قوة السكون
بقلم الأستاذ/ يوسف بن أحمد النجاشي *
أكتب لكم وأنا في جازان، وأنا ساكنٌ أمام البحر، وميناء السكون يعانق شاطئها الهادئ.. زرت هذه المدينة الساكنة التي سحرتني بهدوئها، كان ذلك في منتصف إجازة الصيف 1440هـ، جازان كانت ملهمة، حيث توارد الأفكار عن السكون، قابلت أرواحًا طيِّبة، ووجدت قيم الاحترام والإبداع والشغف والدافعية.. مقبلين على العلم والمعرفة والحكمة..
السكون عكس الحركة في أحد معانيها، وكلما كنتَ في حالة حركة، وتشتُّت في الأفكار كلما جذبتَ المشاكل والضغوط لحياتك، وكلما كنتَ هادئًا أكثر كلما كنتَ أكثر قوة، ومتى ما أتقنت مهارة السكون زادت الإيجابية في حياتك.
وفي الآية : " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم ".. من يعاني ضغوطات الحياة المهنيّة أو الشخصيّة والظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والأوقات المليئة بالأعمال وغيرها، فعليه بالسكون..
تنمو الموهبة وكاريزما الناجحين بالهدوء والسكون.. وتضعف عند عدمه.
أحد الأصدقاء موهوب وهو مدرب ومخترع يمارس السكون في أنهار شرق آسيا - كل سنة - ، تطبيق عملي للوصول للسلام الداخلي، ولتنمية الموهبة لديه.
الحياة التي نعيشها اليوم تحتاج منّا تعلٌم قوَّة السكون؛ تمر علينا أوقات معينة تكون الأمور ليست على ما يرام.. شيئًا ما ليس صحيحًا.. حياتنا تحتاج إلى التنظيف؛ تنظيف الأفكار وتنظيف المشاعر.
السكون مهارة الاختلاء بالنفس لطرد العنف والمشاكل والصراع، وكل مشاعر الارتباك والحيرة والتوتّر والانفعال ستختفي عندما يعمّك السكون..
الاختلاء بنفسك والتأمل في عظمة الخالق.. "الذي خلقك فسواك فعدلك في أيِّ صورة ما شاء ركبك"، الامتنان المطلق منك إلى خالقك العظيم.. اللهم لك الحمد.
السكوت والصمت والكلام زينة للإنسان، وخلق يتحلّى به كلُّ مسلم عاقل، يقول صلّى الله عليه وسلّم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "بكثرة الصمت تكون الهيبة".
السكينة نحتاجها من أجل الراحة والسعادة الداخلية.. بالسكون تكون حياتك عظيمة؛ ويكون قلبك ممتلئًا بالهدوء النفسي.. السكون يجعلك تفكر بشكل أفضل، ويساعدك في تسلسل الأفكار ووضوحها..
كل هذا يستدعي حدوث السكينة داخلك، حتى لو كان عالمك الخارجي ممتلئًا بالضوضاء والضجيج، مثلها مثل السكون في قعر المحيط الذي لا يتأثَّر بالأمواج والرياح التي تحدث على سطحه.
أحدهم قال كلامًا أعجبني : "معظم الناس ينتظر حتى يحل مشاكله وبعدها يذهب للاستمتاع والسكون، والصحيح أنك تهجم على المشاكل بالسكون".
وفيما يلي مؤشرات نجاح وتوصيات لرفع كفاءة السكون، ولتحسين الصحة النفسيّة، وهي :
- الصلاة للعناية بالروح.. تكسبنا حالة السكون فتحل السكينة.. "أرحنا بها "، والسكون يرتفع إلى أقصى الدرجات في ساعات الفجر.
- قراءة القرآن، ومن ذلك سورة البقرة "أخذها بركة وتركها حسرة". اللهم صلِّ وسلم على محمد.
- الخلوة مهمة جداً! معظم الأنبياء والرسل والدعاة والمخترعين والفلاسفة وأصحاب الأفكار كانوا يختلون بأنفسهم بعيدًا عن الضوضاء.. قارن بين الحياة في مكان هادئ، وبين الحياة في مكان مزدحم.
- سكن الأزواج في قوله تعالى : " وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا"، وهذا المفهوم لصلاح المرأة يؤكده ما خُلِقت المرأة من أجله؛ وهو أن تكون سكنًا للرجل؛ بكلِّ ما تحمله كلمة سكن من دلالات ومعان وأبعاد.. وقال أحدهم لآخر: لمن أزوِّج ابنتي؟! قال: زوّجها لمؤمن، إن أحبَّها وَدَّها، وإن كرهها رحمها ولم يظلمها..
- ممارسة الرياضة يوميًّا للعناية بالجسد، ومن ذلك التنفس والاسترخاء بعمق، وخاصة أمام البحر..
يقال بأن خمس دقائق أمام البحر تعادل الجلوس عند الطبيب النفسي لمدة أسبوع.. وتشير الأبحاث العلمية إلى التحسين المستمر للحالة المزاجيّة، ووجود الراحة النفسيّة عند الجلوس أمام البحر والنظر إليه، إن لون وصوت البحر يعمل على راحة العقل وتهدئته، ويساعد على إعادة حيويته ونشاطه..
- الطبيعة لها تأثير جميل تساعدك على السكون.. الطبيعة تعزِّز السكون والصمت، وتساعدنا على الهدوء النفسي.. وهناك العديد من الخيارات المثالية الكثيرة للاستجمام والخلوة مع نفسك في أحضان الطبيعة..
- يتعلّق السلام الداخلي بالسكون الذهني، فلا يكفي السكون الجسدي، فالإنسان المشاعري العاطفي يستطيع السكون أكثر من غيره بشرط أن ينتبه لمشاعر الانفعال والكراهية والخوف والغيرة والشك الخ..
وجميع هذه المشاعر تتعلّق بالذهن لدينا، فالشك يجلب لنا الغضب في إحدى صوره، والغضب يجلب لنا الخوف، والخوف يضاعف المشاعر السلبيّة.
- السكون يحتاج: وجود الصبر والحلم والإيثار والاحترام المتبادل والاهتمام بصلة الرحم، ووجود التسامح والسلام والوجه البشوش..
تذكّر أنه لا يستطيع الجسم أن يسكن إلا إذا استطاع العقل أن يكسب السكون أيضاًً.
- أحط نفسك بالمتفائلين الإيجابيين ذوي القدرات والمواهب الذين أتقنوا فنَّ السكون، الذين يتمتّعون بالسلام الداخلي.
بعد إتقانك فنَّ السكون ستقودك أفكارك تدريجيًّا لإنهاء مشاكلك، وللتطور المذهل في الحياة رغمًا عن كلِّ شيء.
وأخيرًا .. وبمناسبة كلامي عن السكون، أدعو جميع زملائي المهنيين؛ المستشارين والمدربين، وكلَّ من له تأثير، أن يزور هذه المدينة الجميلة الساكنة، مدينة السكون، مدينة جازان.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد..
* مستشار تدريب وتطوير
3 pings