الأطفال والتنمر
بقلم الأستاذ / صالح هليل *
إنّ أوّل جريرة ارتكبها أبناء آدم على وجه البسيطة، يمكننا أن نعدٌها عنفًا أو سلوكًا عدوانيًا، وهذا السلوك نشأ مع الإنسان منذ القدم، بل وسرد علينا القرآن أوّل قصة لعدوان وقع بين أبناء آدم، حيث قال: "وَاتْلُ عَلَيْهمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرْ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكْ" . وهنا يحضرني كتاب جميل لمؤلفه: كولون ولسون، بعنوان: "التاريخ الإجرامي للجنس البشري؛ سيكولوجية العنف"، يقول فيه: "إنّ الدّافع الإجراميّ ليس شذوذًا، أو جنوحًا لفعل الشّرّ أكثر من فعل الخير بقدر ما هو مركّب طفوليّ وميل طفوليّ يدفع إلى الاستسهال والاختصار، كل جريمة تنطوي على –أو ذات –طبيعة تتسم بالتدمير والانتزاع، واغتصاب شيء والاستيلاء عليه بغير استحقاق بالقوة أو بالإغارة أو العنف، هي نزعة للحصول على شيء مقابل لا شيء" .
وفي مقالتي هذه؛ أحببت أن أسلّط الضوء على ظاهرة التنمر لدى الأطفال، فنحن جميعًا نراهم: "ملائكة أبرياء"، فكيف بهم يقدمون على أفعال عدوانية بين أقرانهم؟ ومن أين جاءوا بكل هذا العنف؟ من أين اكتسبوا الشجاعة للإقدام عليه؟
وفي نهاية المقال سأعرض التنمر من زاويتي بصفتي واحدًا من ضحاياه.
1 ـ ما هو التنمر؟
تنوّعت صور التنمر مع اختلاف الأزمنة التاريخية، وفي تعريف بسيط؛ يمكننا أن نقول إن التنمر سلوك مكتسب، يتعلّمه الفرد أو الطفل بالخصوص من ممارسات الراشدين والأقران سواء كانوا في محيطه أو لم يكونوا، وهو سلوك منتظم ومرتّب وخفي، يصدر عن قصد ويستمر فترة من الوقت، يتميّز فيه المتنمر –فردًا كان أو جماعة –بقوة يستبد بها على ضحيته، فيجعلها تشعر بالأذى والألم النفسي والجسدي. وغالبًا ما تخجل الضحية فلا تعلن ذاك السلوك. أي إنه يظل سلوكًا خفيًا.
2 ـ طفل عنيف؟
هذا سؤال قد يتبادر إلى ذهن الجميع، كيف يمكن لطفل بريء لم يجرّب الحياة، أن يمارس العنف على أقرانه بذكاء وحرص، وهنا من جديد تستوقفني فقرة معبّرة لكاتبها: كولون ولسون، إذ ذكر في بضع صفحات سبب ميل الأطفال للعنف، أو سبب رسوخ العدوانية في أذهانهم، إذ قال: إنّ "النكات تمكّننا من إعادة تركيب العالم العقليّ للطّفل، التي نسيها أغلبنا: العالم يبدو للطفل كما يبدو في عيون دود. فالكبار لديهم أفكارهم الغريبة عما هو 'مضحك' –الدين، السياسة، الرياضة –إلّا أنّ الطّفل يدرك أفضل. فالفكاهة بالنسبة للطفل هي أن يفعل أشياء مثيرة لا يحب الكبار أن يفعلوها. كل تلك الأشياء التي يسميها الكبار 'قبيح أو بذيء'.
وذلك هو السبب في أنّ أغلب الأطفال لديهم ميول عدوانية وقدر من القسوة يعلهم يشعرون بالمتعة في نزع أجنحة ذباب الحي أو إلقاء أعواد ثقاب مشتعلة على قطة. وهو هنا، وعلى نطاق ضيق يصبح هو أيضًا 'أسكندر أكبر' وفي إطلاق أفكار ممنوعة يحولها إلى أفعال تسبّب ألمًا" .
إذًا فالطفل العنيف يرى أن ما يقوم به مضحك وهزليّ، وهذا ما نلاحظه كذلك لدى الأطفال المتنمرين، حيث تكون الضحية مجلبة للسخرية، يؤذونها فيضحكون عليها ويستهزئون من محاولاتها في الدفاع عن نفسها.
ومشكلة التنمر بين صفوف الأطفال تعاني منه كل دول العالم، فكثيرًا ما نجد طفلًا يستقوي على طفل آخر أضعف منه. ويمكننا أن نصف هذا الطفل بأنه: متسلط، مهيمن، حاد الطباع، سريع الغضب، مندفع، فظ، صلب.. وللأسف، يرى هؤلاء المتنمرون أن الضحية تستحق ما يحصل لها.
3 ـ طفل ضعيف..
إن التنمر بغير شك أضحى "مشكلة شائعة وخطيرة في المدارس، وتؤكّد الأبحاث مدى الآثار السّلبيّة التي تبقى في ذاكرة الطفل، وتؤثّر على صحته النفسية على المدى البعيد، نتيجة تعرضه للتّنمر. وتشير الأرقام إلى تعرض نصف أعداد الطلبة في مرحلة ما من حياتهم المدرسية للتّنمّر، وغالبًا ما يُخفي الأطفال عن الأهل معاناتهم من التّنمّر عليهم بسبب شعورهم بالخجل، فهم لا يريدون أن يوصفوا بالضعف،
ولمساعدة الطفل على مواجهة التنمر في مدرسته، فعلى الأهل أن يُدركوا طبيعة المشكلة، لينجحوا في مواجهتها وحلّها" ، وما يهمنا في هذه الفقرة هو أن نوعّي الآباء والأطر التربوية بضرورة ملاحظة التنمر وتغيير هذا السلوك، فإن كان نصف أعداد الطلبة ضحايا، فإن النصف الآخر متنمرون، وهذا لا شك مشكلة كبيرة، خاصة لو قوبلت بالإهمال والتجاهل من لدن الكبار.
وأهم صفة أوردها عن هؤلاء الذين يعانون من التنمر هو الاختلاف. الطفل الذي يتعرض للتنمر يكون مختلفًا عن الآخرين، إما أنه قبيح أو جميل، فقير أو ثري، مريض... فإن لاحظ الأطفال بين صفوفهم طفلًا 'غريبًا' منفردًا، فهو على الأرجح ضحية للتنمر اللفظي أو الجسدي. ومن هذا المنطلق يعاني هؤلاء الضحايا من: ضعف جسدي، عزلة اجتماعية، قلق اجتماعي، نقص الأصدقاء، خجل، قلق، انعدام الأمان، انخفاض تقدير الذات..
4 ـ طفل سوي:
لا يمكنني في مقالتي هذه أن أعرض الأساليب والطرق العلاجية للتنمر بشكل مفصل، ولكنني أورد بعض التنبيهات العامة:
ـ توعية الآباء والأطر بخطر التنمر.
ـ احتواء الآباء لأبنائهم بحيث لا يخجل الضحية من إخبار والديه بما يعانيه.
ـ ملاحظة المعلمين والأساتذة لسلوك التنمر وتوعية الأطفال بخطره وتغييره واستنكاره.
ـ توعية الأبناء وتثقيفهم.
ـ نبذ العنف وتغييره.
ـ مساندة الأطفال في تكوين صداقات، وكذلك مساعدتهم لأن يكونوا أكثر تقديرًا لذاتهم.
5 ـ كنت طفلًا ضعيفًا:
لو كنت قد قرأت كتابي: "على قيد الأمل" لوجدتني قد تعرضت للتنمر اللفظي والجسدي.. لكن التنمر لم يؤثر عليّ سلبًا.. على العكس من ذلك، قمت باستغلال الوضع، لقد عانيت فترة عصيبة في حياتي، أصبت بمرض عضال، وظل أقراني يسخرون مني، يعيرونني، ينبذونني.. لا أبالغ إن قلت: إنني تأثرت بذلك فترة من الزمان، عانيت بشدة، وأول أمرٍ تحتاجه لتغيير حالك هو أن تنتقده وتكرهه.
وهكذا؛ أردت أن أكتسب صفات ومعارف، ولم يمنعني كل ذلك من التعلم والإدراك حتى تخطاني المتنمرون، وعجزوا عن الاستقواء عليّ بعدما قدّرت ذاتي، وتقبلت اختلافي.
وهذا ما أنصح به كل ضحية؛ حاول أن تتقبل اختلافك وتقدّره، ولا تنس قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ إِذَا أحَبَّ عَبْدًا ابْتَلَاه".
* أخصائي اجتماعي