رثاء الزوجات في الأدب العربي
أصدق الشعر الرثاء : لقد تنوعت أغراض الشعر العربي ما بين مديح ، وهجاء ، ورثاء ، وهذا الأخير كان أصدقها ، وأكثرها تأثيراً في النفس البشرية لما يحملهُ من كمية حزن تنسكب في النص الشعري ، ولما يحمله من كلمات موجعة تسيل حزناً ، وفقداً ، ولقد تطور الرثاء الجاهلي في بزوغ شعر الإسلام ، وصار يميل إلى التصبير ، والتجلد بعد أن كان الفخر ، والتفاخر يعلو نصه الشعري كما هو الشاهد في رثاء الخنساء لأخيها صخر ، ومن ثم تطور الرثاء من عصر إلى آخر حتى وصل إلى رثاء البلدان والقلاع في العصر الأندلسي كما قال أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس عقب سقوطها :
لكل شيء إذا ما تمّ نقصانُ …. فلا يُغَرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأيام كما شاهدتها دول …. من سَرّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وما يهمنا في هذه المقالة تسليط الضوء على رثاء الزوجات ، فالمعروف عند عالم النساء أن الرجال ينقصهم الوفاء غير أن الشعر العربي خلّد لنا صفحات من وفاء الرجال لزوجاتهم بعد رحيلهنّ ، وكان أكثر الناس وفاءً رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) الذي ما برح ، وما انفك عن ذكر خديجة (رضي الله عنها) حتى صارت حياته عنها مثلاً في هذا الباب الذي كتب عليه : ( لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ) .
وما يهمني هنا بالتحديد بعض أشعار الشعراء في رثاء زوجاتهم :
وأول من يتصدر هذه القائمة جرير بن عطية الشاعر العربي النجدي وهو يرثي زوجته وأُمَّ أبنائه بقصيدته المشهورة بقصيدة تُعد من عيون الشعر العربي يقول فيها :
لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ
ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ
صلى الملائكة الذين تخيّروا
والصالحون عليك والأبرار
قال هذا الشعر في حب زوجته وهو يعيش في بيئة تستنكر عبرة الرجل على زوجته وتعيب على من يضعف أمام هذه المواقف التي يرون أنها تُخالف رجولتهم ، وهذا واضح من نصه الشعر ، وعدم استطاعته زيارة قبر زوجته بسبب العيب والنظرة المجتمعية القاصرة آنذاك.
يؤيد هذا التحليل الدكتور عبد الرحمن السماعيل الذي قال : إنَّ ندرة رثاء الزوجات من قِبَل أزواجهنَّ في الأدب العربيّ، لا يُعدُّ ظاهرةً بقدر ما هو سياقٌ اجتماعيٌّ تحوطُهُ ثقافةٌ اجتماعيَّةٌ وأعرافٌ مُتوارثةٌ منذ العصر الجاهليّ، وأنَّ الخروج على هذا السياق هو الظاهرة التي يجب التساؤل عن أسبابها"، كما ذكر أنَّ رثاء "الأندلسيين" لزوجاتهم كان أكثر منه في المشرق العربي؛ لانعدام مثل هذه القيود الاجتماعيَّة في "الأندلس"، ولعلَّ الدليل على ذلك يتجلَّى في قصائد "البُحتريّ" و"ابن الروميّ"، اللذين يُعدَّان شاهدان على عصر الحضارة العباسيَّة، بيد أنَّهما لم ينعتقا من ذلك السياق العربيّ الشرقيّ، فهذا هو "البُحتريُّ" يقول:
ولعَمري ما العجز عندي إلاَّ
أن تبيت الرجال تبكي النساء
أمَّا الشاعر الملقب ب"ديك الجن"، فقد رثا جاريته التي تزوَّجها وكان يحبها حباً شديداً- ، وبكى فيها بكاءً شديداً لأنه قتلها بيده بعد شكوكٍ تبيَّن فيما بعد براءتها مما دفعه أن يكثر البكاء والرثاء فقال :
قد بات سيفي في مجال وشاحها
ومدامعي تجري على خدَّيها
ثم يأتي "الطغرائي" في القرن الخامس فيجمع بين ثقافة العيب ، وثورة البوح، فهو من جانبٍ يرثي زوجته بقصائد تفيض شجناً وحزناً وصدقاً ووفاءً للزوجة، في حين يظل مرتهناً بقيود ستر اسم الزوجة، حتَّى بعد وفاتها، بل إنَّه يُناديها في معظم مراثيه ب "ستيرتي"، ولم لا يصدقُ في رثائه؟ وهو القائل:
أُعلِّلُ النَّفس بالآمال أرقُبها
ما أضيقَ العيش لولا فُسحةُ الأمل
ومن ثم كسرت هذه القيود عبر العصور الشعرية حتى وصلنا إلى زمن صارت هذه المراثي من حريات الناس ومن جمال مشاعرهم وصدق حزنهم فلم يعد يعاب على الشاعر والأديب أن يرثي زوجته ، فهذا الشاعر الفلسطيني محمود درويش عندما وقع في حب ريتا
الفتاة الإسرائيلية كتب لها :
" إني أحبك رغم أنف قبيلتي و مدينتي و سلاسل
العادات ، لكني
أخشى إذا بعت الجميع تبيعيني فأعود
بالخيبات".
و عندما اكتشف أنها تعمل لدى مخابرات الموساد الاسرائيلي
قال :
" شعرت بأن وطني أحتل مرة اخرى "
وكتب أيضاً :
" ربما لم يكن شيئاً مهما بالنسبة لك يا ريتا ، لكنه كان قلبي !؟"
وهذه صدمة عاطفية ومقتل في القلب بالفقد والخذلان ، وهذا الروائي الفلسطيني غسان كنفاني کتب لغادة السمان :
إنني أعود إليكِ مثلما يعود اليتيم إلى ملجأه الوحيد، و سأظل أعود"
وأما الشاعر السوري نزار قباني فقد أبدع في رثاء زوجته العراقية بلقيس التي قال عنها مات عازباً من لم يتزوج عراقية وقال في رثائها :
بلقیس یا عطرة بذاكرتي .. يا زوجتي و حبيبتي و
قصيدتي .. نامي بحفظ الله أيتها الجميلة فالشعر بعدك مستحيل و الأنوثة مستحيلة "
وهذا الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي کتب لزوجتة الأدبية المصرية رضوى عاشور :
" أنت جميلة كوطن محرر وأنا متعب كوطن محتل "
ونختم بعميد الأدب العربي الأديب المصري طه حسين الذي كتب لزوجته الفرنسية "سوزان بريسو" قائلاً :
« بدونكِ أشعر أني ضرير حقاً ، أما وأنا معكِ فإني أتوصل للشعور بكل الأشياء وكأنني أراها»
.
٢٢ / رمضان / ١٤٤٣هـ
مقهى أرجوحة شرقية الأدبي