حقيبة متربةٌ و جوربٌ أبيض
بقلم الأستاذة / خولة سامي سليقة *
اصدق إلى أن تظنّ الصّدق مهلكةً و عند ذلك فاقعد كاذباً و قمِ
ما الحلّ حين لا يكون الكذب متاحاً؟ حين يكون جلدُ الوجه بالغَ الشفافية يُرى خلفه كلّ شعور عابرٍ أو مقيم، يتوقف لسانك عن أداء مهامه و تتيبس شفتاك بعد العطالة الدائمة، مادام يفضحكَ اعتمال الأفكار و اضطرابُ المشاعر على مسرح مفضوحٍ، سُرقتْ أو اختفت ستائرهُ السّميكة و ظلت تُهمة الصّدق.
أبدع القاصّ حسام القاضي في قصته المعنونة باسم" عملية جراحية "، قال فيها:
" كنت كلّما تقدّمت في السّن تزداد شفافية جلدي، أقصد وجهي. تزداد معها مشاكلي و كره الناس لي، حتّى أنني لم يعد لديّ أصدقاء.
يا الله! أإلى هذا الحدّ يضيّعنا صدقُ المشاعر و نقاءُ السّريرة؟ رغم المخاطر المحدقة بنتائجهما أحببتُ فكرة أننا قد نزدادُ شفافية مع التقدم في العمر، ثمة فسحة سنكون فيها على طبيعتنا نتخلى عن النفاق، نقولُ ما نفكر فيه دون أن يدفعنا الآخرون إلى قول ما
لا نفكر فيه أبداً. في شارع قد لا يطول عبوره لكنه مضاءٌ تماماً بشمس لا يحجبها دوران الكرة و لا غيره.
إيه لو كان صحيحاً، حقيقياً، ما أجمله!
القاضي ابن بيئة ينقل أوجاعها بأمانة عبر مجموعته القصصية" حقيبة متربة و جورب أبيض" بلغة تدهشك بساطتها و ضرباتها الموجعة في آن معاً، أتابع ما ينشره على صفحات الصحف أزداد احتراماً لقلمه المخلص لقضايا الوطن و همومه، في زمن غدا
الانشغال بالهم العام مبعثاً لسأم البعض و حروبهم على كلّ عمل جادّ و حرف مسؤول، بحجة أن هذا النوع من الكتابة يثير الأحزان و الآلام بلا جدوى، كأن حياة العربيّ جنّة، حدائق ورد و لوحات فرح!
عانقت معظم النصوص أوجاعي الدفينة؛" و لكنه حيّ"، "ربطة عنق" ، و أشدها تأثيراً على النفس كانت قصة" نفس ما أرادوا" ، لتؤكد محدودية الحيّز الذي تصحّ فيه مقولة:
"و داوني بالتي كانت هي الداء "، هناك حيث تكون نهاية الحياة على شكل حياة جديدةٍ، لكن يسكنها الموت و يضمن نتائجها شيطان الخوف فقط. فما أكثر من قالوا في متلازمة صدمة الاعتداء الجنسيّ، إذ قد تظهر الضحية هادئة و لم تتأثر بالاعتداء
عليها، لكن البركان يفور في صمتٍ.
أجاد الكاتب في إبراز السلوكيات المرافقة للمرحلة الحادة؛ من تبلد الإحساس، الحيرة، العاطفية، الفكر غير المنظم، التقيؤ و الغثيان، القلق، الهوس في التنظيف، الارتباك و البكاء، و الأقسى على الإطلاق ادّعاء النسيان.
الجهل دوامة نخرج منها بالقدم اليمنى لتعيدنا إليها القدم اليسرى، لا نفكّر بعواقب الأمور جيداً، لا يلزمنا طبّ و لا طبيب، تجاربنا الفاشلة تطبب جراجنا لتزيدها عفناً، إلى أن تضيع الأرواح، الوجوه، الملامح في زحمة أمراضنا المجتمعية الموروثة.
و يقودني هذا إلى قول الكاتب في قصته الجميلة بعنوان (مرايا ): " كلّ ما يذكرهُ أنه فجأةً لم يعدْ يرى نفسه، رغم أنّ الكلّ يراه" .
* كاتبة وقاصة