قصة "زوار"
بقلم الكاتبة / مروة بخاري *
الاشباح لا تستيقظ نهارا، تتكوم هي والوحوش في الجو الحار بحثاً عن أي كوة مغلقة تمنع الضوء والازعاج عنها، هذا ما أخبره جده به عندما زاره في المرة الأخيرة، لذا عندما طلبت منه أمه أن ينشغل بأي مصيبةٍ بعيدا عنها، لم يجد أفضل من المنزل المجاور الخالي ليجد فيه مصيبته!
كان منزلاً فخماً أو هكذا رأه صاحبه، قبل أن يكتشف أنه قام ببنائه على أرضٍ لا تخصه، فأوقف العمل بعد أن كاد ينهي منزل أحلامه، ومن يومها لم يزل المنزل مهجور النوافذ والابواب يدعو صاحبه للعودة إليه.
ذكرته النباتات الخضراء الجافة التي تجمعت في كومة ضخمة أمام الباب الرئيسي بقصر الأشواك الذي احتوى الجميلة النائمة بداخله.
دار حول المكان تحركه غريزة الفضول باحثاً عن مدخلٍ جديد وما أكثرها وأسهل دخولها على جسده الهزيل.
قفز عبر النافذة الحجرية حيث تدفق شعاع الشمس يضيء بقعةً من الأرض الجرداء بينما تلاحقت الظلال تندمج مع الظلمة التي تغلف الأبواب الخشبية، رأى نقاط النور تحيطه مع ذرات الغبار التي فزعت من قفزته واخذت تحيط به كهالة حمايةٍ مما ينتظره.
باستثناء الاتربة لم يكن هناك أثر لقاذورات أخرى أو حتى حشراتٍ زاحفة تختبئ في الأركان.
لم يسله هذا، أراد حمل بضع حشرات ضخمة ليشاركها رفاقه في المدرسة، لكنه تقدم أملا في أن يجد غيرها بداخل الغرف الدافئة.
ضغط المقبض الجاف ودفع الباب ليصدر صوت أزيزٍ طول كأنه جرس يعلم الساكنين بزائرهم، حاولت عيناه اعتياد اللون الجديد الذي أمامه، كان بين الضوء والعتمة بدرجاتٍ مختلفة، يتجاذبان الطاقة ليظهر بالكاد صورة غروبٍ طفيف تبتلعه ظلمة الليل الداكن.
أخذته الإثارة كونه مالك هذا الفضاء الفسيح، فشرع يركض بين الغرف الخالية، مساحة شاسعة أخذ يفرغ فيها طاقته، المكان كله متشابه هدوء لا يقطعه إلا ضحكاته، ركض وقفز ولعب حتى أنهك، جلس على الأرض لاهثاً غير مبالي باتساخ ثيابه البيضاء منتظراً أن تسمح أنفاسه بالجولة الثانية.
حينها لاحظ الظلمة التي تكتنفه، اتسعت عيناه وهو يرى العدم يحيط به، لم يعرف اسم اللون الجديد، لم يبلغ كحله حدود البحر الداكن، ولا ظلام منزله عندما تنقطع عنهم الكهرباء، كان سواداً من نوعٍ مختلفٍ تماماً، ظلام مخيف لا يسمح له بالرحيل!
ازدادت ضربات قلبه التي لم تهدأ من مجهودها السابق، وجد نفسه يقفز وهو ينادي أمه بفزع، أيعقل أنه ركض حول المنزل خمسة عشر مرة ولم يحفظ أين كانت النافذة التي دخل منها!
أي عقل يمتلكه!
تخبط في الجدران التي أمست باردة، ضرب رأسه بأطراف الأبواب الخشبية، سمع أصواتاً لم يعلم بوجودها سابقاً، وارتفع أزيز صرصار الليل ليوقف شعر رأسه!
لم يتوقف صوته منادياً أمه رغم انخفاضه وتخلل الدموع والشهقات إليه، وبدأت الرياح الباردة تهب من كل مكانٍ تصفر في أذنيه.
هدّأ الدوار الحالة الهستيرية التي المت به، تحول تعثره إلى زحفٍ بطيء منهك، يدعو الله ألا تقترب الاشباح منه وأن يكون أول ما يلمسه هو ذراعي والده.
لم يعلم إن كان جسده استسلم للنوم أو أنه فقد وعيه ببساطة جراء الفزع الذي اكتنفه، لكنه شعر بجسده خدراً كأنما يستيقظ من غفوةٍ طويلةٍ مريحة.
ولدهشته شعر بصفاء تام حول وجهه، وأخذت عيناه شبه المطبقة تريان المكان.
أمامه لونٌ مختلفٌ عما سبقه، لم يشبه الإضاءة الخضراء التي تنتج عن المنظار الليلي حيث جربه في زيارة لمعهد علوم مع والده، بل كان أشبه بلون السماء حال استيقاظه، سوادٌ بدأ يشّرب من زرقة الصباح، هل اقترب النهار وهو هنا؟
لابد أن هذا ما حصل، نهض بتثاقل مزيلاً ما التقطه وجهه المبتل من أتربة تحولت لطينٍ غطى فمه بمرارةٍ سيئة، ضيق عينه محدقاً في المكان حوله.
-هذا غريب
همس لنفسه وهو ينظر إلى ديكورٍ يختلف كل الاختلاف عماسبقه!
فبدل الأرض الفارغة حوله، حيث لا أثاث ولا ستائر، أمامه مباشرةً انتصب سلمٌ فضيٍ عريض يمتد مرتفعاً حتى الدور الثاني!
كيف لم يره من قبل؟ بل كيف لم يتعثر به أثناء تخبطه في الظلام؟
راجعه الخوف مجدداً والارتجاف يتخلى عن ساقيه لينهار باكياً في مكانه، شعر الان أن مجرد صوته سيجلب الوبال عليه.
لذا ضمد فمه بكفيه وابتلع غصاته وخفف من أنفاسه حتى يسلم من الشر الذي يشعر به لكنه لا يراه.
متى كانت أخر مرة بلل فيها ثيابه؟
كان طفلاً وقتها، ولم يستطع الوصول إلى دورة المياه في الوقت المناسب فأغرق نفسه والأرض تحته بالسائل الشفاف، بكى وقتها للإحساس الساخن الذي سار عليه وبالقلق من العقاب الذي سيناله من والده الصارم.
تمنى في هذه اللحظة لو يأتي والده ويكيل عليه أشد أنواع العقاب، فقط لو يأتي ويخرجه من هنا!
لكن الهواء البارد الذي زاد من رجفته هو الوحيد الذي ربت عليه.
-تعال يا كتكوت
إنه يسمع أحدهم
-اصعد إلى الأعلى
إنه واثق من ذلك، ضحكاتٌ متتابعة أكدت ظنه، شخص ما معه هنا!
رفع رأسه بحذر ليجد القسم العلوي من السلالم مضاء بإنارة واضحة.
هل هم أصحاب المنزل؟ هل يعقل أن كل ما مر به كان مجرد حلم؟
ربما اختبئ الجيران في الدور العلوي خوفاً من المشاكل، أجللقد حصل هذا من قبل في أيام الحرب كما حدثه جده، نهض متمالكاً نفسه وهو يأمل أن يعتذر منهم ويعيدوه إلى منزله.
تسلق الدرجات بحذر وهو يلتفت يمنة ويسرة، فلم يدخل الاطمئنان إلى قلبه كلياً، لكن لم يرى شيئاً أو أمراً مثيرا للريبة لذا عندما اقترب من الدور الثاني بدأ يرتب ذاته لتفسير ما وقع منه وتهدئة قلبه المرتجف مما سيلاقيه.
ما إن لمست قدماه البساط الرصاصي الكثيف حتى وجد الدفء يغمره من الإضاءة الذهبية التي منحتها الثريا العنابية الشكل، وعلى الكراسي الذهبية الفاخرة ارتص أمامه أشخاصٌ كثر من مختلف الأعمار، لم يعرف منهم أحداً، لذا خمن أنهم أصحاب المنزل المهجور.
بسبب كل ما مر به والراحة العجيبة التي ملئته من رؤية بشر وضوء لم يتمالك نفسه وانهار في البكاء والنحيب مرتجفاً كمظلةٍ مهترئة في عاصفةٍ شديدة.
اقترب منه أفراد الأسرة وهم يهدئونه ويطمئنونه، وبلغ بأحدهم أن حمله على كتفيه غير مبالي بالبلل الذي لحق به، بعد هذه الحفاوة التي تلقاها وجدت دموعه أنها ربحت المعركة فانسحبت ببطء إلى مأقيها، أخبرهم بكل شيء وأردف اعتذارا هنا وهناك ولكن لدهشته أخبرهُ كبيرهم أن كل من في هذا المنزل مروا بذات التجربة حتى يصلوا للأعلى.
لم يفهم ما قاله ولم يبالي مادام نجى من العقاب وفي أمان سيهز رأسه لأي موعظةٍ تلقى نحوه.
أعلن رغبته في العودة لمنزله، وطلب منهم مرافقته، تبادلوا نظرات القلق تارة تلتها نظرات القبول تارة أخرى، وأخيرا مضوا عن طريق سلمٍ أخر طويل قادهم إلى نوافذ منزله مباشرةً.
وجد والديه يجلسان بكأبة في غرفة الجلوس التي كانت مشرعةً تستقبل الرياح الباردة، نفث والده دخان غليونه بعصبية، بينما خبئت والدته وجهها في قماشٍ أبيض وهي تنهنه بالبكاء، شعر بذنب يربط عقدة في قلبه، لابد من أنهما قلقين من غيابه، يا له من أحمق كان يجب أن ينتبه للوقت ويعلن عن وجهته، أمال جسده ليدخل إليهما وهناك فوجئ بأمر غريب.
كانت صورةٌ بشريط أسود معلقةً على الجدار الأبيض، صورةٌ له في زيه الأبيض الجديد، تعجب كيف يمكن أن تحتضن أمه زيه بين يديها بينما هو يرتديه؟
لا يهم، المهم الأن أنه عاد وستتوقف أمه عن البكاء، ما الذي همست به قبل أن يذهب؟
(أتمنى أن تزورنا أي مصيبة لأنشغل عن كل هذا الحزن)
لقد أحضر لها العديد، العديد من الزوار، وستنشغل بهم كثيراً، هاقد انطفئت الانوار، والان حول والديه المذعورين يجتمعون جميعاً.
(لا تحزن. أي شيء تخسره يأتي في شكل آخر ~جلال الدين الرومي)
* كاتبة ، عضوة في رابطة كاتبات الغد