سَيكولوجية الكَذّب و انتشار الشائِعات
بقلم الدكتورة / ناهدة الزهير *
ظاهِرة الكَذِب هي من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تُفسد المُجتمع و تحَوّله إلى مُجتمع مريض مع مُرور الزمن. و بسَبَب الدوافع المُختلفة و المَصالح المُتنوعة التي يَنشأ عنها الكِذِب فإنّ هذه الظاهِرة لا تقتصِر على الأفراد بل قَد تتعداها إلى المُؤسسات المُجتمعية أيضًا.
من يَلجأ إلى هذا السُلوك السلبيّ (الكذب) يُحقق حاجتَه لإثبات الوجود بتصَرّفاتِِ "سيكوباثية" قَد تنكشفُ أو لا يُعيرها الآخرون الاهتمام فلا يُفتضح أمر الكِذبة عن قَصد.
في "المُعدّل الطبيعي" يُقدّر عُلماء النَفس أنّ الإنسان يَكذب في اليوم ٤_ ٥ كذبات ، مع مُسميات مُختلفة لها كالكَذِب "الإيجابي" أو "الأبيض" أو "الإصلاحي" و غَير هذا. و هناك مَن يَكذب كَذِب "الحِماية" فيحتمي به للخَلاص من وَرطةِِ ما.
ليسَت هُناك حُدودٌ واضحةٌ و صَريحة عند الكَذِب لمَن يُريد التبرير و إيجاد الأعذار. فتَجد الزوج مثلًا يقول لزوجته "أنتِ المرأة الوحيدة في حياتي"، في حِين أنّه يَعرف أُخريات. هنا نَدخل مِن بابِِ آخر و هو الخِداع المَبني على الكَذِب الذي لرُبما تَرى فيه الزوجة استمرارية لحياتها الزوجية فتتغاضى فتسكُت.
خُطورة تفَشّي الكَذِب تكمُن في تغيير مَساره العَشوائي الغَير مُقنّن إلى كَذِب على أرضيةِِ مُخطّط لها، ليَتَحوّل إلى إشاعةِِ أو شائِعةِِ تَنتشر في المُجتمع لتُصبحَ حقيقةً بعد أنْ كانت مُجرّد خَيال.
كانت الأكاذيب في لِباس الإشاعَة تَنتشرُ عن طريقِ "القيل و القال" من شخصِِ لآخر في المَجالس و عند الاجتماعات. ثُم بَرزت الصُحف و ظَهر الإعلام ليُساهم في نشرِ الأكاذيب عن طريقِ الأخبار و المَقالات و والتَحليلات. و حينَ كثرُت الفَضائيات و تَوسّعت مَواقع التواصُل الاجتماعي أخَذَت الأكاذيبُ تَتَسرّب بشَكل سَريع بَل و فاعِل عَبر تِكرار الشائعات و استخدام عِبارات فَضفاضة مثل "مَصادر مَوثوقة" و "مَصادرنا الخاصّة" و "مَصدر لم يُفصِح عن نَفسِه" و غَير هذا من الإيعازات المَقرونة بدلائل غير صَحيحة و لا دَقيقة لغَرض تَثبيت الكِذبة على أنّها الواقع.
خُلاصَة دراسات غربية حَول مدى تأثير الكِذبة على المُتلقي في مَواقع التَواصُل و قَنوات الإعلام ، أنّ الناسَ تَميل إلى تَصديق الكَذِب و تَتفاعل مع الإثارَة أكثَر مِن الخَبر الصَادق و المَعلومة المَفيدة. و أنّ الحقيقة تَحتاج إلى جُهد مُضاعف سِّت مَرات ليَصل إلى المَجموعة مُقارنةََ مع الكِذبة التي تَصلُ بسهولةِِ و يُسر. لقد احتّل "تويتر" المركز الأول في تَغذية الأكاذيب التي تَصلُ إلى جمهورِِ و اسعِِ و عَريض و بسرعة عمودية خِلال ما يُسمّى ب"التايم لاين"( خَط تتابُع التَغريدات للموجودين على ساحَة تويتر) فترى المُغرّدين يَنسخون الخَبر الكاذِب أو التَغريدة الغير صَحيحة فتَتَكرّر لترسَخ في الأذهان بينما الحَقيقة تضيعُ و تَضعف.
إن ّخُطورة تَفاعُل المُتلقين من الجُمهور تَكمن في مُروّجي الأكاذيب و الأخبار المَغلوطة و الشَائعات المُغرضة. إنّ هؤلاء المُروجين شَخصيات "سيكوباثية" بَل بلا هَوية أخلاقية يَسعون لنَشر البَلبَلة في وقتِِ مُعيّن و لغَرض مُعيّن و لصالِح طَرفِِ مُعيّن أو حتّى لأغراضِهم الشَخصّية.
الإشاعَة و أكاذيُبها هي تَعبير عن مَشاعر مَكبوتة في نفوسِِ قَلِقَة و غير مُستقرة عاطفيًا و لا نفسيًا. واقِعة تحتَ تأثير ضَغطِِ فِكري رُبما يَكون غامِض بالنِسبة لها و رُبما يَكون مَفروض عليها مِن داخلِ الذات أو مِن خارجها. لِذا فإنّ أكثرَ من ٦٠% من الشائِعة حينَ تبدَأ بالانتشار فإنّها تَتَغيّر و تَنحرف عن انطلاقتِها الأولى و مَصدرها الأول، فتَرى الناسَ تَزيد و تُغيّر و تُبَدّل حَسَب الأهواء و الأغراض الآنية.
ليسَت المبادئ الإنسانية السَامية وَحدها من تَستنكرُ انتشار الكَذِب و انطلاقِ الشائعات، بَل هُو دينُنا الحَنيف أيضًا يَنبذُ الكَذوب و يُحارِب الأخبارَ المُضلّلة التي تَنتشرُ على شاكِلة الشَائعات. و في هذا احترامٌ للعقولِ المُتلقية للخَبَر و إحقاقًا للحَقيقة، لأنّ المُتلقي الحَذق و الواعي و الحَكيم لن تَنطلي عليه أكاذيب و لا تُلهيه شائِعة، بل هُو يُميز بين المَعقول و الغَير مَنطقي كما يُميز الخَبيث من الطَيّب.
و لنا في حَديثِ رَسول الله صَلىّ الله عليه وسلّم: " إياكم والكَذِب , فإنّ الكَذِب يَهدي إلى الفُجور وإنّ الفجور يَهدي إلى النار , وما يَزال الرَجُل يَكذب ويتحرّى الكَذب حتّى يُكتب عندَ الله كَذابا" .