جن النبي سليمان عليه السلام
بقلم الدكتور/ صالح الشادي
يذكر الإمام القزويني رحمه الله (ت 682هـ) : أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان عليه السلام ، نادى جبريل عليه السلام : أيتها الجن والشياطين أجيبوا بإذن الله تعالى لنبيه سليمان بن داود . فخرجت الجن والشياطين من المفازات ومن الجبال والآكام والأودية والفلوات والآجام، وهي تقول : لبيك لبيك ، تسوقها الملائكة سوق الراعي غنمه ، حتى حشرت لسليمان طائعة ذليلة ، وهي يومئذ أربعمائة وعشرون فرقة . فوقفوا بين يدي سليمان عليه السلام ، فجعل ينظر إلى خلقها وعجائب صورها ، وهم بيض وسود وصفر وشقر وبلق ، على صورة الخيل والبغال والسباع ولها خراطيم وأذناب وحوافر وقرون ، فسجد سليمان لله تعالى وقال : يارب ، البسني من القوة والهيبة ما استطيع النظر إليهم ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال : إن الله قواك عليهم ، قم من مكانك ، فقام والخاتم في اصبعه ، فخرجت الجن والشياطين ساجدة ، ثم رفعت رؤوسها وقالت :
(ياابن داود إنا قد حشرنا إليك وأمرنا لك بالطاعة)
فجعل سليمان يسألهم عن أديانهم وقبائلهم ومساكنهم وطعامهم وشرابهم وهم يجيبون . فقال لهم : مالكم صوركم مختلفة ، وأبوكم واحد ؟ فقالوا : إن اختلاف صورنا لاختلاف معاصينا .
ويروى أن النبي سليمان عليه السلام نظر فرأى المردة يهمون بالفساد ورأى الملائكة يحولون بينهم وبين ذلك بالأعمدة ! . فصفد المردة وفرقهم في الأعمال المختلفة من عمل الحديد والنحاس وقطع الأحجار والصخور والأشجار وأبنية الحصون ، وأمر نساءهم بغزل القز (الحرير ) والأبريسم والقطن ونسج البسط والنمارق ، وأمر بعضهم بعمل المحاريب والتماثيل والجفان والقدور الضخمة .
كما أمر طائفة منهم بالطحن ، وأخرى بالخبز ، وأخرى بالذبح والسلخ ، وطائفة أمرها بالغوص في البحار لاستخراج الجواهر واللآليء ، وطائفة لاستخراج الكنوز من تحت الأرض ، وأخرى لحفر الآبار وشق الأنهار .. الخ ، فأشغل كل طائفة منهم بأمر صعب ليقل فسادهم ، وليقوى ملكه .
قال وهب بن منبه رحمه الله : كان سليمان عليه السلام إذا شرب الماء (كلحت )الشياطين في وجهه وهو لا يراهم ، فاتخذ (صخر ) الجني له الأواني من القوارير(الزجاج ) ليراهم ، ثم أمره فبنى له دورا من القوارير ، ومجالس للرجال وللنساء ، وأخرى للعلماء والقضاة . كما أمره فبنى له قصرا رفيعا بطول خمسة الاف ذراعا مرصعا بأنواع الجواهر ، وكان يُرى ماخلف الدور لشفافية الجدران ورقتها .
ويقول بن منبه : لما أراد الله تعالى على سليمان ملكه أمر الريح الصرصر حتى حشرت إليه شياطين الدنيا ، فرآهم سليمان عليه السلام على صور عجيبة ، منهم من كانت وجوههم إلى أقفيتهم ويخرج النار من فيه ، ومنهم من كان يسعى على أربع ، ومنهم من كان له رأسان ، ومنهم من كانت رؤوسهم رؤوس الأسد وأبدانهم أبدان الفيلة .
وقال : رأى سليمان عليه السلام شيطان نصفه على صورة الكلب ونصفه على صورة السنور وله خرطوم طويل ، فقال له من أنت ؟ قال : مهر بن هفان . فقال سليمان : ماعندك من الأعمال ؟ قال : عندي عمل الغناء وعصر الخمر وشربه ، وأزين هذا الأمر لابن آدم ! فأمر بتصفيده . ثم مر به شيطان آخر قبيح الشكل ، فقال له : من أنت ؟ قال : أنا الهلهال ابن المحول ، فقال له : ماعملك ؟ فقال : سفك الدماء ، فأمر بتصفيده ، فقال : يانبي الله لا تقيدني فإني أحشر إليك جبابرة الأرض ، وأعطيك العهد والميثاق أن لا أفسد في مملكتك ، فأخذ عليه الميثاق ، وختم على عنقه وأطلقه .
ومر به شيطان آخر في صورة قرد له أظافر كالمناجل ، فقال له من أنت ؟ قال : أنا مرّة بن الحارث . فقال له : ما عملك ؟ فقال : لا يجد أحد لذة الملاهي إلا بي . فأمر بتصفيده .
قال تعالى :
( والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد)
أقول .. لعل روح السخرية والتندرأو الاستهزاء ستغالب بعض من قرأ ماعبر من السطور ، ولكن الأمر حري بأن يؤخذ على محمل الجد ، وليس بالتصديق الكامل لتفاصيله ، فالأمر غيبي بالنسبة لنا ، والله العالم بغيبه . ولكن لنا أن نقول بأن عالم الجن غزير التفاصيل ، وعلينا أن نؤمن بوجوده ، وبأن الجنة والشياطين ذوي أشكال ممسوخة وغير مألوفة ، فقد ورد في القرآن الكريم في وصف بعض أشجار جهنم بأن طلعها (كرؤوس الشياطين) لدمامتها ، ووردت كذلك العديد من الآيات القرآنية التي تشير إلى تصفيد سليمان لبعض العفاريت من الجان ، وكذلك تسخيرهم من قبله في أعمال الصناعة والغوص وخلافه . وعلينا أن نؤمن بكل ما جاء ، وألا نكفر بآيات الله . والأمر مثبت لكل مطلع ،ولا داعي للإفاضة فيه .
قال الله تعالى : ( والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم )
وقال تعالى :
( ولقد مكناهم فيما ان مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وابصارا وافئدة فما اغنى عنهم سمعهم ولا ابصارهم ولا افئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله ، وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون )
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن شهر رمضان : (.. تغلق أبواب النار ، وتفتح أبواب الجنة ، وتصفد فيه الشياطين )