الذات بين التقدير والاغتراب
بقلم الكاتبة / لولوه عبدالحميد النعيم*
يقول الله سبحانه ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فتشير هذه الآية إلى حقيقة عظيمة ألا وهي أن بداخل كل انسان كنز من القدرات التي أودعها الله بداخلنا، مواهب و ذكاءات ومهارات لا مثيل لها ، ثلة من الناس من يستل سيفه ليكافح في حياته ويظهر براعته كي يكتشف قدراته الحقيقية، وثلة من الناس من ينتظر سفينة الأحلام حتى تخرجه من قوقعته وتنشله من مكانه لتضعه بالمكان الملائم له، فهو لا يعرف نفسه، ولا يدري ماذا يصنع بها، وهناك ثلة أيضاً ممن يتلاعب به الآخرين وتكسر مجاديف آماله بسببهم، فهو هش ضعيف لا يقوى على تحمل الكلمات المتدفقة والتي قد تكون جارحة أو صادمة أو ريح قوية تزج به حتى تطرحه أرضاً ولا يُقاوم الفشل بعدها فيظل طريحاً هكذا. وهذا ما أود الإشارة إليه بالاغتراب الداخلي ، فهو لا يعرف ذاته البتة ولا يعرف قيمتها متمزق داخلياً، لا يأهبه بالشروع في الدفاع عنها أو التصالح مع نفسه، فتنهكه حتى يخيم بين ثنايا نفسه الإحباط.
إذن ما هو تقدير الذات؟ يرى "كوبر سميث" أن تقدير الذات يمثل "مجموعة من الاتجاهات والمعتقدات التي يستدعيها الفرد عندما يواجه الآخرين، وهي تتضمن معتقداته وأفكاره فيما إذا كان يتوقع النجاح أو الفشل ومدى إدراك الفرد لخبرات الفشل وقدرته على اجتيازها" وعلى غرار ذلك فإنها ببساطه تعني ايمان الفرد بنفسه واهليته وقدرتها واستحقاقها للحياة، فيتكون ذلك التقدير من خلال الوعي بالذات وأهميتها والاحساس بجدارتها في عقله الباطن ليترجمه ذلك على أرض الواقع، ناهيك على أنه لا يرضى بإهانتها من قبل الآخرين والتشكيك بقدراتها، كما أيضا يستجيب لما يوجد بداخله من ثغرات ليتم تحديثها وتحسينها وتقوية جوانب الضعف وينميها.
وفي هذا المقام ينبغي ذكر العوامل التي تسهم في مدى تقدير الفرد لذاته أو انعدامها ، فلنبدأ بالإطار الاجتماعي المُعاش لطيلة أيام الطفولة " الأسرة" فهي بلا شك البذرة الأولى لتشكيل هويته وشخصيته، ومدى تمتعه بصحة نفسيه سليمة، فالفرد الذي يعيش في ظل أسرة مستقرة دون إحباط للاحتياجات سواء العاطفية أو الجسمية أو العقلية ينمو نموا متوازناً، ويكّون عن نفسه فكرة إيجابية ويُعزى ذلك لإشباع رغبته في التقدير والثناء والمدح والدعم الوالدي ومساعدته على فهم ذاته والاستبصار بقدراته واحترامها والتعرف على قدراته والعمل على تنميتها والكشف المبكر عن استعداداته، وعدم تثبيط همته وتشجيعه على الانفتاح على الخبرات والتجارب تحت إشراف الوالدين، كلها بمثابة عامل بناء قوي لذاته كي يعرف نفسه ويبني هويته كما يتفق علماء النفس على أن التجارب المبكرة أثناء مرحلة الطفولة والمراهقة يكون لها تأثير في نمو تقدير الذات سواء سلبا أو ايجاباً، وعلى العكس من ذلك فعندما تتوانى الأسرة عن إرضاء لتلك الاحتياجات الأساسية فيعتبر بمثابة عامل هدم لذاته فتتأجج قدراته وتقييمه لذاته، وعندما يصاب الفرد بالإحباط يكون معرضاً للأمراض النفسية تعصف به من كل حدب وصوب كالاكتئاب والقلق والجنوح والرغبة في الانتحار في مراحل متقدمة، فأما العامل الثاني تقييمات الآخرين للفرد فالبعض منا يتأثر درجة تقديره لذاته بالكيفية التي يعاملنا بها الاخرون، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن الأفراد الذين تمت معاملتهم باحترام واهتمام من قبل شخصيات مهمة في حياتهم كالمعلمين والزملاء غالبا يكون لديهم تقدير مرتفع للذات، وعلى النقيض من ذلك فإن التجارب السيئة في المدرسة - كونها الإطار الذي يتم بداخلها زخم هائل من اكتساب طرق التعامل والعادات والسلوكيات ويحظى الفرد فيها بالتشجيع والمبادأة والإقدام والمثابرة والتنافس ، والإنجازات الأكاديمية والعملية- فإنها تعتبر العامل القوي في رأب الصدع في ذاته وتقويتها، أو تهشيم لخلايا عقله بعدم الاستحقاق والدونية، وبالتالي تنغرس هذه الفكرة لترسخ في عقله الباطن ليتم ترجمته على هيئة أعمال لا نافعة، بسبب سوء تقدير الفرد لذاته عندما وجد أن مرآته لم تكن نفسه بل الآخرين لهم دور في تعريفه عن الشطر السلبي من ذاته ولم تتضح معالمه المشرقة.
كما يوجد عامل آخر له دور في تحديد مدى تقدير الفرد من عدمه ألا وهو المظهر الخارجي، فالكثير من الأشخاص عندما يقيمون أنفسهم بأنهم جذابين نجدهم يتمتعون بتقدير عالي للذات مما ينعكس على رؤية الآخرين لهم ، فهم على ثقة بأنفسهم وظهر الصدى في عقول من يخالطهم، وعلى العكس من ذلك فإن درجة رضا الفرد عن شكله أو لونه أو طول قامته متدنية ، فإن الآخرين سيتعاملون معك على هذا الأساس .
نخلص من ذلك بقولنا، أن أفكارنا هي المسيطرة على عقولنا إما أن تصنع حياتك وإما أن تدمرها، فعندما تعتقد أنك غير محبوب فأنت بالغالب كما ظننت، أنت الذي تختار مشاعرك " لا تمارضوا فتمرضوا، أنت المصدر الأساس لتقدير ذاتك، يقول سقراط : "اعرف نفسك" فكل التغيرات يبدأ بالوعي، التحرر من الأفكار السلبية عن طريق الوعي والبحث عن الحقيقة سيأخذك إلى عالم آخر تحيط بك ترانيم الأمل في كل اتجاه ، إذا ما طمحت إلى غاية لبست المنى و نسيت الحذر و من لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.