بين هجرتين (دع القلوب تقر)
بقلم الكاتبة / سلوى بادبيان *
وطن الإنسان هو مسقط رأسه الأول في الحياة ، النفس الأول والحب الأول ، والشهقة الأولى التي كان فيها إعلان الحياة شعوره بالانتماء إليه ذلك الشعور النابع من الحب والوفاء ، ويبقى قلب الإنسان معلقًا بوطنه وإن أجبرته ظروف الحياة على الرحيل عنه مرغمًا ومكره ومجبرًا ربما،ومهما اضطر الإنسان إلى ترك وطنه فإن حنين الرجوع إليه يبقى معلقاً في ذاكرته لا يفارقه تعريف الوطن في اللغة :
في اللغة : ـ قال ابن منظور في لسان العرب : الوطن المنزل الذي تقيم فيه وهو موطن الإنسان ومحله يقال أوطن فلان ارض كذا وكذا اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيه .
تعريف الوطن اصطلاحا :
عرف الجرجاني الوطن في الاصطلاح بقوله ( الوطن الأصلي هو مولد الرجل , والبلد الذي هو فيه . )
تأملت في قصص القرآن بين هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وبين رحيل موسى عليه السلام من مصر إلى مدين ، خرج نبينا عليه الصلاة والسلام من مكة برفقة صاحبه أبو بكر رضي الله عنه مهاجرًا إلى المدينة ، وهو يقول لها : (ماأَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)
إنها الفطرة التي فطرها الله في قلوب العباد على حب الأوطان ، لا يترك الإنسان وطنًا ولد فيه إلا إن كان مجبرًا على ذلكلأمر ما، فحينها يترك وطنًا كان يعيش فيه جسدًا ، ويعيش ذلك الوطن فيه روحًا تنبض مع نبضات قلبه ، يسوقه الحنين إلى ماضيهإلى ديار ما ظنّ يومًا أنه تاركها إلى أصدقاء الصبا إلى ديار كان الفرح فيها عامر وانظر إلى دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم، بأن يحبب الله إليهم المدينة لما عرف من حب الوطن والاشتياق إليها فدعاء بهذا الدعاء:
ففِي حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري أنه لما قدم المهاجرون المدينة شكوا بها، وحين ذكرت عائشة رضي اللهتعالى عنها لنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأخْبَرَتْه بقَولِهم، فنَظَرَ إلى السَّماءِ، وقال: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلينا المدينةَ كما حَبَّبتَ إلينامكَّةَ وأشَدَّ، اللَّهُمَّ بارِكْ لنا في صاعِها، وفي مُدِّها، وانْقُلْ وَباءَها إلى مَهْيَعةَ، وهي الجُحْفةُ كما زَعَموا.
و لو لا الإيمان والرضى بالقدر لتقطعت قلوب المغتربين ولكن قد يكون خيرة الله فيما نكره حينما فرّ موسى عليه السلام هاربًا من مصر بعد قتله لرجل ، فرّ هاربًا خائفًا غريبًا وحيدًا في رحلة لا يدري أين تنتهي بِه،ولكن كان صادقًا عليه السلام حين قال لربه ﴿قالَ رَبِّ إِنّي ظَلَمتُ نَفسي فَاغفِر لي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ)
وحينوصل مدين غريبًا أول ما فعله كان إحسان دون أن ينتظر عليه مقابل امرأتين ضعاف ينتظرون أن ينتهوا الرعاء من سقيهمليسقون هُنّ ، ماذا فعل موسى عليه السلام؟ بكل هدوء سقى لهم وانسحب ﴿فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنّي لِماأَنزَلتَ إِلَيَّ مِن خَيرٍ فَقيرٌ﴾ [القصص: ٢٤]
فكان الخير و الأمن بعد الشدة و الخوف والتمكين بعد الغربة و الاصطفاء من الله بعد الوحدة فمنّ الله عليه بزوج وعمل ثم نبوة ورسالة ثم عاد إلى وطنه وعليه محبة من الله واصطنعاء على عين ربه﴿وَأَلقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةًمِنّي وَلِتُصنَعَ عَلى عَيني﴾ [طه: ٣٩]
فقد يحزن الإنسان لترك وطنه ولكن الرحيم قد يعيده مرة أخرى لوطنه وبحال أعز مما تركه ، فالمرء منّا لا ينسى مسقطرأسه ولا يتوقف حنينه حتى يعود إليه ، فحب الوطن فطرة فطر الله الناس عليها القلوب لا تقر ولا تسكن إن بعدت عن مسقط الرأس ووطن الروح قبل الجسد فالوطن هوية تكتبها نبضات القلوب حين تعشقه.