرّسائل الأدبية بين الكاتبين: الطبيب مجدي غرسان و الأستاذ هاني الجميعي مدرّس اللغة العربية، وفّق كلاهما في اختيار شريك القلم و الإحساس، الحروف تعرف جيداً منابعها و مصابّها، تدرك متى تلتقي و متى عليها أن تمضي بعيداً، الحروف أرواحٌ نراها في سطورٍ بيد أنّا لا نبصرُها.
تناولت رسائلهما موضوعاتٍ ساخنة و أخرى نعايشها بدافعِ الاعتياد، حرّكا في نفسي مواجع أهدهدها غير أنها لا تنام. تحدثا في أمورٍ شتى: دورِ الكاتب و أهدافه، الفرقِ بين الكاتب الحقيقي و الموجّه، آفات تنخر جسد مجتمعنا؛ عنصرية طائفية مذهبية و سواها،
الأحلام التي لا تغفل عنها عين الواقع القناصة، الأرصفة التي شكّلت مادة دسمة للفكر و الأدب أو الفن في المجتمعات المتقدّمة، حرب الظّروف الحياتية على المرء حتّى يبتعد مكرهاً عن وطنٍ أحبه، الشّعر، الرّجولة، الغربتين: الاختيارية و الإجبارية، و الكثير الكثير.
الصّدق مارد يُخرِج كلّ جميلٍ فينا، لذا ظهر جليّاً فيما باحَ به الكاتبان. و إن كان البعض يرى أن الرّسائل مخاطبة الغائب بلسان القلم" فما رأيتُ الغياب بينهما إلا وهماً؛ كانا حاضرين معاً على طاولة البوح و رحتُ أنصت إلى حديث قلبيهما، أعيش رحلاتهما، بعدهما المكانيّ عن الأحبةِ، مشاغلهما، أفراحَهما على الصعيد الشخصيّ و المهنيّ، صداقتهما في زمن عزّ فيه الوفاء.
أقوالٌ لحكماء و أبياتٌ لشعراء، أمثال و قصص، كلّها عبرت منسابة فيما كتباه، دعمت مُشاهداتِهما و آراءهما التي نأت عن التطرّف أو الشّخصنة، أشبعت حبّاً للأرض للوطن، للأصالة و القيم النبيلة. أكبرتُ فيهما الإيمان العظيم بدور القلم و صاحبه. يقول الجميعي:
" كلّ كاتبٍ عليه أن يحرّك العقول، أن يحدث بها هزّاتٍ منتظمة تعيد الذات المسلوبة إلى أصحابها، و تكشف لهم عن حقائق الأمور".
التقطت عباراتٍ وثيقة الصّلة بالمهنة: ( لا يوجد أي مخرج للطوارئ فيها، تكون علاجاً نفسياً و قد تكون شيئاً عارضاً، اختمرت خلاياه )، و كلمات عديدة: ( النمو، الحبو، الانقراض، النضج ..).
استوقفتني أخرى لجمالها، قادتني إلى التمعن جيداً في بريقها و التسكع بين جدرانها، قفز لها قلبي. مثل:" في الدهاليز العشوائية و العمارات المتقاربة؛ حيث تتلصّص الشبابيك على بعضها بعضاً تحت مباركة الجوار." صور تغريك، تهاجم رأسك، تذكّرك بوطنٍ نسيكَ و ما نسيته البتة. و كنا في حديث مضى مع د. مجدي، لم نخفه فيه أنّ معظمنا يرى الأطباء عمليين جداً لا يجدون وقتاً فائضاً للمشاعر، ليس هذا اتهاماً بالقسوة إنما واقع العمل لا بد أن يسطو على جزء منا، حتى فاجأتني إحدى رسائله و تركت فيّ أثراً كبيراً: " تعود بي الذاكرةُ إلى الليالي الباردة التي كنت أخرج فيها بحثاً عن وطن صغيرٍ يلمّ شتاتي، فمددت يدي لكثير من المارة، لم يقبض أحد منهم عليها. كم كانت أشواك الواقع تغتال لحظات الخيال التي ننسجها بحذرٍ و أمل. بيد أن الأشياء تأتي عندما نتوقف عن انتظارها."
لكن لفظةَ العقلِ لازمةُ الكثيرِ من الرسائلِ، حاضرةٌ تغربلُ الوجع بين السّبب و التأثير، تقودنا إلى الرّبط بين طبيعة العقل و الحالةِ الجسدية، التأثير المتبادلِ بين العقل و الجسدِ في فلسفةٍ أربكت الدراساتِ منذ القدم. فالتسطح الفكريّ، التلقين، العدوى، التّكرار،
تهميش العقل، الخطابات التي تغيّب الوعي و غيرها تقودنا إلى مجتمع يصفه الجميعي بمجتمع" تُشترى فيه بعض الذمم"، يقول:" هذه الإزاحة للعقل من الواقع تعود سلباً على الفرد و المجتمع معاً؛ بتعطيل الحراك بأشكاله المختلفة أو على الأقل بتضليله، لذا تجدُ
الشعوب الغربية منتشرة كالجراد في أصقاع الأرض. " ليؤكد د. غرسان مقولته: "كم من غريب نفته الأيام خارج أسوار الوطن لأنه لا يريد البيع في سوق الذمم".
أعادتني رسائلهم إلى لذّة الرسائل العفوية، إلى رسائل الأمهات اللواتي لم يكنّ على علم أنهنّ أديبات بالفطرة، يكتبن لأبنائهن و بناتهن فيض عاطفة و مطر وصايا، إلى تلك الرسومات الصغيرة التي تبدعها أنامل الصّغار، رسول براءة حباً، فرحاً، حزناً. تغدو مادة للدراسات و البحث في كوامن النفوس. الرسائل حيّة و إن توقفنا عن كتابتها.
أياً كانت الدوافع التي جعلت فارسينا يستلان قلميهما، يخطّان فيه ما كان و ما يكون، متوجّسين من القادم بعض الشيء، فإن ما نثراه ما هو إلا بصمة طيبة في الأدب، مؤيدةً قول د. غرسان:" النّصوص المكتوبة تحت سياط الألم تكون أكثر دهشة".
و قول الجميعي أيضا:" الفكرة أحياناً تجبرني على الكتابة و تجعلني أفضحها برسالة عاجلة".
* كاتبة وقاصة