أظهر محياه ما تكنه حناياه
بقلم الكاتبة / جواهر السلمي*
انبلجت .. تجلت .. أسفرت وتراءت أمام تلك الأعين، فلا كامن حيال ذلك الذي أبان وأظهر ما أسر صاحبه. ماجت السرائر ثم رست على مراسي صاحبها، فأدركتها العقول وأطلقت أحكامها عليها ، وهل من سبيل إلى إضمار دائم ؟؟ يتفوه الحق بلا ويربو عليها بألفٍ . فلا يدوم ستر الأمر وإنما مآله للتجلي. وفي فضاء مطلق وتأمل مترامي يقول المرء المستبصر: إن للسريرة جسر عبور للمقل التي ترمق من أمامها. وآخر أجزم ذلك فيجتني ما يجنتنيه من دلائل لتلك السرائر لمعت أمامه فأخذ صفيحة ليجني لمعانًا فيعكسه عليه لعله ينال منه ما يصبو له الفؤاد.
أودعتُ ما أردتُ الحديث عنه بين أكناف المعنى وعلى هامة قلم حتى جلّى ما أرمي له، فجاذب المعنى السبك وأبرما قولًا حول المراد به وهو ذلك المُحيا.
يقول المُحيا :أيها المرء يجول في داخلك ما يجول فأنا الجلاء أمام الناظرين وأنا وضح البيان لما أضمرتَ وأبطنت.
" نرى على محياه ما تكنه حناياه " قول ارتاد المسامع مليًّا وهذا ما يصف الواقع ، لا شيء يبقى مضمر فالليل الضرير يأتي بعده نور الصبح النضير . وكل الدلائل فرسها مهرٌ وتُجزم أن مُحيا المرء يومض فيكشف عن سريرته التي تلج في داخله، أيها المتأمل لما حولك أما أمعنتَ النظر وأطلقته في ذلك الأمر وجالت في نفسك الحقائق، فهذا سمحٌ سمتٌ ترى قسماته أزهرت في ربوةٍ وقت الربيع إذا انتشى وبها من الوداعة والسماحة ما بها، تتوق لمجالسته لتنهل من مورده العذب فتزداد طهرًا، راقت له نفسك وانجذب روحك لنسيمه السباق للخير مضيًا حيثما جال وحال. فقد قال خير البرية صلى الله عليه وسلم ( إنَّ من أحبّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنكم أخلاقًا ...)
وهنا يرجع الوصف خطوات للوراء بغية ألا يسهب في وصفه فالوصف قد ترفّع عنه، فهل عرفته أيها المتسائل؟؟ إنه أشوس الطباع لايكن إلا الغلظة والجلافة يتطاير الشرر من عينيه فلا يظهر إلا مكفهر صلب برز ذلك على الوجه وقسماته فنفرت منه الأفئدة. قيل: إن المرء قادر على إضمار ما يبطن من سوء ويُظهر عكسه وهذا حذق أتى به البعض يُظهر النور وهو يخبئ أحجية لا يُفتَّق زمامها، وإن كان هذا الأمر صائبًا مع المجالسة سيتجلى الباطن ويظهر لا اختلال. لا تقل يدي لهذا الأمر صفرٌ ، فهذا تفطّن ورمق إلى محيا من معه وبدت أمامه كل صفحات السرائر المخبأة.
أين أنت أيا صاحب الحكمة؟تضيء البصائر وتكشف السرائر ، هشّت لك الأفئدة ففي الليلة الظلماء يُفتقد البدر . يقول صاحب الحكمة: إن من تبصّر انقشع أمامه الملتبس وبرز وهج الحقيقة أمام ناظره فساورته الأحكام وأطلقها فعلى المرء أن يُلم بجُل الأمور ويوقد في عقله الفهم . أما اتسعت الصفحات وأتت نفحات الكلمات لتفرق بين الفِراسة ولغة الجسد ؟؟ . ينزل النجم المعلق في السماء ليصافح رمل الفيافي ويشاطرهما شجر الغضا ليكشفوا عن هوية أصل الفِراسة ، فهي التي أوشمت وسمًا على ناصية التاريخ قائلة: إن العرب هم من برعوا في هذا العلم بلا منازع وتفردوا به، والقصص تحكي ذلك مددًا. فالفراسة هي دلالات الأشكال الثابتة للجسد كدلالة الوجه كاملًا أو أجزاء منه، وقد استخدمها العرب لمعرفة النسب و الطِباع المبطنة وهذا ما يسمى بفراسة البشر وهناك فراسة أثر وهي تُعنى بمعرفة أثر الأقدام وموطئها لقافلة أو بشر وغيرهم. ومناط حديثنا حول فراسة البشر ، قال الله تبارك وتعالى( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) ذكر العلماء معنى المتوسمين فهم المتفرسون، وبعض العباد حباهم الله حذقًا في الفراسة والتفرس وهذا فتح من الله . ومن الأسماء التي لمعت في الفراسة ابن عباس رضي الله عنه وقصته مع ذلك الرجل الذي يستفتيه عن توبة للقاتل فأجاب ابن عباس : لا بل للنار فلما ذهب قال له جلساؤه : أهكذا كنت تفتينا ؟ قال : إني لأحسبه رجلًا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا. وهذا من تفرس ابن عباس رضي الله عنه. وترجّل القلم ومضى فأرض اليقين ليست موحلة ، وتطلّع ليأتي بتأويل لذلك العلم الذي يُعنى بلغة الجسد، فهو يبحث في الحركة الإنفعالية التي تظهرها الأجساد كانعكاس مباشر لما نشعر به في داخلنا، حيث يمضي الانفعال ليعتلي الجسد فتتجلى الضمائر وتنكشف السرائر. لغة الجسد هي تلك اللغة التي يدرك مفاهيمها الورى باختلاف أعراقهم وألسنتهم. وننوه هنا لهذا الأمر ، فقد تم توثيق لغة الجسد بالأبحاث والدراسات أكثر مما عرفته الفراسة. وإن نصبنا خيام القلب تحت أنجم الفراسة أو شيدنا قصورًا معاصرة على ذروتها نُحت مسمى لغة الجسد، فالفراسة ولغة الجسد كلاهما للعلم وَفْرة وللفهم غَمْرة.
مضى القول من غُرته إلى ختامه يعرفُ أهله ويدل أرضه ، ويقابل قارئًا اكترث للمعاني وأدرك المغزى والمفاد، ووصل إلى المراد، فأخذ النُصح ليجتبيه عتاد. نقاء سريرتك ببهاء محياك وطُهر خباياك بجلاء طلعتك ونواياك ، فأنت الحر الذي لمع في هذا البيت لأبي تمام.
رأيت الحر يجتنب المخازي
ويحميه عن الغدر الوفاء
وسرى ضوء البصيرة يتقصّد ذلك الذي يطلق الأحكام على غيره، أيها السارح في مداك خذ من سنا كل شيء وطوقه حولك واجعل الحكم يسير لمقصده وقّادًا بضياء التأكد واليقين ، ولا تسلّ القول الذي يُدمي فليبقَ في غمد التحرص مخافة طعن في خاصرة الأيام ، فمهما بدا لك جاور التأني حتى لا يجاورك التحسر.
2 pings