داغستان حمزاتوف
بقلم الأستاذ / فهد الهندال*
يرى المؤرخ والشاعر الانجليزي توماس وارتون، أن فضيلة الأدب تكمن في تسجيله المخلص لسمات العصر، و الحفاظ على أبرز تمثيل و أفضل تعبير للأخلاق . قد يُعتقد من ذلك أننا أمام رأي انطباعي يخلو تماما من أية وجهة نظر ذات خصائص فنية أو منهجية أو تقنية ، إلا أنها لا تستبعد جمالية الكاتب وفنيته في استخدام وسائل و خيال أدوات الكتابة في إيصال ما يحب أن يصل للمتلقي . وهذا ما يمكن أن نستشفه من مؤرخ وشاعر مثل وارتون ، وهو شاهد على عصر غني بالتحف والفنون الأدبية في عصر توسط بين عصرين مزدهرين في تاريخ الأدب الإنكليزي ، العصر الاليزابيثي والعصر الفيكتوري ، حيث ازدهر الشعر والمسرح والرواية .
ولعل الأخيرة – الرواية - تعتبر اليوم الأكثر تركيزا عليها دون غيرها من الفنون الأدبية الأخرى ، وهذا عائد إلى لغتها التي تفترض التضمين الشديد ، ذات الدلالة التعبيرية وتأثيرها المستمر على المتلقي ، وتثير فضوله حول موضوع العمل وتاريخه ، على اعتبار أن اللغة الأدبية للرواية ذات عمر افتراضي طويل ، بخلاف اللغة اليومية المباشرة ، التي لا تحتمل أية دلالات أو رموز تجعلها قصيرة المدى . فما بالك لو كان الروائي المحنك شاعرا بالأصل ؟
هذه هي أول مصافحة لي للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف عبر روايته ( بلدي ) التي فرغ من كتابتها عام 1970 وصدرت بعد ذلك بعامين . كثيرٌ هم الشعراء الذين قرأت لهم أعمالا روائية ، إلا أنني لم أقرأ عملا مميزا كهذا لشاعر مميز كحمزاتوف ، برغم أنني لم أقرأ له سوى مقاطع عابرة من شعره ، ولكن روايته المذهلة أثارت فيّ الفضول الكبير في التعرف عليه أكثر ، خاصة وأنك تقرأ عملا روائيا عنه وعن بلده داغستان ، فتمر عليك أيائل التاريخ قافزة على نهر سولاك ، وترى النسور محلقة فوق جبال القوقاز ، وتسمع خرير المطر فوق أكواخ القرويين مع موسيقى العابرين ، وتخبئ الكثير من الأفكار في جيوب الزمن الذي لا يمكن أن يستبدل قلبقه بقبعة عصرية ، تلغي كل ارتباط بالماضي . ولعل احتفاء الكاتب بماضي بلده واضح في تصدير الكتاب لمقولة أحد شخصياته الرئيسيين ( أبو طالب ) الذي قال : إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي ، أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك .
جاء ت الرواية مقسمة على قسمين ، الأول سمي بـالكتاب الأول ، والآخر بالكتاب الثاني . ولعل الأول هو الأجمل من وجهة نظري ، لكونه جاء منسجما مع روح الكاتب العاشقة لبلده وكل ما فيه ، وهو ما تضح في المقدمة القصيرة التي شرح فيها أسباب تأليف الرواية ، ولم تخلو من الطرافة والبلاغة معا ، حيث يصف المقدمة عموما : " يقول أبي ، المقدمة تشبه إلى حد بعيد ، رجلا عريض القفا ويلبس فوق ذلك قبعة كبيرة من الفرو ، ويجلس في المسرح ، وليته بعد ذلك كله يحافظ على جلسته فلا يميل مرة إلى اليمين ومرى إلى الشمال ، مثل هذا الشخص يثير غضبي " . بعد ذلك ينتقل إلى أسباب تأليف الرواية ، أنها بناء على طلب من محرر مجلة محترمة أراد منه أن يكتب موادا عن داغستان . وبعد تردد كبير واستشارة الأصدقاء قرر أن يكتب حمزاتوف رواية ، لكونها الأقدر ، معلقا على ذلك للمحرر بأنه لا يستطيع الكتابة عن منجزات بلاده والحياة اليومية العادية وطيبة أهلها : " كثيرة هي الدروب التي علي أن أمشيها ، والدروب عندنا في الجبال ضيقة جدا ووعرة جدا " . وهنا صلب الكتابة ، جديتها التي تحتاج للتأني والوقت المطلوب للتأليف دون هوس النشر والشهرة !
الرواية مزيج من الحكايات والمواضيع المنسوجة من تاريخ داغستان وشخصيتي العمل الرئيسين والده الشاعر حمزة تسادا و صديقه أبي طالب ، وطبيعتها الخلابة و ما اختزنه أهلها من حكم ومواقف لهم مع الحياة والأدباء ، كتلك الحادثة التي شبه بها الكتاب اللاهثين وراء الجوائز بالغنم التي أكلت بالخطأ حقل الشوفان فأدمنت عليه !
إضافة إلى تلك اللغة الجميلة التي تعشق معها لغة العمل الأصلية وأنت لا تعرفها أصلا ، فالكاتب المنتمي للغة عريقة لا يتخلى عنها بل ويؤصل ولاءه لها في كل أعماله ، لهذا كانت الآفارية أما رؤوما وحمزاتوف إبنا بارا ، فيشبه اللغة بالنسبة للكاتب كالحقل بالنسبة للفلاح :
" اللغة للكاتب مثل غلة الحقل بالنسبة للفلاح . حبوب كثيرة في كل سنبلة . والسنابل كثيرة لا عد لها . لكن لو بقي الفلاح ينظر إلى حقله دون أن يفعل شيئا ، لما حصل على حبة حنطة واحدة " .
جاء الكتاب جملة خبرات حافلة ورائعة لحمزاتوف ومن معه من كتاب داغستان ، لا تقرأ عملا روائيا منفردا بقصة ما ، أو مقصور على زمن واحد ، بل منفتح الآفاق على سهول واسعة من الكتابة الإبداعية ، جوهرها حب الأرض وروحها الشعر على هيئة السرد . يصلح لأن يكون ورشة كتابة إبداعية لوحده ، تخرج أجيالا من الكتاب الموهوبين ، بعدما تصقلهم اللغة بكل أسرارها و الصنعة الأدبية بكل أدواتها ، وتشعل الأفكار والرؤى في عقولهم بدلا من البحث عن مواضيع مستهلكة يمكن إعادة انتاجها بسهولة . فيوجه نصيحة لكاتب شاب : " لا تقل اعطني موضوعا ، بل قل اعطني عينين " .
أختم المقال عن رواية بلدي لرسول حمزاتوف بما وصف به كتابه القادم أو الجديد ولم يكتبه بعد ، ولعلي أوجهه رسالة إلى الكتاب الشباب ، حيث قال عنه :
" يا كتابي ! كم سنة عشت في نفسي . أنت مثل المرأة التي نراها من بعيد . نحلم بها ، ولكننا لا نستطيع أبدا أن نشم عطرها . كم رأيتها قريبة مني ، يكفي أن أمد يدي ، ولكني في خجلي واضطرابي يحمر وجهي ثم ابتعد عنها ".
* ناقد وناشر كويتي