الرحى والزبيل..!!
بقلم الأستاذ/ خالد حمد العبيد
منهج المستوى الخامس في المرحلة الثانوية منهج ممتع جداً ولذيذ حيث أنه يتناول العصور الشعرية للشعر العربي وكذلك النثر بداية من العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث فمن خلال هذا المنهج تتعرف على مراحل الشعر العربي وشخصية القصيدة العربية التي رسمها شعراء العصر الجاهلي حيث وضعوا لنا خطوطاً واضحة للقصيدة العربية نسير عليها إلى وقتنا الحالي وإن كان هناك مطالبة بنزع عباءة القصيدة العربية ورميها والتمرد عليها بالتجديد في الشعروعدم الوقوف على أطلال امريء القيس وعنترة وغيرهم من شعراء المعلقات وهذا مافعله فعلاً بعض شعراء العصر الحديث في مدرسة (الديوان) والذين طالبوا ودافعوا وخرجوا عن شخصية القصيدة العربية الحديث ولن أسهب في الحديث عن هذه المدرسة كي لا أشتت محور المقالة.
عزيزي القاريء كثير منا يظن أن العصر الجاهلي سمي بذلك نسبة إلى الجهل الذي هو ضد العلم وهذا غير صحيح فلقد سمي العصر الجاهلي بهذا الاسم لأنهم جهلوا الإسلام وجهلوا وجود الله تعالى فعبدوا الأصنام وعكفوا على عبادتها وإلا فمنهم الطبيب والمهندس والحكيم والشاعر والمبدع ولكن يعيب عليهم جهلهم وتمسكهم بالصفات المقيتة كالعنصرية القبلية والتجبر والتكبر والظلم فالعرب في ذلك الوقت قويهم يأكل ضعيفهم والبقاء للأقوى والأقوى فقط وصفات كما أسلفت هي من صفات الجاهلين يقول الشاعر عمرو بن كلثوم:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا
فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
من خلال تدريسي لبعض قصائد العصور الشعرية أمر على كلمات في القصائد غير واضحة المعاني أحتاج للرجوع إلى المعاجم اللغوية طبعا إن كان محرك بحث (العم قوقل) لايعرفها.
في إحدى الحصص وبينما كنت مندمجاً مع الشرح قلت :
...من الأدوات القديمة التي تطحن الحبوب هي (الرحى) حيث أتذكر أني كنت أجلس عند أمي- رحمها الله- وهي تطحن حبوب القمح لتصبح طحيناً فتضعه في كيس وتعلقه على جدار المنزل في الزبيل كي لا...!!!
في هذا الأثناء رفع أحد الطلاب يده مقاطعاً و سائلاً:
أستاذ ماهي الرحى..؟!
فقلت مستغرباً:
ماتعرف الرحى؟؟!!!!!!
قال ببراءة:
لا والله يا أستاذ!!
استشطت غضباً وقلت:
مستحيل أنك لا تعرفها..!!
كيف؟؟؟!!
لا تقل لي لا أعرف الزبيل أيضاً؟!!
قال مبتسماً:
ولا أعرف الزبيل أيضاً!!
فكانت هذه – من وجهة نظري - هي رصاصة الرحمة الثانية التي أطلقها علي وقلت بغضب:
لماذا لا تعرفون الرحى والزيبل ألهذا الحد لاتعرفون تراثكم...!!
وتحول مسار الدرس إلى لومهم لأنهم لايعرفون كلمات تراثية قريبة عهد وعرفتهم على الزبيل والرحى فكانوا يعرفون شكلها ولكن لا يعرفون اسمها ..!
انتهى وقت الحصة واتجهت إلى غرفة المعلمين (غضباناً أسفا) دخلت وقد بدا علي سمات الغضب فسألني زميل لي وقال:
اليوم خميس لماذا تبدو عليك علامات يوم الأحد؟!!
قلت بحزن:
تخيل طلاب ثالث ثانوي (شيبان المدرسة) لايعرفون معنى الزبيل والرحى!!
فقال مستغربا مثلي كما بدا علي أول مرة:
يا الله جيل مهمل لا يعي مسؤولية ما يناط به..!!
المهم أنه غضب مثلي..!
وماهي إلا دقائق حتى فرقنا جرس الحصة السابعة فاتجه كل إلى حال سبيله وانقضى يوم الخميس أفكر في حال طلابنا مع كلمات تراثهم.
كانت هذه الحادثة كفيلة بأن تجعلني أهذي بما لا أعي طوال يوم الخميس وأحدث بها كل من رأيت إلى أن أشرقت شمس يوم الجمعة والذي نجتمع فيه عند خالي (عبدالله) –حفظه الله- وكانت المفاجأة بعد صلاة الجمعة حيث أنه ومن خلال حديث خالي عن أحد أصدقائه المتوفين حينما كانوا بدواً قال إنهم دفنوه في (الكرفوت) وتطرق أيضا لبناء بيتهم وقال فأمسكت أمي بالواسط..!!
عندها توقف فكري عند كلمتي (الكرفوت) و (الواسط) كونهما تمران علي لأول مرة ولكن فهمت الكرفوت من السياق أنها المقبرة والواسط أيضا فهمت أنه جزء من بيت الشعر واستحيت أن أسأل عنهما خوفاً من أن يغضب علي خالي كما غضبت على الطالب حينما أخفق في معرفة الرحى والزبيل..!!
عندها أيقنت أن لكل جيل مصطلحاته الخاصة به والتي يجهلها الجيل الذي قبله والذي بعدها..!!
تذكرت موقفي مع طالبي البريء كل البراءة من الجهل فلقد تسرعت في حكمي عليه وتسرعت في غضبي أيضاً حيث أن الأمر لاعلاقة له بمستوى ثقافة ذلك الطالب وليس من الضروري أصلاً أن يعرف آلات العصور السابقة فهي لم تعد تستعمل في عصره بل ظهر بعدها آلات بديلة تفي بنفس الغرض وتخدم أفضل منها فما شأنه بما مضى المهم أن يومي الجمعة والسبت مرا علي ببطء حيث أني أنتظر إلى يوم الأحد لأعتذر للطالب وأبين له ماحدث لي إلى أن جاء يوم الأحد واعتذرت للطالب و وضحت له موقف الجمعة فابتسم وابتسمت ودفنا الرحى والزبيل في الكرفوت!!