الكتابة كعلاج نفسي
بقلم الاخصائية النفسية/ خلود الحارثي*
مشروع الكتابة هو الطريق المنظم للأفكار ،ورؤية التنظيم الإدراكي في مراحل لاحقة من الكتابات الأولية لكثير منا ،سواء كانت هذه الكتابات تأخذ شكل التدوين اليومي أو مذكرات معينة ..
كثيراً ما يسعى الآخرين لتجربة الاشياء المفيدة التي لربما تساعدهم في تحديد تصور ،أو مفهوم اتجاه اهدافهم وحياتهم ،أو ربما وضع إطار لحدود مشاكلهم ،والبدائل المقترحة. كيف لهذا أن يكون دون أن يُكتب ويفصّل!
لذا نرى فرص بعض الكُتاب الوحيدة للتعبير عن انفسهم واحلامهم ،وطموحاتهم ،ومشكلاتهم ،وصراعاتهم تنساب بين اقلامهم في شكل كتابات تخلّد لهم هذا الكم الهائل من الاعترافات الشعورية إلى تأليفهم لروايات وقصص تعبر عن واقع ما ،أو خيال واسع ويكون من خلاله نقل الكثير من العواطف والافكار إلى مستوى شعور الآخرين حين يقرأ هذه الكتابات ،وتلامس الكثير من احوالهم..
فلا عجب أن يتخذ العلاج النفسي طريقاً بطالبيه نحو الكتابة كأسلوب معرفي يتضمن فيه كتابة الافكار المقلقة ،أو وصف للمشاعر المؤلمة في حدود عبارات كتابية مبدئية. في سبيل أن يرى الفرد مدى تعدد افكاره وعدم انتظامها ،وكيف تكون علاقتها بشعوره في صورة مشتتة أوليه وقد يتساءل ما فائدة ما كتبته الآن !؟
يأتي توضيح وتنظيم افكاره وتحديد مشاعره بعد أن يعطي نفسه مجالاً بعد كتابتها. فيقرأها ويرى نفسه من الخارج ؛وكأنه يطّلع لعمقه. تبدأ كتابته بالتبلور حول معاني عديدة. قد تتصف بالحرية ،بالتفريغ ،أو كتنفس ورقي..
يساعده هذا الاسلوب العلاجي على تحديد الهدف الأولي من العلاج وهو اعادة التفكير نحو تنظيم فاعلي ،بتحديد المشكلة وفهمها وبالتالي يساعده بوضع حلول وبدائل ممكنة لينتقل لتطبيقها وحصر النتائج السارة له.
هنا الكتابة تعمل كدور المنظار المكبر ليرى الفرد زوايا ذاته ويساعد في كشفها وفهمها ايضاً..
وهناك استراتيجيات اخرى لتوظيف الكتابة بشكل جيد "كالعلاج القصصي الكتابي" بأن يسرد الشخص حياته كقصة لتُقرأ فيما بعد فيشرع في الكتابة.
نجد من ينسخ ذاته بكلمات تصف احداثه وحساسيته بشكل مذهل ؛مما يساعد على قراءة مواطن قوته وضعفه ،وهو غير مدرك اثناء الكتابة ويستخرجها مع معالج ناجح في ذلك..
فالكتابة كنوع من الإزاحة ؛لإفاضة الروح بكثير من المشكلات والألم والمكبوتات ،ومشاركة الضغط النفسي على الورق بخواطر ،أو اشعار ،أو ربما نصوص ،أو ربما كلمات غير منتظمة ؛ولكنها في سياق تشعره بنوع من ازاحة العبء عن عاتق القلب..
اشهر الكتّاب الفنيين اظهروا بالكتابة تقلباتهم المزاجية فكان طريقهم للإبداع يوما ما.. مثل:
- (ديفيد فوستر والاس) كاتب روائي وقاص وكاتب مقالات ،وأشهر مقالاته كانت "طبيعة المتعة" وهي عبارة عن تأملات حول دافع الناس للكتابة... وما يتعلق بالكتابة.. وحدّة الطابع البشري.
- (آن سيكستون) شاعرة حاولت في مرحلة علاجها بكتابة الكثير عنها بصراحة مطلقة فكانت نافذة لشهرتها قبل رحيلها. جسدت معاناة الاكتئاب لمن اراد أن يفهم هذا الصراع..
- (إليزبيث بيشوب) شاعرة وكاتبة قصة قصيرة جسدت في كتاباتها العديد من الاشياء التي كانت نقطة تحول وتغير في حياتها ففي احدى ققصها جسدت اصابة والدتها بالمرض العقلي وصراعها ومعانتها آنذاك..
- (فرانز كافكا) روائي كان يعاني من اضطرابات نفسية عدة ولكنه عُرف بكتابته لخيالاته وهلوساته على ورق وعرف بإسلوب "الكافاكاوي" نسبة له..
والقارئ النهم لمثل تلك السير يجد الرابط الإبداعي لهؤلاء الأشخاص هو تحول كتابتهم لأعمال فنية تلقت رواجاً بين مختلف الأذواق وشهرة عالمية ؛ولكن ما يجمع بين هؤلاء بعض الكتابات الاعترافية حول تعاملهم مع الافكار السلبية والاحباطات المتكررة ؛مما كانت نهايات بعضهم مؤسفة والموت انتحاراً..
هذه النماذج المبدعة وغيرها الكثير اصبحت ظاهرة في الوسط الفني والطبي ،ودعت إلى فكرة "العلاج بالكتابة" أو "المعالجة النفسية الكتابية" وهو مساعدة الفرد في كتابة مشكلته واعراضه النفسية التي يعاني منها ،وبالتالي مناقشتها مع معالج نفسي لتساهم هذه الطريقة في فهم الفرد لذاته واستكشافه جوانب من حياته لتكون فعالة لكيفية التعامل ومواجهة الأمور بشكل جيد واحتواء مصدر مشاعره..
هناك من يرى بأن الكتابة انتصار على النفس والحياة..
وآخرين يتجهون على أن الكتابة بمثابة الرئة الثالثة التي يتنفسون بها..
وهناك من يرى أن يصل لسلامته النفسية حينما يكتب ليبعثر شعوره بالفشل ويشعر بالإنجاز..
وليس بالضرورة أن تشمل الكتابة على الأفكار المبدعة أو الملهمة ،أو تكون شاعراً أو مؤلف ، بل أن مهمة الكتابة التعبيرية أي كان نوعها "كفضفضة نفسية" تساعدك على تخفيف حدة الشعور بالغضب ،والقلق ،والوحدة ...
هذا من شأنه يساعدنا على التصالح مع الواقع كجزء من ادراك المشكلات ومواجهتها وقبولها وهذه تعتبر شجاعة نوعاً ما..
وهذا النوع من العلاج مفيد جداً في علاج اضطراب ما بعد الصدمة كونه يوفر للشخص مواجهة الاحداث وصياغتها من منظور آخر مشكلاً تحدياً في قبول تكرار الأحداث المشابهة وقدرته على تجاوز هذا الحدث الصادم النفسي..
وفي حالات العلاج بالكتابة قد يصاحبها اعراض جسدية مصاحبة للحدث وقت حدوثه نظراً لإعادة كتابة الحدث من جديد كالتعرق ،الخوف، زيادة ضربات القلب ؛ولكن مع الوقت وتكرار الصياغة الكتابية للحدث مع تدريبات سلوكية للاسترخاء يكون أكثر فعالية..
أرى تعزيز الصحة النفسية بالإبداع من خلال العلاج بالكتابة مثله مثل العلاج بالرسم والفن ،وأنه منحى جدير بالاهتمام.
ولخطوات عملية لمعالجة نفسية ذاتية كتابية:
- ممارسة الكتابة اليومية بانتظام لمدة ١٥ دقيقة
- الكتابة الفورية عند حدوث مشكلة أو وقت التعرض لموقف صادم بنهاية اليوم وتكراره لعدد من الأيام لتخفيف شعورك السلبي اتجاهه ومقارنته بأول مرة
- كتابة اهدافك والغرض من تحقيقك لها لأنه يساعدك على ايجاد طرق العمل عليه ،ومراحل التخطيط له ويشعرك بوجود معنى لما تفعله ،وهذا يحسن من الصحة النفسية
- الكتابة عن المواقف القديمة التي واجهتك بشكل خاطئ وذلك من خلال خيالك بإعادة المواقف ووضع مجريات مختلفة عما كانت عليه وتضع نهاية أكثر ايجابية من القديمة وكأنها حدثت بشكل مختلف عن السابق كمثل: تعرضك لسخرية في اجتماع ما فلربما كانت السخرية لطرفة ما ذُكرت دون أن تسمعها أو لربما لظرافتك في الطرح ...
- الكتابة المنفردة هي بيئة آمنة لتفريغ توترك العصبي والضغط المستمر في ضيق الحياة اليومية ،ولكنها في حين تعرضك لأزمة نفسية قوية وتعيقك من مواصلة الحياة بشكل سوي عليك استشارة مختص نفسي ؛لأنها قد لا تكفي كوسيلة علاجية.
* كاتبة، وعضوة في رابطة كاتبات الغد