البقاء لصانع البقاء
بقلم الكاتبة / جواهر محمد علي السلمي
تخالج عقل اللبيب تساؤلات، كيف أكون ذا أثر فيصدح ذكري أرجاء القلوب ومواطن العقول؟ كيف لذكري أن يكون راسيًا باقيًا شامخًا ؟ كيف للمرء أن يلوح اسمه في فضاء امتد وجمع القاصي والداني وبقي صانع الأثر نجمةً البقاء في فضائه متأصل الجذور في أرضه، لا تقتلعه رياح الزمن ويفنى ذكره بل تخشع له ولجميل صنع قد أسداه آنفًا. ذلك هو بقاء الأثر ذلك البقاء الذي تلمع العين عن مرآه وتهفو القلوب لنجواه وتطمح العقول حينما تدرك مكانته وفحواه. فهو الزائر الذي يشنف مسامع الذكرى حيث أتى . فلا انقطاع يجور عليه بل وصل دائم الذكر راسي الحضور.
قلتُ: يبقى من المرء عطر ذكره وجميل فعله، فهذا القول لاح وميضه في قلبي وتجلى للمدى. ولك أيها القارئ أن تسرح بفكرك المترامي وتأتي بتلك التفاسير التي تتفوه بالأثر ومعناه وبقائه ودلائله وتتغنى بمغناه . فالأثر موطئ أزهرَ في أرض الفضائل وأعشبَ روابي أطلالها باقية وساحاتها خالدة ومكامنها لؤلؤ خبأته أصداف الخير وأتى به مدُّ بحر العطاء وجزره . بقاء الأثر هو بقاؤك أيها النبيل وتربعك على عرش النُبل . بقاء الأثر هو عطاؤك الذي أجزلته وأغدقته لغيرك. بقاء الأثر هو قولك وفعلك اللذان صوبتهما بسهم اليقين إلى شارة البقاء.. فالمرء باقٍ أثره وسامٍ مكانه وعالٍ ذكره حينما يخلف وراءه ما تتعده الأيام ولا تفتر تذكره.
يُلهب التفكّر عقل المُفكر الجموح. ذلك الذي ترتسم أمامه ذاته جليه ويريد لها البقاء والسؤدد في زوايا الأيام وخطوبها، تلك هي سيادة بقاء الأثر النبيل. من منا لايريد لذاته وهج البقاء الذي تخجل منه شمس اعتلاها النور فالنور هو حيثما حل. إذا أردتُ أن أسرد مواطن بقاء الأثر فالأبجدية هنا ترخي استطاعتها فعلى مرأى البصر وعلى مضيّك أيها المرء لك مواطن البقاء والأثر. يأتي قول سيد البرية رسولنا الكريم في الحديث الشريف: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) فهذه وغيرها من الفضائل ليست إلا قناديل النور في زحام الحياة لكَ منها شعلة وضاءة وحضور لا ينقطع وخير سباق فغيرك له تواق . وإذا جمحت حناياك وعزمت أن يكون لها انفلاج الظهور بغية أن تطمس أمرًا جارت بك الغفلة فأنزلقت فيه .. فهذا الإمام الشافعي يقول:
وإن كثرت عيوبك في البرايا
وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب
يغطيه كما قيل السخاء
أيها الفطِن الحذِق ، عش برخاء النبل وترف الفضل وسيادة الأثر ، واستر عيبًا بطيب أثر وامحُ ماذُم بشمائل الخير .. فكلنا نسعى وكلنا ماضون ويُخلد الذكر الذي تأصل في أرض الفضائل واستقى من وابل الخير وعاش أيامًا تزخر وتزهر . اطلق بصيرتك نحو مايكون لك منه طيب البقاء المدرار وضع يديك على أكتاف كل شميلة وامضِ بها نحو أيامٍ سيكون لك فيها ذكرٌ يُمجّد.
نصحٌ من قلبك الذي يشعر بغيره تهديه لمن حلّت في قلبه مصاب الأسى لتطأطئ رأس اليأس فلا شموخ أمام مهابة التفاؤل وزهو الحياة. كم لك أن تدرك حجم ذلك الأثر وتلك الكلمات التي جالت من قلبك إلى من أجدبت أرضه ورسم عليها الأسى شقوقًا ضامئه متلهفة لوابل يرويها يبدد فيجدد. فارتوت واغتنت فقول رسولنا الكريم يوضح لنا ذلك حينما قال صلى الله عليه وسلم ( أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن ... ). وهذه يد العون التي زاولت العطاء لغيرها وسعدت به سعادةً كأنها حمام سلام همّه أن يقطن السماء ويحدق بعين العون فيلمحُ متلهفًا في أرضٍ ما ليدنو قلبه منه ويلبسه بياضًا من زاخر ما عنده .. يدٌ كأنها ربيع الفصول صفى مشربها ليستقي منه من ينهل.. هاجني ذلك وذاك ولا أقول غير أن إسعاد الآخرين إنما هو نسائم الخير العليلة وأعلى الفضائل الجليلة وأسمى الخصال النبيلة ، ثغر مسديه باسم أبدًا وقلبه مُخضّب مددًا وذكره سقى الأرجاء بقاءً عبِقًا.
سقى غيث الفكر يقين التنبؤ عندك أيا صاحب التبصر والبصيرة ،هلاّ جالت بصيرتك نواحي الأزمنة وتنبأت فأدركت أن البقاء له من النتاج ما يثلج صدر الحياة الرحب؟ أما أمعنت النظر فيمن خلّدهم التاريخ لجزيل ما قدموا ؟ فالأمثلة التي تتوارد إلى ذهنك الآن شتى . أذكرُ لك قول ابن عبد ربه الأندلسي في مقدمة كتابه العقد الفريد حيث قال: "وقد ألفتُ هذا الكتاب ، وتخيّرت جواهره من متخيّر جواهر الأدب ومحصول البيان...."
فكلامه يدعونا إلى التساؤل عمّا إذا انتفع بما اطلع عليه من مؤلفات الجاحظ وابن قتيبه؟. وهذا مدعاة لأن نتيقن أن البقاء الذي رسمه أصحاب الشخصيات التي يأخذ منها المؤلف الأخبار وألوان الحياة آنذاك هو بقاءٌ يأنسه مؤلف وجامع الأخبار من ضروب الحياة وناسها. فالأدباء والمفكرون يأتون بالأخبار التي توجها النور وتوهجت ويأتي بأثمنها وأبقاها على مر الأزمنه، رجحت كفتها وتسيّدت كتب المؤلفين. وعلى شرفات التأمل تقف مداركنا وتحلق مُقلنا وتلحظ عقولنا الحق والبيان فتجزم بأن الأجر وعظيمه من المولى لصانع الخير وساقيه ومن يسير على الامتثال لأمر الله فقد قال الله تعالى ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلامًا ) فحياتك أيها المرء صبرٌ وجلدٌ وبقاءٌ ترتضيه لذاتك وعلو في الدنيا ونعيم في الآخرة. فلله أفئدتنا وعند الله أملنا وآمالنا والمرء الذي يشق طريقًا عليه أن تكون وطأته خيرٌ وفضل.
هذا هو بقاء الأثر أيها الطامح لنيل البقاء فامتداد الأثر بامتداد صنيعك ورِفعته. الرؤية أمامك تجلت وزواياها اتضحت .. القرار لفكرك الآن والطريق الذي تضع قدميك عليك أنت من يجني أثره.. راقت لك كل الطرائق ولجت أمامك الاختيارات وساقت النشوة لك جميع المزايا. وبقي العقل له الإبرام .. فأنت الفطِن وأنت لحياتك عطر البقاء إن شئت فإنه ( يبقى من المرء عطر ذكره وجميل فعله )
2 pings