غربة عكسية
بقلم الأستاذة / جولان رشاد الواوي *
إلى كل الذين عادوا إلى أوطانهم بعد الغربة، أو أعيدوا إليها مرغمين ؛ لا تحزنوا فأرض الله واسعة ورزقه مقسوم للعباد أنى ولّوا وجوههم..
إلى الناقمين على دول الخليج، و الذي بدأ يستبدلهم بآخرين مواطنين؛ لا تغضبوا فهذا حق لهم قبل كل شيء..
ما من أحد منّا ولى وجهه شطر الغربة إلا وهو يعلم أنه سيعود إلى وطنه يوماً ما، لكن ترف العيش أو اعتياد الغربة أو ابتعاده عن مشاكل وطنه وهموم أهله ؛ أنساه ذلك الأمر، وربما لو أنهم لم يعودوا قسراً لما عادوا..
كونوا ممتنين لكل لحظة قدمت لكم فيها الغربة من خيرها كما قدمتم أنتم لها من خير نفوسكم، ولا تلوموا أهل البلاد إذا تولوا زمام أمرهم واستغنوا عن بعضنا، إنما قاسمناهم اللقمة وشربة الماء، وظللتنا ذات السماء لما كانوا بحاجة بعضنا، فلما اشتد عضدهم صار من حقهم ان يتولوا زمام امورهم ويستأثروا بخيرهم، إنمّا تبنى الحضارات بالناس ، يشد بعضهم بعضاً.
ولماذا يغضب المعلم من تلميذه ، إن ما يسعدني أكثر هو القيادات والكفاءات التي أخذت فرصتها أخيراً في وطنها وبين شعبها، وأشهد والله أنه جيل مفتخر تلقى أفضل التعليم واستحق فرصته بالعمل.
وربما يقسم الله الرزق في أراض أخر تحتاج الإعمار وسيكون لنا من ذلك الرزق نصيب وافر..
قد أبقى في غربتي لبضع سنوات أخرى ، أو لعلني سأعود في ظرف شهور ، لكنني لن أحزن ابداً، فالغربة كانت بلسماً عندما منحني الناس هناك حبهم واحترامهم وقاسموني أموالهم، وهذا في الأول والآخر قراري الشخصي الخاص عشته كما أردت، فلم أؤجل حياتي فيها يوماً واحداً كما كان يفعل آباؤنا قديماً، إنمّا أخذت وأعطيت كما لوأنني في بلدي وأكثر، وربما لم أدخر ما يكفيني كي أبني قصراً في بلدي ، إلا أنني ادخرت ما يكفي من الإحساس بالحياة والذكريات والخبرات التي تجعل لحياتي معنى ولا تتركني نهباً للشعور بأنني كنت ضحية الغربة يوماً ما.
عشت في الغربة كما عشت وسأعيش في بلدي كما يجب أن أعيش، كل يوم بيوم دون تأجيل أو تعجيل ، مؤمنة بأن الأرض التي أنا فيها طيبة؛ رزقها وفير وشعبها نبيل، وعندما يرث مكان عملي أو عمل زوجي شخص من ذات البلد فهذا انتصار لي لا خسارة ، فلماذا ننتقد ذلك ونحن أحرص الناس على أن يكون لنا موضع قدم في بلادنا إن عدنا يوماً؟
إنما ارفع قبعتي للجيل القادم، الذي اهتم بالعلم كما لم يهتم به أحد، وأخذوا بالأسباب ، وأشرفوا على مستقبل بلادهم والذين هم أحق بالوصول إليه ..
عد إلى وطنك مرفوع الرأس معتزا ببلاد أكرمها الله بأهلها ، وعمّر بلادك التي كدت تنساها، فلطالما بكيت البعد والترحال، وتحسرت على ضياع العمر بعيداً عنها ..
الرزق لم يكن يوماً محصوراً بالمال أو المتاع، إنه في الصحة والعافية والعودة إلى الأهل وصحبتهم في سنوات قد تكون الأخيرة لهم، في الرضا والقبول، في الدعوات في الذكريات الجميلة والعزيزة ، والمشاعر الصادقة للبلد التي وقفت إلى جانبك و أسهمت في اشتداد عضدك كما أسهمت أنت في اشتداد عودها .
أهل مكة أدرى بشعابها، والقافلة لا بد أن تسير وإن حطت رحالها مدة من الزمن ، كن ممتنا لأنك رأيت نهضة بلاد أحببتها وعشت فيها، ولا تكن ناقما فيضيع تعبك وعمرك وأجرك..
بارك الله للخليج بأهله ورزقه وأولاده، ومتعهم ببلدانهم وأراضيهم ، وأراهم فيها أياما مشرقة تنافس حضارات الأمم العِظام ، وبارك الله لنا في بلادنا وعودتنا إليها واجتماعنا بأحبابنا وأهلينا ومكنّ لنا فيها مكاناً طيباً رغداً ..
* كاتبة وروائية