قردة جائعة!!
بقلم الأستاذ / خالد حمد العبيد
وقفت على الطريق السريع بين (المدينة ومكة) بعد أن شدني تصرف مجموعة من القردة المتسولة والتي تقف على قارعة الطريق تستجدي المسافرين في أن يتوقفوا عندها لعلها تفوز ببقية وجبة شهية بائتة من مطعم البيك أو بقشر موزة على أقل تقدير..
كانت مجموعة القردة تتفاوت في أعمارها فتجد العاقل الحكيم الكبير في السن يقف بعيداً بكل أدب وثقة ينتظر أن ترمي له ماكتبه الله من أكل.
وتجد الطفل الصغير والذي يقفز فوق السيارة ويصرخ ويركض هنا وهناك بل إن الجرأة وصلت ببعض مراهقي القردة بأن يفتح باب السيارة وهذا ماحدث بالفعل للشخص الراكب معي والذي هلع من الخوف بسبب فتح أحد القردة بابه وكادت أن تكون كارثة لولا أن الله ستر علينا وتدارك صديقي الموقف بإغلاق بابه بارتباك وخوف ممزوجان بحركة سريعة لا إرادية.
أما إناث القردة والتي غالبا ماتحمل صغارها بطريقة (قرداوية) فنية تستدر عواطف المسافرين و تجعل قلوبهم تتفطر رحمة وشفقة عليها وبلا تردد يقذفون مالديهم من طعام لها حتى وإن كانوا يريدونه أكلاً لهم لكن براءة عيون أطفال القردة المتعلقة إما بصدر أو ظهر أمهاتهم جعلتهم يرأفون بحالتها البائسة.
كل القردة على هذا الطريق العظيم عندنا (المدينة-مكة) أو العكس كلها جائعة وتتهاوى على سيارات المسافرين كما يتهاوى الفراش المبثوث على النار تقف وتركل وتصرخ للفوز بلقمة عيش تسد بها رمق جوعها وهذا من أبسط حقوقها فالأكل هو وقود لطاقتها التي تجعلها تبحث عن الطعام.
هناك نقطة تجمع الإنسان بالحيوان وهي البحث عن الرزق فالجميع يبحث ساعيا عن رزقه فيوفر وجباته الثلاث لتكون لجسمه معينا أيضا في البحث عن الرزق فالجميع يدور في دائرة مفرغة تقوم على أساس واحد تتفرع منها أصول أستطيع أن أقول هي التي من أجلها خلقنا برغم أننا جعلناها فرعا وليست أصلاً.
رغم قباحة القردة إلا أنها تضفي أجواء من السعادة على من يشاهدها فتجد الكثير من زائري حدائق الحيوانات يتجمهرون أمام أقفاص القردة باحثين عن الابتسامة وهذا خير دليل على أن الشكل الخارجي ليس دليلا على قبح الداخل فالمظاهر تخدع كثيرا فالقرد رغم أن شكله شنيع ومقرف ومقزز إلا أن روحه جميلة تضفي عليك الشعور بالفرح عكس الغزال تماما والذي يمتلك جمال الجسم والعيون والخفة والأناقة والتي حدت بالشعراء أن يصفوا عشيقاتهم الفاتنات به فبرغم جماليته إلا أنه لا يعطيك الفرصة حتى في التمتع بمنظره الجميل حيث أنه سريع الهروب ولا تكاد تتمتع به إلا وقد ابتعد واختفى عنك بكل غرور وخفة وغطرسة وهذه المقارنة تجعل المقدمين على عقد زواج أو عقد صداقة جديدة يقفوا عندها طويلاً.
بما أني من محبي اللغة العربية ويهمني أن تتعرفوا على معنى قرد في اللغة فقرد مفرد جمعها قردة أو قرود ومؤنثها قردة وهي حيوانات لَبُونة من رتبة الرئيسيات من طائفة الثدييات أنواعها كثيرة وهي مولعة بالتقليد و أقرب الحيوانات شبهًا بالإنسان بقي أن أقول إن القرد سريع الفهم والتعلم وذكي جداً.
تقول العرب:
( إنه لقرد حقاً )
وتطلق هذه الجملة على الشخص كثير المهارة كثير الرشاقة كثير المكر والمراوغة.
قرأنا كثيراً قوله تعالى ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) يظن الكثير منا بأن القردة الموجودة الآن هم أصحاب السبت (من الأمم السابقة) ولكن هناك معلومة لابد أن نعرفها وهي أن القردة الموجودة الآن هي خلق مستقل من خلق الله وليسوا أصحاب السبت وذلك لأن الله تعالى مسخهم مدة حياتهم التي لم تستمر طويلاً ولا يجعل الله للممسوخ نسلاً بل يهلكه الله تعالى بعد عقابه ومسخه ولايتكاثر إطلاقاً.
لأعود كما بدأت فعندما فارقنا القردة وقد رسمنا البسمة على شفاهها وتركناها خلفنا بحزن واشتياق وصلنا لأطهر بقعة على وجه الأرض كانت المنطقة المركزية هي اختيارنا في السكن كونها قريبة من الحرم المكي وبعد أن أخذنا قسطا من الراحة اتجهنا لإتمام مناسك عمرتنا.
بعد الفراغ من مناسك العمرة لفت أنظارنا ونحن في طريق العودة للسكن كثرة الحمام المكي المتناثر هنا وهناك وقد كانت حاله كحال القردة جائع متسول يبحث عن الطعام بل ويعرض نفسه للخطر للحصول على الطعام وقد كان ولا زال هذا الحمام باب رزق لنساء وأطفال أظنهم من أصول أفريقية يقفون بالقرب من تجمعات الحمام ويبيعون الحنطة والشعير (طعام الحمام) بأكياس بلاستيكية على المعتمرين وأجزم بأن ربحهم المادي لا بأس به فزبائنهم كثر.
بعد أن ينهي الشخص عمرته من البديهي أن يكون متعباً وجائعاً جدا ً وهذا ماحدث لي أنا وصديقي والذي وبرغم تعبه وتعبي وجوعه وجوعي وقف عند أسراب الحمام و وقفت معه مؤازراً له وقال لي:
سبحان الله القردة جائعة والحمام جائع؟!
أجبته مجاملاً:
نعم من الطبيعي أن تجوع ولكن خالقها لن ينساها فقد كتب للكل رزقه..!!
قال وقد اغرورقت عيناه من الدمع:
أريد أن أطعمها دقيقة من فضلك!!
واتجه لطفل أسمر البشرة وأخذ منه كيساً بخمسة ريالات ونثره للحمام الذي تجمع عليه(كما تتجمع القرود على سيارة المسافرين في ذلك الطريق)..!!
كان منظر الحمام جميلا مما حدا بصديقي أن يطلب كيساً آخر ورمقته بنظرة إنكار وعدم رضا فقال:
أعلم أننا مرهقين ولكن كما ترى الحمام جائع سأشتري له طعاما آخر وأرميــ...!!!
وقبل أن يكمل حديثه شددته من إزاره الذي يواري سوأته وصرخت عليه بصوت عالٍ:
هيييييييياااااااا بنا الكل جاااااااااائع..!!!
القردة والحمام وأنت وأنااااااا....
وبما أن صوتي كان مرتفعاً فقد كان كفيلاً بأن يفرق جموع الحمام فطار الحمام وطرنا معه..!!