قلم لا رقي معه!
بقلم الدكتور / أحمد محمد الجلعود *
أخذ مقعده وسط غرفة الانتظار في إحدى المستشفيات، شاب في الثلاثين من عمره، جميل متناسق الهندام، تزين بجيبه بقلمين اثنين، يحمل بين يديه كوب من الشاهي الحار وضع عليه بعض من أعواد النعناع التي نثرت رائحة زكية منعشة عمت المكان كله. بدأ الشاب بتحريك الشاهي بملعقة بيضاء بلاستيكية، ارتشف رشفة من مشروبه الحار وأتبعها بأخرى وبعد أن تأكد من جودة الطعم وحلاوة المشروب وتغلغل مذاق النعناع القوي مع مشروبه الحار، جمع كيس الشاهي الورقي مع أعواد النعناع وسط الملعقة البلاستيكية ورمى بها دون مبالاة تحت الكرسي الذي كان يجلس عليه! كان على بعد خطوات وبمرمى بصر منه حاوية نفايات صغيرة وأخرى على بعد خطوات وثالثة في زاوية غرفة الانتظار! اختار هذا الشاب أسهل الحلول له وأكثرها إزعاج للعين! أكمل الشاب ارتشاف مشروبه الحار وكأن شيء لم يكن، غير مبال حتى بنظرات البعض الممتعضة والمشمئزة من تصرفه غير الحضاري. كنت أراقبه من بعد وفِي داخلي صراع هل أحدثه أمام الناس من باب النصح والتوجيه، أم انتظر لعله يصحح خطأه ويخيب ظن الجميع بما فيهم أنا! وبينما هو يرتشف مشروبه برشفات متتابعة وعلى عجل حتى تساقطت بعض من قطرات الشاهي على حذائه (أجلكم الله)، تمعر وجهه وبدأ بمسح الشاهي منهما بيديه العاريتين! وبعد أن تأكد من نظافتهما عاد السرور لوجهه وأكمل استمتاعه بمشروبه حتى أنهاه. كنتُ لازلت أتابع الأحداث خطوة خطوة وكلي أمل أن يخيب ظني فيه ويصلح ما أفسده. انتهى من مشروبه ووضع الكوب تحت الكرسي بجوار الملعقة البلاستيكية وأعواد النعناع وكيس الشاهي الورقي الذي كان لازال رطب وترك أثره على الأرض! اعتدل في جلسته وأعاد ترتيب شماغه وعقاله ونهض على عجل وغادر غرفة الانتظار وسط دهشة البعض وخيبة أمل كبيرة أصابتني. مشى الشاب بعيدا عن غرفة الانتظار واختفى وسط الزحام. عشت لحظات من الغضب العارم ومسؤوليتي في الصمت عن مشهد انعدم فيه الاحترام وتم إزهاق جسد وروح الرقي مع سبق الإصرار والترصد! بقيت ألوم نفسي على سكوتي حتى قطعت الممرضة صوت الضمير الذي كان يعنفني منذ لحظة رمي الشاب مخلفاته، نبهني والدي الذي كنتُ أصحبه لموعد مراجعة الطبيب في إحدى المستشفيات في مدينة الرياض. سرت مع والدي وسط الممرات خلف الممرضة حتى وصلنا العيادة، صافحت الطبيب وطلب مني بعد ذلك الانتظار في الخارج حتى يقوم بفحص والدي. وقفت خارج العيادة أنتظر وبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذلك الشاب يقف أمامي! لم أتمالك نفسي واقتربت منه وصافحته والابتسامة تملأ وجهي. شرحت له ماحصل بكل أدب واحترام وصوت منخفض، بادرني بالاعتذار والاعتراف بخطأه. أخبرته أنه من الشجاعة والرقي تصحيح الخطأ. وافقني وسار نحو غرفة الانتظار وهو يلتفت بين الحين والآخر نحوي! وبلمحة بصر قرر أن ينتصر بتصرفه الهمجي غير الحضاري ويغادر المكان دون أن يصحح جريمة اقترفها بحق المكان ومن فيه. لم يشفع له حسن هندامه في نفسه ولا الأقلام التي كان يحملها في جيبه! مظهر الرقي الذي كان يتوشحه ما كان إلا كذبة خدع بها نفسه قبل مجتمعه.