بطرف عينك
بقلم الكاتبة / مروة بخاري *
قصتنا حدثت من قبل، وقد تحدث فيما بعد..
وتستمر معك..
في كل ركن تلمحه بطرف عينك..
ينتظرك دائما..
تساقط المطر غزيرا وكأنما يعبر عن غضب دفين، يضرب به الأرض ويصدح في سواد الليل، توقفت سيارة صغيرة امام مبنى كبير من الاجر الأبيض يمتد لعدة طوابق، لم يحمل المبنى لافتة تدل على محتواه، مثل الراكب الذي ترجل وملامحه لا تدل على هويته.
كان يرتدي بذلة بيضاء اِصفر لونها، ويضع سترة رمادية غرقت تماما مثل خصلات شعره السوداء، استقبله مسن شاحب يرتدي ثيابا بيضاء مغطاة ببقع من الدم الجاف والدهن.
بدا داخل المنزل العجيب خليطا من تصاميم القصور وإهمال المستشفيات ورداءة الفنادق، جدران بيضاء مزخرفة بتعرجات ذهبية تآكلت وتقشر سقفها، طاولة زجاجية انيقة غطاؤها التراب، حفتها الأوراق واغلفة المجلات الممزقة، كرسي متحرك ذو عجلة مفقودة يعلن عن نفسه في وسط الردهة الباردة، لا نوافذ ولا ثريات بل باب وحيد بثلاث اقفال.
سلالم جانبية قادته لأعلى، درجات مختلفة، هل الإضاءة الخافتة السبب؟
ام انه يرى الوانها مختلفة، هل الأسود هو صاحب اللون؟
ام ان خطواته تختفي كلما تجاوزها؟
وصل الى ممر يحوي غرفاً عديدة، كل بابٍ منها يوضح تصميماً مختلفاً، باب اخضر يحمل مقبضا ذهبيا يحاذيه باب بني اغلقته السلاسل بعلامة الضرب، يتقدمهما باب ابيض لا يملك مقبضا بل فتحة دائرية بيضاء تمنحك حق اختلاس النظر، باب أخير محترق، لطخ السواد جزءً كبيرا من لونه الارجواني، كان مقفلا ، أو هذا ما ظنه انتظر من مضيفه أن يفتحه، لكنه كان وحيدا، أدار قبضته النحاسية فانصاعت، استقبلته صاعقة مدوية من خلال النافذة الزجاجية العملاقة التي احتلت جزء كبيرا من الغرفة، غرفة فتاة صغيرة ذات ارض وردية و ستائر قرمزية و ورق جدران برسوم ازهار، لكن من انتصف الغرفة مقيدا بثياب المرضى الأبيض الشهير على كرسي خشبي ملتصق بالأرض ليس بأنثى، لم يكن شابا أيضا، ولا عجوز قاربت نهايته، كان مترهلا ، شاحبا، فزع العينين، مقيدا بحبال تغطيها سلاسل، عيناه الجاحظتان تحدقان به.
ترك الباب مفتوحا وتقدم بحذر منه، فَهِم سبب جحوظه، لاصق شفاف منع جفنيه من الانزلاق، الفزع الذي تخيله كان بسبب جفاف عينيه التي احاطها الاحمرار
فكر ان يزيل اللاصق، لكنه لم يفعل، ظل ينصت لغضب العاصفة وينتظر، بصبر، ما سيحدث
فجاءة انقطع التيار الكهربائي!
وتُركت الغرفة في ظلام دامس، تحت رحمة لمعان البرق، اخترق الصمت همس بصوت غريب:
-انه هناك
هل كان صوت طفل خائف؟
لا يعقل ذلك!
-انه على بعد خطوات
بل هو صوت امرأة مرتجفة
-ينظر اليك دائما
كلا!! بالتأكيد انه صوت رجل ثمل!
ضربت صاعقة الفناء! تبعها ضوء هائل من برق اضاء ما بين السماء والأرض! في تلك الجزء من الثانية تمكن من ان يرى بوضوح شديد
الغرفة خالية!
وكأنما انطلقت إشارة فزع بدأت الهمسات تعلو وتعلو مختلطة بين فزع الطفل وانفعال الشاب وارتجاف المرأة وغضب العجوز، كانوا جميعا يهمسون معا، أو يتبادلون الادوار
-اتعرف هذا الشعور، عندما تسير لوحدك، عندما تعبر بجوار تلك الحجرة المظلمة، او حتى من ذلك الباب المغلق!
-انت تفهم ما أعنيه اليس كذلك سيدي! تلك الشعيرات الصغيرة التي تهرشك خلف عنقك
-اووه انت تحاول خداعي اليس كذلك؟ انت.. انت تظن أن بإمكانك خداعي يا صديقي تعتقد ذلك؟ لقد كنت هناك!! لقد كنت هناك أيضا!!
-يا إلهي الرحيم، لقد كان الامر عابرا في البداية، انت تعرف أن النساء اشد حساسية من الرجال، لكنني لم أرد أن أكون هستيرية، وتجاهلت الامر
-أيها الولد الغبي، تظن ان الامر مجرد هراء!! ترى أنك أفضل من ان يحصل لك هذا!! ولد غبي!! لطالما علمت أنك غبي!!
-لقد قال إنك نظرت اليه، إنه يعلم أنك نظرت اليه يا عمي، ولقد نظر اليك، لقد نظر الى عينيك مباشرة، كما ينظر اليك الان!!
صرخة حادة مريعة شقت حدود الثبات، صرخة غير طبيعية، لم تكن بشرية، اشبه بصراخ حيوان يشهد أعتى أنواع العذابٍ.
موسيقى حزينة اشبه بما يعزف في الجنائز تهادت من البعيد، خافتة جدا، بالكاد التقطها وحاول تتبعها وسط هجمات الرعد المفاجئة، سار بحذر يتلمس طريق الخروج، تحسس الجدران التي بدت له لا تنتهي، وصلت يداه الى ما ظن انها النافذة الزجاجية الباردة لكن الظلام لم يمنحه تأكيدا، علم حينها ان الباب قد اختفى!
توقفت الموسيقى، وساد الصمت مجددا، قطرات ضعيفة من المطر أدت عملها بأكبر قدر من الهدوء الذي خلفته العاصفة، ام التي تتبعها؟
تعالى الرعد فجاءة هادرا بقوة، الان...فَطِن انه معه!
ذلك الكيان الخفي، الذي تلمحه في الأركان، وتراه أحيانا عندما توقظك نظراته في منتصف الليل، تعلم يقينا انه بداخل تلك الغرفة المظلمة، لكنك تخبر نفسك أن الضوء المنتظر يرسم لك خيالات.
لكنه كان موجودا بالأمس..
وسيكون موجودا غدا..
وهو معك الان في هذه اللحظة..
تلمحه بطرف عينك..
وتفقده عندما تستدير..
ومع كل رمشه عين يقترب منك أكثر..
وفي كل مرة تتمنى أن يذهب بعيدا..
قد تنجو اليوم منه، لكنه سيعود مجددا، وفي كل مرة تكون رسالته واحدة..
قد تكون انت التالي!!
" الخوف هو المسار إلى الجانب المظلم. الخوف يؤدي إلى الغضب والغضب يؤدي إلى الكراهية والكراهية تؤدي إلى المعاناة ".