المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحلةٌ إلى مرافئ النجوم


عاصفة نجد
29-05-2006, 03:15 PM
رحلةٌ إلى مرافئ النجوم

بعد معاينة دقيقة حذرة، لملم الطبيبُ أشياءَه نظر إلى وجهي بأسىً،ثم التفت إلى أخي الأكبر ، وهمس في أذنه كلمات غير مقتضبة ، سمعتُ منها شيئاً ، وغابت عن مسمعي أشياء.. استطعتُ التقاط آخر جملة تهدّجت بها شفتاه.. كان يتكلم بحسرة ظاهرة.. وكان أخي يقف ذاهلاً عن كل شيء، يلتمسُ كلماتٍ مطمئنةً من صديقه الطبيب، وينظرُ إليَّ بحنانٍ لم أشهد مثيلاً له... كنتُ أنقّلُ عينيَّ الكليلتين بينهما، منتظراً كلمة تنهي هذا الصراع المريرَ الطويلَ مع المرض والألم..‏

افترسَ الصمتُ جوَّ الغرفة.. الكآبةُ والخوف يعتصران أخي.. وأنا أشبه بخرقة بالية ملقاة في جوف السرير، لاأقوى حتى على الأنين... اعتصرَ الطبيب بكفيه كتفي أخي، وقفزت من بين شفتيه كلمات متوترة حادّة: "لافائدة ترجى.. تشجّع.. ساعاتٌ قليلة وينتهي كلُّ شيء." وقعت تلك الكلمات في سمعي المتعبِ بكل وضوح.. لست أدري لماذا كنت مُرهفَ السمع آنذاك.. لعلي عرفتُ بحدسي أن كلماتِ الطبيب الأخيرة هي النطق بالحكم النهائي غير القابل للاعتراض أو الطعن.. غرستُ عينيَّ في الجدار المقابل، ورحتُ أستعيد قرار الحكم النهائي كلمة كلمة.. لم أجد في داخلي رَغْبةً في البكاء، أو خوفاً من المصير العاجل المحتوم، فلقد قضيت سنواتِ عمري في صراع مع الفقر والقمع والأزمات المتتالية حتى سقطتُ أخيراً بين مخالب المرض.. لعلّي الآن فقدتُ الإحساس بالحزن والفرح معاً، ولم أعد أميّز بين الأمل واليأس، ورحتُ أنتظر قدوم ضيف لايرغب فيه أحد.. كان الطبيب يشدُّ أخي محاولاً إبعاده عن الغرفة، لعلّه كان يخشى عليه، وهو يرى دموعه السخيّة وانهياره وشحوبَه.. أفلَتَ أخي من بين يدي الطبيب.. اقبل نحوي يستهدي بغبش دموعه، وضع كفّاً باردة مرتجفة على رأسي، ومسح على شعري بليونة وضعف.. لم أرَ أخي في سنوات عمري القصيرة.. متهدَّماً، منهاراً، ذليلاً.. كما أراه الآن... أغمضتُ عيني، وأدرتُ وجهي كيلا تسحقني أكثر، ملامحُ الحزن الجليديِّ في عينيه... لم أدر كم من الوقت مضى، وأخي ثابتٌ إلى جانبي، لايتحرّك، كجذع شجرة عتيقة.. كنتُ أسمع انفاسَ صدره تعلو وتهبط دون انتظام، واحسُّ بروحه تغمرني وتطوف حولي رفيقة وادعة خائفة.. دون انتظام، وأحسُّ بروحه تغمرني وتطوف حولي رفيقة وادعة خائفة.. ظلّت تطوقني وتدغدغ حواسّي المتلاشية شيئاً فشيئاً حتى سبحتُ في جوٍّ هيوليٍّ متأرجح.. ورحتُ أغوصُ في دهاليزَ متداخلةٍ لاحدود لها.. جدّفتُ عبر بحيراتٍ دافئة متلاحقة.. كل واحدة تفضي إلى الأخرى، ومياهٍ عميقة هادئة لها سعة المدى.. داخلني إحساس أنني أقف على تخوم مستنقع الموت.. وأنني أُطلُّ على العالم الآخر عبر كوّات واسعةٍ لاحصر لها.. تابعتُ السباحة في خضمِّ البحيراتِ الواسعة...‏

ليس للماء طعُم الملوحة.. لزوجةٌ دافئة تطلقُ بخاراً يعطّر الكون من حولي بعبير خاص.. الحياة هنا لها طعم آخر.. شعرتُ أنني قد تعبتُ من السباحة، وتذكرتُ أن الهيولى التي أضربُ فيها لاتحدّها شواطئ ولارمال... لُذْتُ بكوّة من الكوى المنتشرة على تخوم العالم الآخر.. تمسّكتُ بحوافيها.. مددتُ رأسي بحذر شديد.. لم أتبيّن شيئاً.. أكلتني الدهشة.. ماذا أرى؟!! فضاءٌ سحيق لانهاية له.. أتعبتني الرؤية.. سحبتُ عينيَّ الزائغتين وغطيتهما بجماع كفّي.. فجأة تناهى إلى سمعي أصواتٌ متداخلة تعلو حيناً وتنخفض أحياناً.. أصختُ السمع جيداً.. لم أفهم شيئاً.. اقتربتُ من الكوّة من جديد، نظرتُ من خلالها إلى الطرف الآخر، لاحت لي أشياءٌ تتحرك تشبه الأشباح.. غريبٌ ماأرى؟!! من هؤلاء؟؟ ماذا يعملون هنا؟!!.. انتصب في خاطري سؤال: ماذا لو انتقلتُ إلى الطرف الآخر؟؟.. حشرتُ جسدي عبر الكوّة.. لم تمنعْني من العبور.. وجدتُ نفسي أسبحُ في هلام من نوع آخر.. غمرني دفءٌ ونور أيقظا إحساسي وروحي، أبعداني عن التبلّد والخوف.. جميلة هي الحياة هنا!!.. ولكن.. ألا يوجد أحد؟؟ أين الناس؟؟ أين توارت الأشباح؟!! لابأس.. سرتُ وحيداً.. سعادةٌ غامرة ملأت كياني.. شعرتُ برَغْبة في الغناء.. لم أستطع.. وجدت أنَّ الكلماتِ تموت في حلقي.. أقنعتُ نفسي بأن الغناء ليس تعبيراً مطلقاً عن السعادة.. الصمتُ هو حالة الاكتمال.. فجأة نبتت أمامي مجموعة من الرجال.. أحاطوا بي من كل جانب.. سقطتُ في مستنقع خوفٍ مزلزل.. تفرستُ في وجوههم، رأيتُهم يبتسمون.. داخلني بعض الاطمئنان.. هتف بي أحدهم: أأنت القادم الجديد؟؟.. لم أنبس بكلمة.. كان الخوف مايزال يلازمني.. اقترب منّي أحدُهم..‏

قبّلني ببشاشة ورقّة.. قال لي:‏

-.. اطمئن.. فقد أتينا لاستقبالك.‏

نظرت إليه ببلاهة.. قلتُ بصوت مرتجف:‏

-... ولكن، من أنتم؟؟..‏

أجاب بصوت مشجعّ:‏

-... لاعليك.. كن واثقاً.. نحن هنا لجنةُ الاستقبال.‏

سألته والدهشة تغمرني:‏

-.. لَجنةُ الاستقبال!! أتعني أنكم تستقبلون الموتى؟!!‏

أجابني بكل هدوء:‏

-.. لا.. إنك لم تمت بعد.. نحن نستقبل الزوّار فحسب.‏

زايلني الخوف إلى حدٍّ بعيد.. سرّني أنني لم أمت بعد.. استمدّيتُ من ابتسامته وهدوء ملامحه كثيراً من الطمأنينة.. قلتُ له:‏

-.. أنا جديد العهد هنا . فهل لي أن أتعرف إلى شؤون حياتكم ؟‏

نظر إليَّ بعطف شديد ، غرس في جسدي روحاً جديدة . قال :‏

- عليك بادئ ذي بدء، أن تتخلّى عن كل مالازمك في حياتك هناك.. نحن نعرف كيف كنت تعيش.‏

صعقتني جملته الأخيرة، نظرتُ إليه بحيرْةٍ وغباء.. قلتُ له:‏

-.. لم أفهم ماتقصُد.‏

ضحك ملءَ فمه.. قال لي بنبرة هادئة:‏

-.. يبدو أنك لم تطمئنَّ بعد.. وأخرج من جيب سترته ورقة مطوية فردها أمامي وتابع:‏

-.. عليك أن تتخلّى عن كل هذا، وإلا فلن تستطيع التعايش معنا...‏

أخذتُ الورقة.. قرأتُ مافيها بصوت مرتفعٍ، أخذ يتلاشى شيئاً فشيئاً: الخشية -الكذب- القلق- الشعارات المزيّفة.. كما قرأتُ أشياء خطيرةً جداً.. قادتني إلى انفصام وضياع شديدين.. سألتهُ بصوت خفيض:‏

-.. وكيف يعيش المرءُ بعيداً عن هذه الأشياء؟؟.‏

هزَّ رأسه.. ابتسم برقّة.. أجاب بحزم:‏

-.. سترى.. أن هذه العناصر لاوجود لها عندنا.. القادمون مثلُك يحملونها إلينا فقط.. الحياة هنا شيءٌ آخر‏

عاجلته بسؤال كبير:‏

-.. وهنا.. من يضطهد مَنْ؟؟.‏

أجاب بوقار جادّ:‏

-.. لاأحد.. هنا ليس لدينا حكومات وشعوب.. ولادولٌ قوية وأخرى ضعيفة..‏

-.. ومن يحكمُ التجارة ودواوين الدولة، ويسيطرُ على الأسواق والاسعار؟؟.‏

ضحك ملء فمه.. وقال:‏

-.. نحن.. لانعرف شيئاً عن هذه المصطلحات.‏

غطستُ من جديد في بحرٍ من الدهشة والاستغراب.. أيعقُلُ ذلك؟!!.. وعاجلته بسؤال ممزّق:‏

-.. والنفط.. ألم يستعبدكم.. ألم يسحق الإنسان فيكم.. ألم يغيّر أسلوبَ حياتكم؟؟.‏

أجاب بسرعة مذهلة:‏

-.. النفط!! وماحاجتنا إليه؟. نحن لانعرفه، نعيش في عالم من النور والدفء، والحبِّ والحنان...‏

تابعتُ باندفاع شديد:‏

-.. وأزمةُ السكن، وأسعارُ المنازل؟؟..‏

ضحك بصوت مرتفع، اشعرني بالخجل من الموقف ومن نفسي ومنه.... بدا لي أن هذا المخلوقَ الغريبَ، يدفعني إلى عالم الوهم والخيال.. حاولتُ التملّصَ منه بسؤال خلتُه سيسدُّ عليه منافذَ الاستعلاء:‏

-.. وماشأنكم مع الحرية، والسجون والمعتقلات والأبرياء، ودول العدوان؟؟..‏

قاطعني بنبرة واثقة حازمة:‏

-.. يبدو أنك لن تفهمنا إلا بعد حين، ولن تستطيع التحرّر من علاقات حياتك السابقة.‏

استدار وتركني وانضمَّ إلى رفاقه.. ظللتُ وحيداً أتلفّتُ حولي.... كان الهلام المحيط بي يزداد نوراً وعبيراً... وشعرتُ بالندم.. آلمتني المفارقاتُ العجيبة.. قررّت أن أتخلّى عن ذاتي السابقة، سبحتُ بخفّة ورشاقة، ووقفتُ قريباً من لجنة الاستقبال.. رحّبوا بي ثانية.. حاولتُ أن أعتذر.. قاطعني أحدهم:‏

-.. نحن هنا، لانحب الاعتذار، تعالْ.‏

وقفتُ بينهم.. سألني ذاك الذي يقف بجانبي:‏

-.. ألا تريدُ أن تتعرّف إلى عالمنا؟.‏

أجبته:‏

-.. بكل سرور... ولكنني لاأزال خائفاً.‏

ضغط على يدي، أشار بإصبعه إلى البعيد البعيد.. قال:‏

-.. الخوف هناك.. يفصلنا عنه هذه الكوى الكثيرة المنتشرة على التخوم.. أمّا نحن فلانعرف الخوف..‏

سرنا متجاورين.. التفتُّ إلى الوراء حيث كنّا نقف.. لم أجد أحداً.. تساءَلتُ في داخلي: أين ذهبَ الآخرون؟؟ كنتُ أسير إلى جانبه والذهول يملأ كلَّ جوانبِ عقلي وجسدي.. التفتَ إليّ وسألني:‏

-.. أين تريدُ أن نذهبَ الآن؟..‏

فكرتُ ملّياً، وقد ساورني حنين طاغٍ إلى القراءة والكتابة.. سألته بشوق:‏

-.. اليس لديكم صحفٌ ومجلات؟؟..‏

أجاب:‏

-.. بلى.. ولكنك لن تستطيع قراءة مايُكتبُ فيها.. لأن كتّابنا يكتبون من داخلهم بلاخوف ولامداورة ولاتكلّف.‏

فتحتُ فمي عجباً ، وسألته بسرعة:‏

-.. والرقابة؟؟..‏

-.. ماذا تعني؟!!.. نحن لانعرف شيئاً اسمه الرّقابة.‏

كدتُ لاأصدق ماأسمع.. أصحيحٌ ذلك؟!! أم أنه يُدخلني في الوهم أكثر.. أشحتُ بوجهي، واحتميتُ بالصمت.. لعل مرافقي أحسَّ بما يجول في خاطري فتوقف فجأة، كمن تذكّر شيئاً، وسألني:‏

-.. ماذا كنت تعمل عندما كنتَ هناك؟.. وأشار بيده عبر الكوى:‏

-.. كنتُ معلماً.‏

-.. وأين كنتَ تعلّم؟.‏

-.. في مكان مامن الكرة الأرضيّة.‏

انفجر ضاحكاً، التفت إليَّ وقال:‏

-.. يبدو أنك ماتزال خائفاً!!‏

حنيتُ رأسي.. تابع يسألني:‏

-.. وماذا كنت تعلّم؟..‏

-.. أُعلّم كلَّ شيء. كلَّ مايُكتبُ في كتبنا.‏

انفرجت أساريره عن ابتسامة عريضة.. قال لي:‏

-.. هناك مدرسة قريبة.. هل ترغبُ في زيارتها؟..‏

اجبتُه بسرعة طفولية.‏

-.. نعم... نعم... أريد أن أزور مدرسة.. أيّةَ مدرسة.‏

بعد قليل، كنّا نلج بابَ مدرسة كبيرة جداً.. سرنا بحذر شديد، على رؤوس أصابعنا، كنتُ أخشى أن أخدشَ الهدوء، واعكرّ صفو الأصوات الواثقة، وأسيءَ إلى النظافة التي عمّدت كل شيء.. تجولت كثيراً... وقفتُ أمام نوافذ عديدة.. أصختُ السمعَ حتى كدتُ أن أهرشَ أذنيَّ ورأسي.... سمعتُ كلاماً وكلاماً كثيراً، لم أفهم منه شيئاً بادئ الأمر.. لم أسمع أحداً يتحدث عن البرابرة والفاندال، ولاعن غزة وأريحا...‏

ركبني دوارٌ شديد، لذتُ بمقعد قريب أستريح إليه.. أقبل صاحبي يواسيني ويشجعني... قال لي:‏

-.. أما قلتُ لك... يجب أن تتخلص من أُمورٍ كثيرةٍ حتى تستطيع الحياة بيننا.. سألته وقد بدأتُ أشعر بالهزيمة والاحباط:‏

-.. ومتى أستطيع ذلك؟؟.. هل سيطول بي الزمن؟‏

أجاب بهدوء:‏

-.. تستطيع ذلك، عندما تنفّذ ماقرأتهُ في الورقة قبل قليل..‏

عُدْتُ إلى الورقة أتصفّحها.. يالَلغرابة!! وجدتُ فيها مفرداتٍ لم أقرأْها سابقاً.. قرأتُ فيها: لاتخن وطنك -لاتسرِق -لاتكذب -لاتتآمر... انفجرتُ في وجهه صارخاً:‏

-.. هذه حفظتُها منذ صباي.‏

قاطعني بحزم:‏

- لكنك لم تنفّذ واحدة منها..‏

بدأتُ أشعر بالانهيار والتلاشي.. تمنيتُ أن أخلو إلى نفسي وأستريحَ من عناء هذه المفارقات الرهيبة.. سألته بصوت متهدّج:‏

-.. هل لي أن أذهبَ فأنامَ قليلاً؟‏

-.. لك ماتريد.‏

-.. ولكن أين سأنام؟.‏

-.. في غرفتك الخاصة.‏

لم يمهلني لأتماهي مع الدهشة، قادني إلى جوار واحدة من الكوى الكثيرة وأشار بيده إلى بناء صغير جميل وقال:‏

-.. إلى اللقاء ..أدخل هنا..‏

دخلتُ.. تجولتُ في المنزل الجميل وحديقته وشرفاتِه.. سُرعان ما تعرّفتُ إلى غرفة النوم الأنيقة الهادئة، وغطستُ في نوم خدرٍ لذيذ...‏

بدأتُ أتسلّقُ صخوراً عاتية.. لاأدري متى سأصل إلى قمتها.. كان الخوف يخلع قلبي.. البحرُ في الأسفل.. والصخورُ شاهقةٌ ملساء.. كنتُ أغرسُ أظافيري في الصخر الأصم.. وأنفاسي تتلاحق بعنفٍ وقسوة.. وأعصابي مشدودةً كأوتار رفيعة.. فجأة زلّت بي القدم، ورحتُ أتدحرجُ باتجاه البحر.. أحسستُ بأنني أصرُخُ من الأعماق صراخاً حادّاً.. استيقظتُ بخوفٍ وألم شديدين، كان جسدي النحيلُ المكدودُ يسبحِ في رذاذ من العرق البارد..وعينايَ الواهنتان تلوبان بحثاً عن شيء ما.. وعَبْرَ النفسِ المتقطّع والنظر الكليل والجسد المتلاشي.. شاهدتُ أخي ينحني فوقي، ودموعُه تغسل وجهي وعنقي، وإلى جانبه إخوتي الصغار، وأشباحاً أخرى ترتدي ملابس بيضاء..‏

حاولتُ أن أتكلم، فلم أستطع..حركت أصابع يدي اليمنى ...ثبّتُ ناظريَّ في الوجوه الماثلة أمامي كانت واضحة حيناً، وضبابيّة أحياناً أخرى.. أخذتِ الصور تتلاشى من أمامي.. تتلاشى.. وتتلاشى.. عندئذ أدركتُ أنني بدأتُ أدخلُ في طقوسِ موتٍ حقيقي..‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:21 PM
أجــمل النســـــــاء

يستعيد خالد تفاصيل ما حدث، ذات يوم. كان مدعوّاً إلى حفلة أقامها لـه الأصدقاء، وقبل أن ينهض الجميع معلنين انتهاء السهرة. كانوا قد تحدّثوا في أكثر المواضيع أهمية. استعادوا تاريخ المنطقة، وما يحدث في الجنوب، فكان لأطفال الحجارة نصيب، للمقاومة وللشهداء نصيب، ولم يفت الحاضرين الحديث، عن حقّ سيعود إلى أصحابه، إن عاجلاً أو آجلاً، فهناك من يقدّم ذاته فداء لكل شبر من أرض الوطن.‏

كان خالد ضيف السهرة، ومحطّ اهتمام الحاضرين، فإلى جانب ما يربطه بأكثرهم من صداقات، يحمل فكراً واعياً، وهمّا وطنياً، ويحلم بزيارة معالم المنطقة، والتعرّف عن كثب على المواقع المتضرّرة، وما ألحق بها من تدمير.‏

حين نهض الجميع، دعته منى للمبيت عندها. شدّت على يده برغبة وثقة. تلك اللحظة طاف بنظراته فوق الوجوه، وجدهم متحمّسين، فمنى امرأة مضيافة لا يخلو بيتها من الأصدقاء المميّزين.‏

لم يكن خالد يدري ما يفعله، وهو ينساق وراءها بجسدها الممشوق، وشعرها الكستنائي المنسدل. شعر بنشوة وهو يسير بتلقائية، ولا يتجاسر على التفكير، فلم يسبق أن دعته امرأة للمبيت عندها، بهذه الثقة والعلنية والوضوح.‏

صعدا الدرج إلى الطابق الثاني. ابتسم حين التقت عيونهما، كانت تدير مفتاح الباب وقد رفعت كفّها الأخرى تلامس كتفه تحبّباً. شعر بقشعريرة، وتابع الخطا بذهول.‏

بدا المكان واسعاً، وزعت فيه الأرائك، ومقاعد خشبية ومنضدة، وفي إحدى الزوايا برّاد قديم الشكل. تركته منى وهي تشير إلى أنها ستغيب قليلاً، وعليه التصرّف بحرّية ريثما تجهز غرفة النوم.‏

خفق قلبه. نهض. دار في مكانه، فهو لا يدري ما يفعل. مسح رأسه. استطاع استراق نظرة من زجاج النافذة المغلق. هل يبدو وسيماً؟ اكتشف أنه لا يقوى على التفكير، أو أن السهرة استنزفت كل قواه. هو لا يريد أن يفكّر، لا يريد أن يحسب، فهي ستعود كما قالت، تذكّر أصدقاءه في تلك السهرة. هم شجّعوه على مرافقتها. توقّف فجأة عن التفكير.‏

فتح زجاج النافذة. عبقت رائحة أشجار الصنوبر. كان الليل يزحف، وضوء قمر يتسلّل خلف غيمة. تحرّك نحو البرّاد. فتحه. كان فارغاً. أغلقه. ثمّة شعور كالخدر يعبر جسده. إنه مشتاق للحب، لمعانقة امرأة. تذكر نصيحة أصدقائه، منى ستحتفي بك! بالأمس كان حامد وقبله زياد، وغيرهما.‏

لم ينمّ عن البيت همسة واحدة. كل شيء يوحي بأن منى تعيش بمفردها. تلك اللحظة عصفت به الرهبة. هل يكون فخّاً؟ تذكّر الطريق المؤدية إلى البيت، كانت متفرّعة عن الشارع العام، وسط غابة الصنوبر. لم يجل بذهنه خاطر. كان مأخوذاً بسحر الطبيعة في ضوء القمر، وبرفقة امرأة واثقة تضجّ بالأنوثة والجمال.‏

سمع خطواتها. ارتبك. بدت تسبقها ابتسامة. خفق قلبه بشدة. وارى بصره. استطاع التقاط تفاصيل جسدها تحت قميص النوم المنسدل، بذلك سيتخيّل أكثر مساحة من فخذها الأبيض الذي ارتسم بشكل مغر، تحت القماش الناعم.‏

فوجئ بها تقول بطريقة لا تخلو من الجديّة:‏

-لابدّ أنك تعب. باستطاعتك النوم متى تشاء. لقد جهّزت لك الغرفة.‏



نهضت والابتسامة لا تفارقها. قالت:‏

-نلتقي صباحاً. اتبعني لأريك مكان نومك.‏

ولج الغرفة. أقسم أنه لم ينم تلك الليلة. كان يعدّ نسمات الليل، وثواني الساعات، وكان ينتظر حدثاً ما. حاول الاستلقاء، غير أن جملة من المشاعر والأحاسيس تربّصت به، وجملة من الأفكار تصارعت في رأسه وأعماقه. كانت اللحظات تمر، وكأنه ينهض في كل لحظة من إغفاءة طويلة. من هذه المرأة؟ من هو؟ لماذا تورّط في ليلة كهذه؟ وهو الذي غادر بلده ليجد الراحة والسلام. من دفعه لهذا المصير؟ لماذا يجتاحه القلق والأرق. ضاقت الغرفة به. نهض. خرج. ألقى نظرة على الأمكنة. تفحّص كل شيء، النافذة المطلّة على ساحات الصنوبر. السماء بنجومها المتلألئة. غيمات تغادر باطمئنان. القمر يرحل، وهو يقتعد ويطيل التفكير والنظر.‏

كيف يخرج ممّا هو به؟ هو لا يريد شيئاً. يريد أن يغفو. أن يرتاح. لكن.. لماذا يعتقد بقدوم منى إليه؟ قدومها كأنثى. إنهما رجل وامرأة، وحيدان. لم لا يكون الشيطان ثالثهما؟ لابد من ذلك؟ ستأتي. فقد خالجتها مشاعر وأحاسيس مشابهة. كان غارقاً في التأملات حين اكتشف أن لكل شيء من حوله صوتاً. للجدران. للأرض. للمقاعد. خطوة إثر خطوة، ومضى قسم كبير من الليل، لكن منى لم تأت.‏

أقسم ثانية أنه لم ينم، وحين خرج من الغرفة صباحاً، تأكّد من حركة في البيت قد حدثت. كانت سلّة من الورد الجميل فوق المنضدة، وكانت اللمسات واضحة فوق الأرائك والمقاعد، وحين نظر إلى البرّاد شعر بالعطش. هرول يفتحه، وجده مليئاً بالأطعمة والفاكهة. أغلقه مجفلاً. التفت نحو الصوت القادم. كانت منى مليئة حيويّة وهي تلقي عليه تحيّة الصباح، لاحظ تورّد خديّها. اكتشف أنها غفت باطمئنان طويلاً. قالت:‏

-هل نمت جيّداً؟‏

أجاب بارتباك:‏

-طبعاً.‏

قالت بثقة:‏

-هنا ينام المرء ملء جفنيه.‏

-أجل. أجل.‏

نادت أحد الرجال لإحضار القهوة الجاهزة، وخلال دقائق تسنّى لـه مراقبتها. كانت جميلة، نقيّة البشرة، وكانت أشعة شمس دافئة تغزو المكان، حين اكتشف ولأول مرّة نظرة أسى في عمق عينيها، فقال متشجّعاً:‏

-أرى حزناً في عينيك؟‏

رشفت قهوتها. تنفّست بعمق. قالت:‏

-هكذا يقولون لي. لكني لا أشعر به، وربما أعرف أسبابه.‏

حافظ على دهشته، وتلهّف للاستماع، فبدا منصتاً، وهو ينظر إلى عينيها. تابعت:‏

-السبب يا صديقي.. أنني وحيدة أخوتي الذكور الأربعة الذين يقطنون في الخارج.‏

صمتت برهة. فتساءل بهدوء، وقد رسم ابتسامة فوق وجهه:‏

-هل يسبّب هذا حزناً؟‏

-أجل. حين يقف ذلك عثرة في طريق اخترتها بصدق وإيمان. لكن. دعنا من هذا الآن.‏

-كما تشائين.‏

حلّ صمت قصير. تذكّر خالد ليلته الطويلة. تململ. سألها بتهذيب واضح قائلاً:‏

-هل يعيش أحد معك؟... أقصد. من جلب الورد؟ و...‏

ضحكت. قالت:‏

- رفاقي!‏

- أين هم؟‏

- في أول طابق من هذا المبنى.‏

تابعت بعد صمت قصير:‏

- المبنى كبير، إنه إرث من جدّي.‏

مضى الوقت سريعاً. كان خالد يفكّر بمنى. لم تكن تتعدّى الخامسة والعشرين من عمرها. جميلة، وربما ثريّة. لكنّها حزينة لسبب ما. كان مصرّاً على الخوض ثانية. قال:‏

- أعتقد أن أخوتك يحبّونك كثيراً!‏

- وأنا أعتقد هذا.. قصّتي تشبه الدبّ الذي قتل صاحبه، لقد كلّفتني محبّتهم ثمناً غالياً.‏

تساءل بلهفة:‏

- ثمن ماذا؟‏

أجابت بلا تردّد، وقد ازداد الأسى بعينيها:‏

- بقائي حيّة.‏

قال بذهول:‏

- لم أفهم؟!‏

لنترك هذا الآن. ألا تريد الإفطار؟‏

كان يمضغ اللقمة بصعوبة. شعر بأنه يعيش لغزاً. أخذ يستعيد كلمات أصدقائه. يعيش لحظات المساء والليل. يستجمع قواه ليعرف ويدرك، وقبل أن ينتهيا من الإفطار كانت منى تتحدّث وتسهب، فهي لم تفكّر منذ ذلك اليوم بما كان. ما تذكره أنها كانت مهيّأة لكل شيء.‏

حفظت المواقع والطريق. كان جسدها وعقلها متّفقين. كان عليها أن تتّجه في الصباح الباكر. تقود سيّارتها المفخّخة. وتتّجه إلى ذلك الموقع الذي رسمته مئات المرّات، وحفظت خطوطه ومعابره، وهناك تفجّر نفسها، وتفجّر مزيداً من مواقع العدو.‏

تمتمت:‏

-أشعر بأنني في عالم آخر. أتحدث وأضحك وأفكر.. لكن جسدي ليس لي. ليس معي، وكأنني مت ذلك اليوم.‏

ظلّ مشدوهاً. كانت يداه تتقلّصان وهو يعيدهما إلى حجره، وقد تيبّست الحروف فوق شفتيه، ومنى تتابع:‏

-إنهم أخوتي.. تدخّلوا في قراري. استطاعوا التأثير على المعنيين بالأمر، وإثارة الجانب العاطفي، لأني وحيدتهم الغالية، فاستبدلت في الساعات الأخيرة بزميلة، كانت تنافسني باستمرار على الاستئثار بشرف الموت والشهادة.‏

تابعت وقد شردت قليلاً:‏

-تلك الفترة دخلت في صمت طويل. لم أكن أريد الحياة. كنت -ودون أن أدري- أرفض المتابعة، والاستمرار، وكأنني أهجم على الموت. أسترد أرضي وكرامتي.‏

كان خالد مستغرقاً ومشدوهاً، حين سألته وفوق وجهها ملامح الجد:‏

-إنني منى.. الشهيدة الحية.. ألا تعرف هذا؟‏

أقسم أيضاً.. إنها أجمل النساء، وإن الهالة التي أحاطت بوجهها وأغفل عنها منذ المساء، وجدها في عيون أصدقائه، فهي منى.. التي تابعت مهمّتها، ورفضت التراجع. إلى أن استشهدت وهي تعبر أرضها السليبة. لكنها أيضاً لا تدري كيف عادت لتحمل شرف البقاء والاستمرار.‏

كان صوتها يتسلّل إلى كل خلية في جسده (إنني منى.. الشهيدة الحيّة.. ألا تعرف هذا؟)‏

ردّد بوجل:‏

-أجل يا سيّدتي... لن أنسى هذا أبداً.‏

عبق المكان برائحة الصنوبر، وكانت النسمات تتوالى بفرح.‏

مازال خالد يستعيد ما حدث، وذكرى ذلك اللقاء، تجعله أكثر عشقاً وهياماً، بامرأة ليس كمثلها بين النساء.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:23 PM
الطائر الذي أراد الحياة

ها هو يوم آخر. نهضت بعد أرق الليل. تحركت كما في الأمس. احتسيت القهوة. ارتديت ملابسي، فتحت الباب، وخرجت.‏

مشيت كما في كل يوم. أحياناً تحت المطر، وأحياناً بلا مطر، قد يكون برد أو حر، أرى وجوهاً مبتهجة، أو بلا صفات، أتجاهل كل أمر، لا فرق إن أزبد البحر أم أمطرت السماء، إن زلزلت الأرض أم سكن الفضاء، ففي منطقة ما من الداخل يوجد مؤشّر يعيد الأشياء إلى الصفر أو النقطة التي تبلّدت عندها الأحاسيس وانعدمت الأحلام، فالأمور في طريقها إلى الحقيقة حيث يتحول إلى كل شيء إلى لا شيء.‏

كان الشارع مكتظّاً بالناس، بعربات الباعة الجوّالين، أطلت النظر نحو البعيد، كل شيء مسطّح، الأبنية والأشجار، الأعمدة والجدران، سكينة تخترق الطريق، أقدام متعبة، رؤوس منكّسة، المسافات بعيدة، والنهايات واحدة، وأنا نقطة في بحر الحياة، أتحرك مستسلمة للآتي، للقادم، مذ ماتت الأسئلة وتوقف البحث، أمشي، أكرر الأرقام، وراء كل خطوة، واحدة، اثنتان، ثلاث، أعود ثانية إلى البداية، أعدّ، أعدّ، لا شيء يجدّد الحياة، كل الأمور تصب في بوتقة واحدة، كل الناس نحو هدف واحد، الجائع والمتملّق، الصغير والكبير، كل شيء بعيد عن الجمال، اختلفت المعاني، الحب والحاجة والأهداف، تعدّدت الأسباب والمنطلقات، لا شيء يستحق التفكير، لا شيء يستحق الاهتمام.‏

في غمرة ما أنا به، سحبني صوت ارتطام على الأرض، ملت بلا مبالاة، وجدت طائراً يتخبط وقد فرد جناحيه وكأنه في النزع الأخير.‏

هبطت بطريقة لا شعورية، حملته، عدت أدراجي نحو البيت، نحو صنبور الماء، وبأصابعي نقلت القليل إلى جوفه، ربما ينتعش أو ينفي مظاهر الموت، غير أنه مات.‏

عدت للطريق ببساطة، للفراغ الطويل، لا يعنيني أحد، أو مكان، قدماي وعيناي تعرفان الطريق، اكتشفت بأنني لا أعرف التفكير أو أنني لست مهيأة لذلك، وخلال ومضة فوجئت بالسؤال القديم، ما الذي شتّت ذهني؟ أو ما الذي بعثر مشاعري؟ لماذا غادرني الشوق؟ لماذا احتلّني الضياع؟ استغربت، إذن أنا أبحث عن سبب، وهذا يعني تأشيرة خروج من الحالة المزمنة التي أعيشها، أبحث عن شيء لا أدري ما هو، لكنه موجود في مكان ما، في زمن ما، غير أنه لا يشبه ما أنا به في شيء.‏

كانت السماء مغبرة قليلاً. إنه الغروب، غروب الصباح، مثلما تغرب شمس النفوس، وشمس السماء، الناس والطبيعة متآزران، فكرت، هذا مزيد من التشاؤم، سأفكر بأشياء مختلفة تزاحمت الصور في ذاكرتي بسرعة، متسوّلة تحمل طفلها وهو عاري الرأس والقدمين، طفل آخر يسأل العون، فتيات يتسكعن بوجوه مصبوغة، رجل يحتج على فواتير الهاتف والكهرباء، خادمة لا تتعدى العاشرة من عمرها، سمسار يمتطي سيارته الفاخرة.‏

أبعدت الصور عن عيني، ذلك لا يعنيني في شيء، أن يسقط عامل من طابق عاشر، أو يموت جاري بمرض عضال، أن أصل إلى القمة أو أسقط إلى الهاوية، أن تدّق الطبول أو تقرع الأجراس، كل الأمور تنتهي أخيراً، يطويها الزمن والنسيان، ربما كانت في استمرار، غير أن اللحظة تختلف، تتبدل وتتغير، تحمل الجديد، نهاية لشيء، وبداية لآخر، تتكرّر الأحداث، لكن بصور وأزمان وحقائق مختلفة، قال لي أحد الزملاء يجب الابتعاد عمّا هو مؤلم، يجب أن نتذكر ما هو جميل، فكرت بالنسمة التي كان لها فيما مضى فعل السحر، والكلمة التي تحمل أعذب الألحان، كان كل شيء عذباً فأرى نفسي منخرطة مع الآخرين، في الفرح والحزن وأكتشف في كل مناسبة ما في أعماقي من حب وعطاء، وأتلمس في لحظات الهدوء سعادة هي في جلب البهجة إلى المحيط، وإزاحة الأسى، ومقدرة على المشاركة وأنا مشحونة بالثقة والأمل.‏

هاجمتني صورة الطائر الذي مات، شعرت باللامبالاة، انتقلت إلى غبرة السماء التي ملأت مساحة عيني، إلى الحر المشتّد، صدح صوت بائع الغاز، بائع الحظ، وقعت عيناي على ملصقات الجدران، مطرب وراقصة، متوفّون، لافتات، أشحت ببساطة، كانت قدماي تتجهان نحو مقر عملي، لا أحمل ذكرى أو أفكاراً.‏

دخلت الغرفة كالعادة، الجو مكتظّ بدخان السجائر، قرقعة أقداح القهوة، ردّت إحدى الزميلات تحيّة الصباح، تساءل آخر عن تأخري، نظرت إلى ساعة الحائط، ببساطة، جلست ألملم بعض الأوراق، وخلال دقائق كنت أشغل نفسي بالعمل.‏

بدا الجو ساكناً، للعمل نكهة العدم، كما لعقم الأيام، كل الأشياء متشابهة، الليل والنهار، الدقائق والساعات، أشياء تشبه التعوّد والتكرار، تشبه الملل، يتساوى الرفض والقبول، الحب والكره، التوقّف أو الاستمرار.‏

في تلك السكينة، التقطت عيناي شيئاً ما يعبر خلف النافذة، رفعت رأسي، كان طائر يروح ويجيء، ذكّرني بطائر الصباح، وبطريقة لا شعورية رحت أراقبه، كان مختلفاً، يبدو قوياً، يطير بحركة دائرية، يعود في كل مرة إلى الشرفة المطلّة على الغرفة، يخفق بجناحيه، فيبدو وكأنه يشارف على السقوط، غير أنه يصرّ على المحاولة والطيران من جديد بطريقته الهندسية اللافتة، وخلال ثوان هيِّئ لي أن مصيره قادم كما حدث للآخر، فكرت ببساطة، لماذا تموت الطيور هذا الصباح؟‏

نهضت. وقفت عند الباب. جذبتني حركة في أرض الشرفة، حدّقت، كان فرخ طائر صغير فقد التوازن، يتمايل بجناحين، ملأهما ريش أسود ناعم، بدا في حركته وكأنه يستجدي العون، ارتجف فجأة وقنط، كنت قد فتحت الباب وهممت بالخروج، نقلت نظري بينه وبين العش المبني بدقّة في الأعلى وبين الطائر الذي مازال يدور في الفراغ، كان رأسي يعمل بسرعة، وقد تجسّد المشهد لعيني، بيت وأسرة، أم وأطفال، راقبتهما لحظات وأنا مكتوفة الأيدي، كان الطائر يذهب في رحلة أمتار ويعود إلى الشرفة، واثقاً جريئاً، يرخي جناحيه فوق الصغير، يرفرف بقوة ويعود إلى البداية، في حين سكن هذا، والتصق بالأرض ليبدو أقل حجماً، برأسه المتمايل، وريشه الموزع بدقة، وجسده الضئيل المنكمش.‏

بدا الطائر مصرّاً حتى النهاية، وهيِّئ لي بأن المشهد قد طال، خاصّة وهو يعود في كل مرة أكثر جرأة وقوة. كان جميلاً بريشه الأسود اللمّاع، بجناحيه المصفّقين، وبإصراره، كأنه يريد شيئاً، أن يقوم بفعل ما، مازال الصغير في أرض الشرفة، يرفع رأسه إلى الأعلى ينتظر شيئاً، يصفّق بجناحيه الصغيرين، ويراقب الطائر الذي يتعمّد الدوران فوقه، قبل أن يعود ويكرّر المحاولة من جديد.‏

أتاني شعور أن الطائر في مأزق، ويقين بأهمية ما يقوم به. وجدت نفسي أغوص في التساؤلات، وخلال ومضة، دفعني شعور غامض نحوه، إنه يطلب المساعدة، بل إنه يريد الحياة، له هدف، وطريق، وبداية واستمرار، ودون أن أدري شعرت بشيء يهزّني، شيء يدفعني للمشاركة، اندفعت، هبطت نحو الصغير، وضعته فوق كفي، كنت أرتجف وأنا أهمس له بالاطمئنان، وأبسطه إلى الأمام مواجهاً للطائر المحلّق، وكأنني نقطة في مسيرته المرجوّة، انتظر اقترابه بتحفّز مشوب بالرهبة.‏

ازدادت السرعة فجأة، ضاقت الدائرة، اتجه الطير نحو راحة كفي، اقترب، لامس جناح الصغير، ابتعد ثانية ليعيد الكرّة من جديد، خفق قلبي بشدّة، شعرت بأنني نقطة الوصل، كل شيء في أعماقي يتدفّق، يأمل، تقلّصت أصابعي، تململ الصغير، وقف، رفرف قليلاً، اقترب الطير للمرة الأخيرة، لامس أصابعي بجناحيه، مال نحو الصَّغير الذي رفرف بقوة، ثم اندفع يلحق بالطائر بين دهشتي، وما حملته خلال الدقائق القليلة.‏

حضنت كفي، شيء في أعماقي يتدفّق، شيء أكبر من الدهشة والإعجاب، شيء يشبه الوجل، لم أكن أسمع شيئاً آخر، كان قلبي يخفق وهما يبتعدان، تلاحقهما عيناي بحب، كل الأشياء جميلة، السماء والشجر، الأرض والبشر، شعرت بالبهجة، حملت أشيائي وعدت، طالعتني الابتسامات العذبة، الآملة، تلك اللحظات، مرّ شريط طويل من الذكريات، بما فيها الحب والأمل، الحزن والشقاء والفرح، شعرت برغبة الاستمرار، برغبة المتابعة، كان لي قدرة على الطيران والتحليق، نظرت إلى الجميع بحب، وابتسمت.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:24 PM
لن أشعل النار ثانية

لاح الجدّ في طرف الممشى الترابي.. خفق قلب مدى. أسرعت تركض نحوه مبتسمة.‏

مسح رأسها محتفظاً بابتسامته. كانت فرحة ومتحفّزة في آن واحد. تذكّرت أفراد الأسرة الذين يحبّونه ويحتفظون أمامه بالجد. تذكّرت حديث أمها وخوفها على صحّته، وقرارها بزيارة القرية التي تبعد عن المدينة بضعة كيلو مترات والتي يقطنها الجدّان، ولا يغادرانها إلا في المناسبات.‏

ردّدت بحب وبراءة قائلة:‏

ـ ألست مريضاً يا جدّي؟‏

ابتسم. مسح فوق رأسها بسعادة. أجاب:‏

ـ قليلاً..‏

ـ ألا تخاف البرد يا جدّي؟‏

ضحك. رفع الشال الذي حاكته الجدّة ذات شتاء إلى كتفه. وقال:‏

ـ هذا البرد يحمل إلي المداعبة.‏

بدت منهمكة وهي تتابع مؤكّدة:‏

ـ قالت أمي إن البرد يضرّ بكّ!..‏

ضحك. تساءل بتحبب:‏

ـ وماذا قالت أيضاً يا مدى؟‏

ضحكت. ردّدت:‏

ـ أنت لا تفكّر بالراحة. تعتقد أنك شاب.‏

ضحك الجد أكثر. بينما مدى تراقب ثيابه الخاصة بالعمل، وتنهمك بإزالة بعض بقع الغبار عن أطراف سترته. ردّدت بطريقة تشبه اللوم قائلة:‏

أمي غاضبة لأنك لا تتوقّف عن العمل.‏

ردّد بثقة:‏

حين أعمل أصبح شاباً، فأهزم المرض.‏

أخذ بيدها وسارا. قطعا الطريق القصيرة على مهل. كانت مدى تراقب قدميه وهما تتحاشيان الطين. تعتلي الحجارة المرصوفة التي تتلقّى خطوات الجد بصداقة محببة، وعلاقة ودّ طويلة. اتجها نحو زاوية البستان، حيث أقام منشأة صغيرة لصنع حجر الخفّان.‏

لم يمض وقت حتى كانا بين العمال. دبّ هرج قصير الزمن. بعض العمال يرحّب بهما. ابتسمت. إنهم أصدقاء جدّها. راحت تراقب عجينة الرمل والحصى وهي تخرج قوالب طريّة، وتنشر متباعدة ريثما تجف، وتفكّر. كيف ستمضي النهار؟ وتتسلّق الأشجار؟ حيث تنظم بين أغصانها المساكن، وتقيم مآدب التين الأخضر، شعرت فجأة بالفرح. تذكّرت مقام الشيخ (عبدالله).‏

يمسح الجد رأس مدى، يجيبها على كل سؤال. قال:‏

ـ كان الشيخ عبد الله رجلاً مميزاً.‏

تتضخّم الصورة في رأسها الصغير. يسحبها الجد من الشرود قائلاً:‏

ـ اختلف عن الآخرين بنهجه للحق والخير والصدق. كان يهتم بالجميع، ويحب الجميع، خاصّة الأطفال.‏

أجمل الأيام تلك التي تقضيها مدى في القرية، تمنّي النفس بعطلة مميّزة، فتخضع مع أمها لحوار حول المدرسة والاجتهاد، وتفوّق يرتبط مع تحقيق الأحلام. تحزن أحياناً أو تغضب، غير أنها تقول دائماً:‏

ـ سأنجح وأتفوّق وأذهب إلى القرية.‏

يقع بيت الجد في أجمل مكان في القرية، أو هكذا تراه مدى تستلقي في ساعات القيلولة أمام فسحة الدار الواسعة، حيث تتدلّى دالية العنب بإغراء لافت، فيخطر لها قطف بعض الحبّات الحامضة، وتدرك أن الجدّة التي حفظت عدد العناقيد ومواقعها ستنهرها بشدة. تضحك من أعماقها وتسترسل في التفكير، أو ترسل بصرها عبر الفراغات، أجمل ماكان يروق لها في ساعات الهدوء تلك اللحظات الصامتة. تبحر عبر السماء الممتدّة. تعيش المواعيد الجميلة قرب غيمة أو أكثر، فتعبق النسمة من حولها بعطر الورد والياسمين، وتهبّ من الطرف الآخر للبستان رائحة بخور... تتذكّر ضريح الشيخ عبد الله. تنهض. تفكر بزيارة سريعة إلى هناك.‏

كان الصيف حاراً،وأشعة الشمس محرقة، شعرت بسعادة وهي تتفيأ في ظل شجرة، فقد حملت لها تلك الوقفة مزيداً من الأفكار، إذ اكتشفت وعلى مساحات متفرّقة مزيداً من النباتات والأعشاب اليابسة، متجمّعة حول الضريح وبين الأشجار، وخلال وقفة صغيرة حمّلت نفسها، مسؤولية جلب البهجة إلى المكان. لم يطل الوقت حتى راحت تلبّي أهم قرار أملاه تفكيرها، مندفعة إلى قلع مايحيط بالضريح من عشب ونباتات، تمنع عنه‏

الجمال والتميز.‏

باءت محاولاتها بالفشل. لم يمنعها ذلك من التمادي، ازدادت صلابة أمام تصلّب الأعشاب، معتقدة أن الدفاع عن جمال الضريح، جزء لا يتجزّأ من إيمانها بعظمته، وما تلك المقاومة، سوى نوع من تجربة، تنتهي باختبار هام، يحقق صدق مشاعرها. كان لابدّ من التفكير، فتمهيد الأرض وتنظيفها أهم أمر. سخّرت عقلها وذهنها، إلى أن تحقّقت الفكرة، فأشعلت عود ثقاب في أقرب يباس حول الضريح.‏

لم يطل الانتظار، تعالت صيحات النار تعلن عن نهم وجوع شديدين. شعرت برعب، المكان ينذر بالغضب، بالعقاب، نار تبتلع الجذوع والأغصان، صدى وأصوات، ركض ورجال، الجد، العمال. الأطفال. النساء.، وكلهم يهرعون لإخماد النار، تصاعد خوفها. هربت. سقطت في فراشها، وكأنها تغطّ في نوم عميق.‏

نادها الجد حين عودته، بدا مجهداً، منهكاً، اقتربت مطرقة الرأس. قال:‏

ـ أخمدنا الحريق. خفنا من امتداد النار!‏

لم ترفع رأسها. تابع:‏

ـ كان عملاً ضرورياً!‏

لم تحرّك ساكناً. غير أنها تساءلت بعد برهة:‏

ـ أي عمل يا جديّ؟‏

ردّد واثقاً:‏

ـ نزع الأعشاب اليابسة.‏

تابع:‏

ـ إنهم يبحثون عمّن أشعل النار. إنه حتماً من الجوار.‏

لم تجب. تابع قائلاً:‏

ـ إنه الطمع.‏

لم تجب أيضاً. تابع:‏

ـ يحرقون الغابة بغية توسيع أراضيهم!‏

توسّعت مقلتاها.. نظرت نحوه بدهشة.. ردّدت بعفوية؛‏

ـ لا ياجدي!‏

ـ قال:‏

ـ هذا ما أعتقده!‏

صمت. كانت تستمد الجرأة. تساءلت بصوت خافت مشوب بالخوف متسائلة:‏

ـ ماذا سيحدث للفاعل يا جدّي؟‏

بدا جاداً. ردّد:‏

ـ يعود ذلك لدوافعه.‏

تجزّأت. قالت:‏

ـ كان يقصد خيراً.‏

ردّد بطريقة أقرب إلى المزاح:‏

ـ تبدين على معرفة به!‏

قالت بخوف:‏

ـ لا.‏

غادرها قائلاً:‏

ـ انتهت مشكلة الحريق. نحن ننتظر اعتراف الفاعل.‏

لم تلحق جدّها كعادتها، جلست تنتظر المساء. تستعيد زياراتها للقرية الجميلة. حبّها للأرض الممتدّة. لساعات اللعب. حواراتها مع جدّها. ذكرياتها قرب الضريح. فكّرت بالحريق.تراءت الصور. الناس. الجد. العمال. النار. الخوف. الهروب. طمع الجوار. قفزت ذكرى الشيخ عبد الله. كان يحب الأطفال. يحب الصدق. إنهم ينتظرون الاعتراف. كانت تقصد خيراً، وكان في أعماقها شيء يشبه القرار، يكبر وينتظر.‏

ذلك المساء. عانقها الجد بعد حوار طويل بينهما، وبعد أن نقل لها كل فكرة راودته خلال أحداث النهار. كان موقناً من أنها التي سبّبت الحريق، وواثقاً من اعترافها، غير أنه أراد امتحان مقدرتها على الصدق أولاً، ثم نفي الرعب من عينيها، وهو يستمع إلى صوتها جريئاً، قوياً، وبلا خوف.‏

كانت هادئة، بينما ترن في سمعها، آخر الكلمات، وهي تردّد بصدق:‏

ـ لن أشعل النار ثانية.. أبداً يا جدّي.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:25 PM
قبعة جدّتي.

باغتني وميض حلم فتفاءلت. حلم يراودني في أوقات القلق والحاجة والوحدة. فيسهل الصعب، ووطء العيش، ويتحوّل كابوس الحياة وضغطها، إلى تجارب هامة ونقلة حياة غنيّة. فأضحك لذكرى الجرذ أو لمضايقاته، ويتحوّل تلصّصه عبر علب العدس والبرغل إلى مزاح، وتنقّلاته إلى أسلوب في التحبّب. أرى ابتسامته العريضة، وشواربه التي تتقن الرقص بعد وجبة غنيّة، من مؤونات المطبخ الحافلة بالكائنات الحيّة، وزغب الحبوب المتجمّع والملتصق على جوانب العلب. أستشهد بوقفته الصامدة إلى جانبي، خصوصاً بعد رحيل أمي، وسقوطي في الفراغ الذي لم يملأه سوى وجود الجرذ، ضيفي الخفيف.‏

التقت عيناي بعينيه في إحدى الليالي الطويلة. كان الفجر يقترب وأنا في رحلة مع الأرق والتفكير، كنت متحفّزة، متفائلة، مملوءة نشاطاً، يفوق قدرتي‏

عشرات الأضعاف.‏

أجلس بعينين مفتوحتين. أعبّ من هواء الغرفة نفساً مفعماً بالأفكار، وقد توصّلت إلى مواجهة هامّة مع تعايش لابدّ منه، إذ حللت عبر الحلم، أكثر ما ترتّب علي من ديون، خلال مرض أمي وعلاجها الضروري، فالهموم تلاحقني في ساعات القنوط، فأضطر للبحث عن طريق وأساليب مغرية، عبر دراسة وتمحيص، أؤجّل تحقيقها إلى فرص لاحقة، أزيّن بها الخطّة، أحيك الطرق، أحوم حول أهم مادّة تستحق الاهتمام والاحتفال اللائق، فتبرز في كل مرّة قبّعة جدتي.‏

تصبح أجمل وأهم، تستيقظ أحلامي حين أتذكّرها، أو حين أقارنها بقطع فنيّة نادرة، وأكتشف باستمرار طابعها الخاص، المميّز، أو أسترجع مواصفاتها عبر التذكّر، فجدّة جدّتي اعتمرتها في المناسبات، اختالت بها، افتخرت، إذ حاكتها أمهر يد، وصنّعها أسلوب فنّان. أنتشي مع ومضات الأمل، تُحلّ مشاكلي عبر احتفال أو استعراض. تدخل القبعة في مزاد، أو تهافت علني، كاحتفالات في الذاكرة، يُخضع مثيلاتها لما يعود بالنفع، أو الفخر، أو كليهما، فتحلو لعيني القبّعة، أهرع إلى الدرج الخشبي، أحاورها، أرفق بملمسها. أصل إلى قناعة بتغيير جذري في أمور حياتي، أستجلب الطمأنينة، إذ سأفاجئ الجميع بمسببات الراحة.‏

أجفلت في اللحظة التي التقت عيناي بعينيّ الجرذ، غير أنه لم يجفل، استقبلت أفضل فكرة هاجمتني، وأنا أشحن نفسي بتهديده. أزحت الغطاء بقوّة أثبت وجودي. حملقت بعينيه متحدّية. تحفّزت. صرخت. لم يعبأ بي. كان عند الباب الذي لا يبعد عن السرير كثيراً، جريئاً، قوياً، حرّك ذنبه وشاربيه، تملّكتني جرأة، نهضت، أصبحت في منتصف الغرفة.خطوت. خطا. تحفّزت، تحفّز. أدار ذنبه وقفز. قفزت وراءه، كان سميناً، له رأس وذنب متعاكسان في الحركة. أدرك تعقّبي. تباطأ، أصبحت المسافة بيننا واحدة. اقترب من مملكته العظيمة. دخل المطبخ. تخفّى فوق أحد الرفوف، ليظهر شاربه مهتزّاً بثقة. وخلال رهبة قادمة، تملّكني شعور بالضحك واليقظة معاً. تسمّرت في مكاني.‏

دخلت اللعبة معه. استطعت التوصّل إلى عالمه الليلي، هو أرق وضجر مثلي، يهوى اللعب والمزاح. أقصى أحلامه تنتهي هنا، حيث يمتلك أسباب العيش، وأقصى أمانيّ تدور حول شعور مواز لأحلامه، شعور ينهض بي، يرفع الضغوط عن كاهلي، أقهر الحاجة، وأقهره، فقد تمادى أكثر، وكبر أكثر، أصبح أكثر جرأة، ونداً لي، يراقبني يتحداني، شعرت بالخوف. هربت. أغلقت باب المطبخ. عدت أدراجي نحو السرير.‏

لم تكن القبعة وليدة المصادفة، بل تخضع لمدّ وجزر، بين الحاجة والاكتفاء. أول الشهر وآخره. تتكرّر وتصبح هاجساً وحلماً، وفكرة مؤجلّة من خوف قادم، أو مناسبة أهمّ، فشقوق البيت تهدّدني، ومؤجّره يهدّدني، والجرذ مذ أصبحنا أكثر من كائن، ومذ خبر الحياة، وتعلّم، واعتاد السمّ، وتحاشى المصيدة التي وصفها جزّار الحي بالخبرة والاحتيال، أيضاً يهدّدني.‏

كتبت رسالة في إحدى عشيّات التفاؤل، إلى صديقتي التي تسكن بلداً شقيقاً، وتعمل لكسب المال، حدّثتها عن أحلامي القادمة، عن الفكرة، عن شوق وخطط لتحقيق الأمنيات. حدّثتها عن قبعة جدتي. وصفتها، لونها، عمرها، صناعتها. ستهبط الثروة ذات يوم وأغتني. لم يفتني تذكّر الجرذ، الذي سيهاجر في أول مناسبة، وختمت الرسالة بالتمنيات.‏

غفوت على حلم عذب الصورة.. عوالم لا حدود لأفراحها، قبعة ومزاد وجماهير، أصابع تتسابق. أرقام تعلو، وجوه تتحفّز. عيون تنتظر، وأنا بين الحقيقة والحلم، بين قبعة جدتي والثروة، العوز والاكتفاء، الحاضر والمقبل، استيقظت.‏

بدا ما حولي، وعلى اتساع عيني، وحشاً ضخماً، غولاً بشعة، فركت عيني، هززت رأسي، قلبي يخفق، أحلامي تنأى، تساقطت آمالي دفعة واحدة. نهضت كالمشدوهة، ألاحق آخر محاولات صديقي الجرذ، الذي ملأ شدقيه بطرف القبعة، وكان يهرول. يطوف في البيت، وزواياه، زرع الأرض، المطبخ، حاول دخول الجدار المتصدّع، مجاهداً، مناضلاً، مخلفاً لي الأسى، وبقايا إرث اندثرت عنه المعالم والأحلام.‏

أغمضت عيني، ورحت في إغفاءة عبر الحلم الذي لا أدري إن كان سيتجدّد.

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:27 PM
نظرات ليلى الحزينة

يجول سمعي عبر الليل. يهرب بي إلى الزوايا. أبحث عن الأمان. أعود. أنصت. ألتقط الكلمات. يهتز زجاج نافذتي. يعصف بي الوجع. يحاصرني الألم. أخبئ عيني. أبتعد. يطل وجهها بلا ألوان. يشيع الرعب في نفسي. يهزّني. أقفز بقدمين عاريتين. أشق الستارة. أبحث عن وجه ليلى. تقابلني الشرفة الموصدة:‏

ـ سيزوّجونني!‏

ـ يجب أن لا يحدث.‏

ـ ربما يحدث.‏

ـ مستحيل ستنتظرينني!‏

ـ لا عذر لي.‏

ـ اخلقي عذراً .. أرجوك.‏

يناديني الصوت. أختبئ بذعر. تهاجمني قصص حديثة ومشابهة. أجفل. ستتزوّج ليلى. أنكمش. تتردّد في أوصالي أصداء المستحيل. أقف مشدوهاً، مسلوباً، يغدق الليل صور الطفولة، صوراً أزلية الملامح.‏

ابتسم لي أبوها ذات مرّة، كان يناديني بالشقي. سألني وكنّا على أبواب الامتحانات. قال:‏

ـ كيف استعدادك؟‏

ـ لابأس!‏

ـ ستتفوّق ليلى عليك!‏

ـ أنا مجتهد.‏

ـ سنرى!‏

ناداها من بيننا نحن الأطفال. حضنها. أسندت رأسها إلى كتفه. سألها إن كانت ترغب بشيء ليلبيه. عانقها بسعادة، بدا مبتهجاً قبل المغادرة، وهو يملي علينا ضرورة مراعاة الفتيات. كان يضحك من أعماقه، وكان أخوها يتوارى أحياناً، أو يتحفّز لنقاش جريء، فيرد بطريقة لا تخلو من الغيرة. قائلاً:‏

تعودّت وجود ليلى بحكم علاقة الجوار بين أسرتينا، وتعودّت هي وجودي، وحين هاجمتنا مشاعر الحب لم نفاجأ. كان تأكيداً على استمرار العلاقة بيننا، واعترافاً ترجمه الصدق الطويل. لا أذكر أنني عانقتها عمداً، أو بعد تخطيط، كانت لقاءاتنا عفوية، لا تتعدّى اللمسة، فتشعل في جسدي رغبة اللقاء، وأدرك أنها تشاركني المشاعر، فنغرق في التحام قصير. تهرب على إثره، وأوقن أن اللقاء سيحدث. أعدّ سنوات الدراسة، أفكر بالعمل، بالمستقبل، وتهاجمني فكرة الزواج. أفرح. أخاف. يتدخّل وجه ليلى نقياً، صافياً، ( لا أريد شيئاً يا أبي). كان الأمل يدفعني للدراسة، لتحقيق الحلم، خاصّة وأن أسباب المعيشة في بيتنا، تضني أبي باستمرار، وتوقعه في متاهات التفكير، فيمنّي النفس في ساعات الأمل، بيوم أشاركه عبء الحياة والمعيشة.‏

مازلت في مكاني، أستند إلى الجدار الباهت، وعند الوسادة غفت بعض أوراق شقيّة تفتقد اللون والأمل، كوجه ليلى المستنجد بي.‏

ـ إني محاصرة.. لا عذر لي.‏

ـ افعلي شيئاً.‏

ـ وأنت؟‏

ـ سأفعل.. ليس الآن.‏

بكل أشيائها تقتحم ضعفي. أخاف. أرتجف. أفكّر بأبيها الذي يشابه أبي، بظروف حياته وأحلامه، وشعوره بالمسؤولية، كان طيّباً كأبي، حدّثاني معاً عن ليلى التي ستتزوّج. استمعت إلى مؤهّلات الزوج. فكّرت بمؤهّلاتي. تراجعت. منّيت النفس بموقف ليلى التي ستصرّ على الرفض. كنت واثقاً أن حبنا محصّن ضدّ الصعاب، والهجمات، ولسوف يخترق صوتها جميع الجدران بجرأة وقوّة. عانقت الأمل تلك الليلة. كان وجهها يملأ ساحات عيني. وكنت أكتب لعينيها أجمل الكلمات. سطّرت الشعر والقصيدة. عزفت نشيد النصر، فلن يتجرّأ الليل على حبنا، لن يتجرّأ شيء، وكنت أشبهها بفراشة تواجه الريح، ولا تخشى العواصف، فأعدها بالفرح، والحب، والأمل، وحين غفوت. كانت صورة ليلى الطفلة التي لا يرد لها طلب تزغرد في أوصالي، وتملأ جوانحي.‏

هل كنت أحب ليلى؟ هل كانت تحبني؟ أذكر أنني استيقظت ذلك الصباح على أولى الزغاريد، تبعتها العشرات. أصوات. بهجة. أفراح تنبئ عن حدث سعيد. تعلن مجيء الفرح، وقوعه، وكانت ليلى ستتزوّج.‏

أذكر أنني سقطت وكأني أهوي في فراغ. كنت نقطة في دوار، يأخذني عبر دوائر بعيدة، لا أعرف الرجوع، لا أعرف الاستمرار، كانت أذناي تتلقّف قذائف الزغاريد، بينما الدوي يشقّ الحواجز. ويقطع المسافات، يصل كل الأسماع، ويعلن للمرّة الألف أن ليلى ستتزوّج، وترحل، وتغيب.‏

********‏

سألني والد ليلى في إحدى جلسات المساء الهادئة، وقد حنّ إلى الذكرى قائلاً:‏

ـ اعتقدت في يوم مضى، أنك وليلى على اتفاق سينتهي بالزواج، وأبعدت الفكرة حين لم تحرّك ساكناً.‏

ضحك والدي الذي تجلّى حنينه قائلاً:‏

ـ أتاني شعور مشابه أيضاً، انتفى مع صمت مطبق حلّ على الاثنين.‏

نظرت إليهما طويلاً، كانا قد شاخا، نهضت أغادر المكان، ونظرات ليلى تلاحقني، كأنها تحمّلني ذنوب المقبل من الأيام.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:28 PM
هــو.. وليلى.

أشار إلى صدره بأصابع دقيقة. قال بصوت أجشّ:‏

-أنا رجل ناجح، لي اسم وهوية. أتحرك. أكبر. أما أنت؟ تابع باستخفاف:‏

-أنت شبح، لا اسم لك ولا عنوان.‏

أصلح وضع المرآة. حدق في العينين المنفرجتين. تنبّه إلى نظرات الرجل القابع خلف الصفحة الزجاجية. ابتعد محتفظاً بآخر انطباع. ارتمى في فراشه وهو يتمتم:‏

-أكره هذه الصورة.‏

*******‏

منذ أيام وهو على حالته هذه. يستلقي في الفراش. ينهض. يواجه المرآة. يحدث نفسه. يفكّر بليلى التي غادرته. يحاورها. تهرب منه. يناديه رجل المرآة. ليلى محقّة. ينتفض. إنه يريدهما معاً. ليلى ورجل المرآة.‏

دخل الغرفة يسترق الخطوات. أغلق الباب بتأن. يتبعه ظل. يسبقه. يدخل الصفحة الزجاجية. رجلان متحفّزان. يفصل بينهما جسم لامع.‏

آثار الليل أنهكت الوجه والعينين. حدّق إلى الشعر الأشعث. إلى الابتسامة الهازئة. انقبض. أدار وجهه متمتماً:‏

-لقد قررّت.. وتابع:‏

-قرّرت الاستمرار في عملي.‏

صمت. عاد ينظر إلى المرآة. بدا الرجل غاضباً. كان قد اتهمه بالأمس. وصف أعماله بالسطو. كانت ليلى تشارك رجل المرآة الرأي. إنهما يتّهمانه معاً.‏

كان جاداً ومستغرباً. إنه رجل مختلف. حباه الله بالذكاء والفطنة. أخضع تجاربه للعمل، لكشف الخبايا. إنه قوي بالمعرفة، ويعرف ما يريد. لا يهمه رأي رجل المرآة، أو ما تقوله ليلى. أتاه صوت واثق. قال:‏

-ألا تريد ليلى؟‏

صمت. تذكّر لقاءاته معها. أصبحا يتشاجران في كل لقاء. هي ورجل المرآة متآزران. استرق نظرة من المرآة. فكّر:‏

-سيكون الجدال عقيماً. لن نتّفق أيضاً.‏

ارتدى سترته. خرج.‏

في الطريق أيضاً تذكر ليلى. هو لا يذكر زمن وجودها في حياته. شبّهها بنفسه، بقطعة من كيانه. لم يلحظ التصاقها به. لاحظ مغادرتها. أدهشه ذلك التلازم بين الاكتشاف والمغادرة. رجل المرآة يصرّ. إنها الأجمل. برحيلها يرحل الحب والخير والجمال.‏

*******‏

منذ زمن لم يعترض حياته شيء صعب. يصل دائماً إلى مبتغاه. لا يعنيه المستحيل. لا تهمه العقبات. مذ شبّ وعارك الحياة. مذ عرف التملّك ورسم لنفسه الطريق. أما طفولته؟ ابتسم للذكرى. حين أحب مرآته. تلك اللحظات المدهشة. مرآته كانت المنفذ. والقوة. كان طفل المرآة يشبهه. يحبّه. يهمس له بالأسرار. يشكو آلامه. كلما تذكّر يشعر بالأسى. كان طفلاً بائساً. لا يحب التفكير بالأطفال البائسين. لا يحب هذه الذكريات. تقلّص وجهه. لوّح ذراعه في الفراغ. شتم رجل المرآة الذي تغيّر. سمعه يدافع عن نفسه. ويقول بسخرية (الألم يلد الحب والعطاء، وآلامه هو أنجبت مزيداً من الآلام).‏

عاد إلى البيت منهكاً. لملم بقايا الأمس. صحون. زجاجات. ألقى نظرة على الغرفة. أجواء تعبق بالروائح. ألقى نظرة فيما حوله. النوافذ المحكمة. الستائر. استغرب تجاهله لكل ما يتعلّق بالعمل. انقبض. أغلق الباب. وهن في قدميه. في جسده. ارتمى في الفراش. غاب عن عمله أياماً.‏

*******‏

أزاح الغطاء عن جسده. لم يكن مرهقاً أو حزيناً. اتجه نحو المرآة باسترخاء. ألقى نظرة سريعة. أشاح. فكّر! لماذا فقد ليلى؟ لماذا فقد أشياءه الجميلة؟ مرّت الصور كشريط واه. نهض متثاقلاً. كان في ذهنه رجل المرآة. اتجه نحوه. نظر بعينيه طويلاً. قال بأسى:‏

-لماذا تكره نجاحي؟‏

-هذا صحيح! والأسباب كثيرة.‏

تململ. قال:‏

-أنا لا أستغلّ أحداً. لست أنانياً. لست وصولياً. أريد التعويض للطفل الحزين الذي يسكن أعماقي!‏

شعر رجل المرآة بالغضب، غير أنه تمالك نفسه وهو يؤكد قائلاً:‏

-طفلك بحاجة لأمان. للحب.‏

طال مكوثه في البيت. أحكم إغلاق النوافذ والأبواب. لم يشأ الرد على الهاتف الذي يرنّ باستمرار. كان جسده حاراً وعيناه ذابلتان. مشتت الذهن والتفكير. منهوك القوى، وحين ارتمى في الفراش، لا يدري كم مرّ من الوقت. حلم بكوب ماء، ويد تمسح فوق جبينه. حلم بكلمة صدق وفرح تجلبهما الحبيبة. برد في جسده وصقيع. وهن ووجع. لماذا يرتجف؟ دثّر جسده. رأسه. لم لا تكون ليلى زوجته؟ حاول استرجاع أحاديثها، مواقفها. كانت تشبه رجلاً في الذاكرة. تشبه رجل المرآة، وكأنهما اتفقا منذ الأزل.‏

-حدّثني عن عملك؟‏

-أصنع المعجزات! أسيطر على من أتعامل معهم. أنا الرابح باستمرار.‏

سألته بحزن:‏

-كيف؟‏

-إني أحفظ اللعبة جيداً. أحوم حول نقاط الضعف. أخطط. أستغل الظرف.‏

امتلأت عيناها بالدموع. كانت تفكر بالخير والحب، بالصدق والعطاء، وكان يفكر بامتلاك كل شيء، طالما حفظ طريق الوصول.‏

*********‏

لا يدري لماذا تهاجمه ذكريات الطفولة. كان يحلم باللعب كبقية الأطفال. يشتاق لحضن أم. لتمرّد. لعصيان. للمطالبة بما يحب ورفض مالا يحب. كان يعرف أن للأطفال أمهات يغفرن الذنوب، ويتحملن الصعاب، فيلجأ إلى تلك المرآة. كان يريد لنفسه أماً. لماذا ماتت أمه؟ ولماذا تزوج أبوه؟ قال له: (هي في مكانة أمك). لم يصدّقه. اختلف معه طفل المرآة. كان يحثّه على المبادرة:‏

-ثابر على الحب.. إنه عدوى.‏

ويصمتان من جديد.‏

حلم في طفولته بيوم يمسح فيه حزن الأيام. كان لا يغفو قبل التسكّع في الأزقّة. يصبح رجلاً هاماً. يأخذ بيد طفل، بيد شيخ. يعاقب الظلم. يقتل الأحزان.‏

بكى ذات مرّة، وقبل أن يغفو، حلم بيد أمه الغائبة تمسح جبينه. كان في عينيها نظرة تشبه الاعتذار. قال له طفل المرآة في الصباح:‏

-أمك لم تمت.. تراقبك من بعيد.‏

صمت. لكنه لم يصدّقه.‏

******‏

مذ دخلت ليلى حياته، وهو يشبّهها بأمه التي لا يذكرها. ربما تحمل ملامحها. كانت أمه جميلة، يجب أن تكون جميلة، وليلى جميلة أيضاً.‏

ها هي ليلى لا تفارق ذاكرته. كأنها أمامه الآن. بابتسامتها العذبة. بعينيها الصافيتين. بأحاديثها. بأحلامها. كانت تحلم بطفل ينجبه الفرح. طفل ذكي الملامح. يكبر، ويكبر معه الحب.‏

قال له أبوه ذات يوم:‏

- حين مرضت أمك، حاصرها الهم.‏

تساءل ببراءة:‏

- لم؟‏

- كانت تحبك وتخاف عليك.‏

اغرورقت عيناه. تابع أبوه:‏

- حاول أن تسعدها!‏

تساءل ببراءة:‏

- كيف؟‏

- كن طفلاً طيباً.. ورجلاً طيباً.‏

*****‏

لم ينم تلك الليلة، ومع استمرار الذكريات، أحاط به أكثر من وجه. كان موقناً من وجود أمه، وطفل المرآة، وليلى. هيئ له أن الجميع بصحبته، وليلى التي لم تفارقه. رافقته حتى الصباح. مسحت جبينه أكثر من مرة. أحضرت له الماء، سامرته. وكان مندهشاً ومغتبطاً.‏

استيقظ باكراً. آثار دموع فوق وجهه. حرّك ذراعه وقدميه. نهض. ها هو يخرج من حلم طويل. استعاد تفاصيل ليلته. جالت في خاطره أفكار تحبّها ليلى، وتحبّها أمه. شعر بالفرح.‏

مرّ الصباح. اغتسل. شرب كوباً من اللبن. استرخى على مقعد جانبي. أطال المكوث. أطال التفكير. منذ زمن لم يلحظ ما يراه الآن.غرف البيت المتّسعة. لوحات جدرانية. قطع فنية. مناضد. كتب. ابتسم. تسلّلت إليه البهجة.‏

التقت عيناه بعيني الرجل في المرآة. ملامح تشبه الطفولة. بادله ابتسامة عذبة. سرت الطمأنينة في نفسه. منذ زمن لم يبتسم لـه رجل المرآة. كرّر المحاولة. تكرّرت الابتسامة. لا يدري كم مرّ من الوقت. يذكر أن الغرفة كانت تدور. خاف في البداية. أراد الهروب. قبع في إحدى الزوايا.‏

مسح وجهه براحة كفّه. أغمض عينيه. فتحهما. تأكد أن أمراً غريباً قد حدث. حدّق إلى المرآة طويلاً. أجفل. كان إلى جانب وجه الرجل القابع في المرآة وجه ليلى.‏

لم يشك من أنه وحيداً أبداً. غير أنه التفت يبحث عنها. اقتربت منه بثقة. فتحت ذراعيها. ضمّته. عانقها فرحاً.‏

نظر إلى المرآة ثانية. اختفت ليلى. وجد الرجل الذي يشبهه مبتسماً. أشار إلى أن ليلى تعيش في أعماقه. ابتسم في سرّه مصرّاً على الكتمان. فلن يصدّقه أحد، غير أنه كان واثقاً ممّا حدث، ومن وجود ليلى التي أصرّت على الانتصار.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:29 PM
الزوجة والبحر

كان الجو حاراً، رغم بعض النسمات الصافية.. تمتم زاهي: (هذا يوم جميل) البحر، الشمس، الرمال. هكذا أحب نهاره، وهو يستلقي إلى جانب زوجته التي تحرّرت من قيود الملابس، وراحت تستمتع بالشمس.‏

ثمّة موسيقى تتسرّب من هنا وهناك.. فكّر (إنه البحر.. فسحة للفرح، وحالة للتغيير) لقد اعتاد بين حين وآخر على هذه الأجواء. حيث الأولاد يمرحون، والصبايا ينطلقن بلا قيود، أو يبتهجن حين يلامس الماء أجسادهن، وحيث يتحوّل الكبار إلى أطفال، يتراشقون كرات الرمل، أو رذاذ الموج.‏

أغمض زاهي عينيه. نسمات دافئة تلامس جسده، وشعور بالانتعاش يسري في جنباته. خيّل له بأنه يركض، يلعب. باستطاعته رمي نفسه إلى أعمق نقطة في البحر. هنا يتذكّر سنوات المراهقة، والحب. يحلم بالحبيبة، يناديها، يركض وراءها، يسقطان في الماء، يغوصان، يكرّران اللعبة. تصبح الأشياء أجمل، تختلط الابتسامات بدفء الشمس، ورذاذ الماء. دائماً يشتاق للحب، لحضن الحبيبة، سيرمي في سمعها كلمة غزل، وربما اقتنص لمسة، أو كلمة، أو كليهما.‏

هكذا ينقله البحر إلى حالات من الصفاء، يجدّده، يحييه، فيتدفّق شوقاً، البحر عالم من حياة، من فرح وبهجة، له خصوصياته، وأحلامه، بعيداً عن اليابسة. هنا تتقاعد المدينة، تصبح نائية، بهمومها ووجعها، يشعر في كل مرّة بالتفاؤل، والولادة من جديد.‏

تحرّكت زوجته. رفعت نظّارتها. ضمّت أجفانها. اختطفت نظرة من المحيط، من الشمس، من الشاطئ. بدت وكأنها تلتقط الصور، ثم عادت للإغماضة من جديد.‏

مرت الساعة الأولى. كل شيء هادئ، عدا صوت الأمواج، والموسيقى الهادئة. راح يتأمّل ما حوله، الأطفال، الصبايا، الشبّان. لفت انتباهه شاب، لوّحت الشمس جسده، يبدو مغروراً بمشيته، فيذرو الرمال مع كل خطوة، يتلفّت ذات اليمين، وذات اليسار، وحين يتوقف، يثبت في الأرض كجذع صلب، ويمسح البحر والشاطئ بنظرات طويلة وغامضة. لاحظ زاهي أن الشاب مفتون بنفسه، بعضلات جسده، وربما بلون بشرته. أشاح مبتسماً. فكّر بعذوبة الموسيقى والبحر. أغمض عينيه، وعاد للاستلقاء.‏

جميل كل شيء. فكّر زاهي وهو يستمع إلى حركة البحر، وخطوات الشاطئ، نسمات ووشوشات تعبر سمعه، فينتشي. كانت الحرارة تتصاعد، وثمة وجوه وأجساد تتدفق. كان الشاطئ والبحر يغصانّ بالبشر، كل يبحث عن الهدوء، والاستمتاع بالدفء، إلى أن تحوّل المكان إلى لوحة تغصّ بالحياة.‏

في غمرة ما هو به، كان زاهي يستمع إلى خطوات العابرين جيئة وذهاباً، ويروق له تآلفها وتداخلها مع أنغام الموسيقى العذبة، فتأتيه كالهمس، كان يعدّ الخطوات ريثما تبتعد، خطوة.. اثنتين. ثلاثاً. أربعاً. ويعود للعد من جديد، هذه المرّة أتت الخطوات أكثر جرأة، فقد صفعته النسمة مع الرمل المتطاير، حاول متابعة العد، توقف، أصغى السمع، كان صوت الخطوات قد توقف، حسب مسافة آخر خطوة، أجفل، فأحد ما على مقربة، فتح عينيه على عجل، طالعه الشاب الذي كان مفتوناً بعضلات جسده، وهيِّئ له، أنه أكثر ضخامة، كان زاهي يراقبه، وكان هو منشغلاً عنه بأمور أهم.‏

مازالت الزوجة مستسلمة للإغماضة، نظر زاهي إليها، وعاد للشاب الذي على ما يبدو قد فتن بها. لم يصدّق زاهي في البداية، تابع مواقع نظراته، كانت عيناه على الخصر، ثم الردفين، فالساقين، وحين هبّ واقفاً، كان هذا يغادرهما، وكأن شيئاً لم يحدث.‏

مشى زاهي بضعة أمتار. توقف. شعر بأن الشمس ترسل نارها. جسده ينضح عرقاً، ويشتعل مع كل خطوة. أكثر من الحركة، وقد عجز عن التفكير. زوجته في إغفاءتها الهادئة، والشاب قد غاب بين الأجساد، وهو الذي حلم بالهدوء. شعر بأنه حبة رمل تذروه الرياح.‏

عاد إلى مكانه. جلس قرب زوجته وقد عقد ذراعيه. تفرّس فجأة في جسدها. كررّ ذلك عشرات المرات. شعر صعوبة في التفكير. بدا كل شيء تافه. الوقت. الاستمرار. مرّت أمامه إحدى الصبايا، لاحظ تناسق جسدها، جمال خصرها، غادرها ببساطة. كان يراقب تفاصيل زوجته. هاجمته الذكريات، اللقاء الأول، الثاني. هاجمته نظرات الشاب. شعر بالغضب.‏

تململ. نفض الرمل عن جسده. تأفّف. ضرب كفّاً بكف. حاول إصدار أكثر من صوت، ونظر إلى زوجته التي لم تحرّك ساكناً. شغل نفسه بعقد المقارنات، قبل مجيء الشاب وبعد مجيئه، تأفّف بعصبية، وراح يرسم فوق الرمال أشكالاً، ويمحوها ثانية، حاول الانسجام مع صوت الموسيقى، مع النسمات الدافئة، تلك اللحظة لاحت منه التفاتة، وجد الشاب عن بعد، يتنقّل أو يقف، راح يراقبه بلونه الداكن الجميل، بمشيته الواثقة، إنه يطيل النظر إليهما، وربما يتّجه نحوهما. شعر بالغضب. نظر إلى زوجته، فكّر. هي ملك له، يحارب من أجلها، يقاتل من أجلها. ألقى نظرة عليها، كم هي رائعة؟ وأجمل نساء الشاطئ.‏

اقترب منها هامساً:‏

- هل أنت نائمة؟‏

- لا.‏

- الشمس محرقة. انتبهي.‏

- ....‏

- بشرتك بيضاء. قد تحرقها الشمس.‏

- ....‏

هل تسمعين؟‏

- يا إلهي.. ما بك؟‏

- اعتقدت أنك ضجرة.‏

-لا.. إن كنت ضجراً، اذهب إلى الماء.‏

- وأنت؟‏

تأففت. غيّرت من وضعها. سقطت حبّات رمل من أماكن متفرّقة. أحكمت وضع نظارة الشمس، وعمّ الهدوء.‏

أحسّ زاهي بالقلق، الثواني طويلة، والوقت بطيء. راح ينقّل نظراته هنا وهناك.‏

لأول مرة يكتشف تفاهة قتل الساعات، إن كان ذلك تحت الشمس، أو في الماء، أو فوق الرمال.‏

استفاقت المدينة بجمالها. أصبح بيته أهم أماكن الراحة والهدوء، لكن! كيف سيبرّر لزوجته قراره المفاجئ؟ ماذا سيقول لها؟ أطال النظر إليها، وعاد يراقب الشاب الذي غيّر مساره، وانخرط بين الأجساد المنتشرة في كل مكان.‏

في غمرة ما هو به، سحبته جلبة وأصوات. رفع رأسه. كان بعض الشباب يتجمّعون تباعاً. لاحظ وجود الشاب بينهم، ولاحظ أنه يغيب بين الأجساد ويظهر. ويرفع ذراعه أو يسقطها. يحني رأسه ثم يعود للظهور. خفق قلب زاهي. نهض. أسرع لمعاينة ما يحدث. وعن كثب وجد الشاب يتلقّى الصفعات، بين تهديد وتوعيد، إذ لم تنج امرأة أو صبيّة هذا الصباح من معاكساته، وغسْل جسدها بنظراته الدنيئة.‏

همّ زاهي بالمشاركة، وصفْع الشاب كان قلبه يخفق بقوّة، وقدماه تتقافزان بجرأة. إنه معني كغيره. سيلقنه درساً لا ينساه. إنه يشتاق لشتمه، وصفعه، وكان يهجم ليحقق رغبته. حين تعالت فجأة أصوات، وموسيقى، وخرج من الصالة القريبة رجال ليسوا بلباس البحر، أسرعوا نحو الجلبة، وبهدوء فرّقوا الناس، فالشاب مريض، وضعيف الإدراك كما تثبت تقاريره الطبّية.‏

ابتسم الشاب للجميع، وبين لحظات الغضب والتحفّز والذهول. انتابت زاهي موجة من الضحك. ضرب كفاً بكف وقد تهدّلت ذراعاه. عاد أدراجه نحو زوجته التي كانت تجلس متصالبة الذراعين. ترقب المشهد بابتسامة عذبة، فبدت بعينيها الصافيتين المندهشتين أقرب للطفلة، أما وجنتاها الملوّحتان بدفء الشمس فكانتا أكثر نضارة. تذكّر يوم التعارف الأول. تمتم في سرّه: (مازالت جميلة). ابتسم للملاحظة. أدار وجهه للشمس. تمتم ثانية (فسحة للراحة.. وحالة للتغيير). ألقى نظرة أخيرة على الزوجة المستسلمة باطمئنان. كرّر الملاحظة (مازالت جميلة) هزّ رأسه، واستسلم للإغماضة من جديد.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:31 PM
شـــــــجرتان وعصــافير

أسلمت جسدي إلى قبضة الليل التي هبطت ندية على قلبي، وسرت جوار المرأتين.‏

كان الضوء ينهمر من قمر سماء رائقة وينتشر بين الأماكن الداكنة لضفتي النهر، وكانت الجبال مفعمة بعشب مبلل أحسست رائحته تدهمني، مثلما أحسست رائحة المرأة الطويلة التي ذكرتني برائحة الليمون.‏

لعل الحلم هو الذي يقودني في عراء هذا الليل البارد الوضيء، أو لعل سحر المرأة الطويلة ذات العينين الصغيرتين المسكونتين بنداء الماء، هو الذي قادني إلى هذا المكان بحثاً عن خلاص الروح من سجن الجسد المظلم.‏

قالت المرأة القصيرة:‏

-الشوارع نظيفة وتلتمع كالأسماك الرشيقة في ضوء القمر.‏

قالت الطويلة:‏

-أحببت هذه المدينة السياحية، كنت أتمنى لو أمضينا فيها أكثر من ليلة. قلت:‏

-هي ليلة جميلة رغم كل شيء.‏

قالت الطويلة:‏

-ليلة يتيمة لم تكتمل.‏

قالت القصيرة:‏

-أجل، ليلة أشعرتني بالحزن، كنت أتوق إلى الرقص ونحن داخل المسرح.‏

قالت الطويلة:‏

-أنا أيضاً شعرت بدمي يدعوني إلى الرقص، أعترف بأني قد شعرت بالندم عندما غادرنا المسرح دون أن نرقص.‏

قلت:‏

-الأسلاك الشائكة تطوق حياتنا، وهكذا نسلم أنفسنا للفناء.‏

قالت القصيرة وعيناها تومضان بالأسى:‏

-لماذا لا ننسى نحن الكتاب عقدنا الاجتماعية، أقصد لم ندع الآخرين يحجرون على حريتنا؟‏

قلت:‏

-أحياناً يظلم الإنسان نفسه دون أن يدري.‏

قالت الطويلة وقد اتقد وجهها بحمرة قانية:‏

-إن الإنسان لنفسه لظلوم.‏

وضحكت فازداد الوهج في خديها الناعمين.‏

ضحكت القصيرة وضحكت وقلت:‏

دعونا من هذه السياط التي تجلدنا ولنرحل في هذا الحلم المرتعش تحت الضوء والقمر ونداء النهر والجبال.‏

قالت الطويلة:‏

-في الصباح سنرحل إلى مدينة أخرى، وستبقى وحيداً.‏

تطلعت إليها وبهدوء قلت:‏

-أستطيع أن أقول بأن مملكتي أعماقي وفضائي وخطاي عندما أكون وحيداً، هل تدركين أن وحدة بعض الناس في صالحهم؟‏

قالت القصيرة:‏

-فيك الكثير من روح الشعر.‏

وافقت الطويلة:‏

-فيه الكثير من طفولة وجنون الشعراء، هل راقبته في صالة المسرح وهو يتدفق كالماء على المائدة التي جمعتنا؟‏

أجابت القصيرة:‏

-كنت أتمنى لزوجي تلك الحيوية.‏

للتو استحضرت جلوسنا على المائدة في زاوية المرقص، استحضرت جسدي الذي كان يئن من حمى الجوع إلى وجه المرأة الطويلة الشقراء والذي أطلق ثيرانه الوحشية، وربما زغردت حينذاك بكل رعونتي، وربما شعرت بروحي تغادر سجن الجسد، ربما فعلت أشياء أخرى وأنا تحت وطأة كؤوس البيرة الخمس.‏

أعرف بأنني حاولت أن أضع كفي على ظهر المرأة أو ألمس ذراعيها العاريتين متقصداً، وأعرف أن صوت موسيقى الرقص لم يكن ليعلو على صوت الدم الخافق في نهايات أصابعي وأنا أتحسس ظهر المرأة اللدن، لماذا شعرت بقلبها يخفق في نهايات أصابعي بقلبي يخفق مجنوناً يسعى إلى حتفه، ولماذا قالت لي: -يعجبني هذا الألق فيك.‏

ولماذا قلت لها حينذاك:‏

-يعجبني هذا الدمار الذي أهديته لي‏

قالت القصيرة بعتاب:‏

-ها أنت تشرد مع أفكارك مرة أخرى!‏

واصلت الطويلة:‏

-كأن نوبات الشرود لم تكفه حين كنا معاً قبل دقائق.‏

قلت:‏

-اسأل الرب أن يغفر لمن أورثني هذا الشرود.‏

وتطلعت إلى المرأة الطويلة التي كانت قد فاضت بهاء غمرني وألقى بي في جحيم لذيذ كانت الأشجار مزهوة بخضرتها المبللة بالندى وكنت أشعر بصوت النهر يرتعش بين أضلعي.‏

كان النهر حبيس السّد ويريد أن يأخذ مداه اقتربنا من شجرتين تقعان وسط ساحة شاسعة ، شعرت بغرابة الشجرتين المستحمتين بالنور والغارقتين في عراك ومرح العصافير، مئات العصافير التي كانت تجوس بطلاقة بين الأغصان وتطلق الأصوات الغضّة المشاكسة التي خرقت قدسية الصَّمت .‏

قالت الطويلة: هذا أغرب مكان في العالم، لم أشهد من قبل أشجاراً تحتضن العصافير في هذا الوقت المتأخر من الليل.‏

أومأت القصيرة وهمست:‏

- اعتدنا أن نرى العصافير يقظة في النهار.‏

- سألت الطويلة:‏

- لكن مابالها تولول بهذا الشكل المفجع؟وجدتني أردد بصوت فيه شحنة يقين يخترقها الأسى: ذلك أنها عصافير جريحة.‏

- سألت المرأة الطويلة ثانية:‏

- ألا تعتقد بأن الشجرتين تشكوان من جرح واحد وأن العصافير تواسيهما بلغتها الخاصة؟‏

قلت:‏

- ربما.‏

كنت ما أزال أحس حركة النهر تضطرم بين أضلعي.‏

كان مد ماء النهر يعلو مقترباً من أعلى نقطة في جدار السد الحجري الخشن.‏

سرنا وئيداً باتجاه البيوت النائمة تحت قدمي الجبل.‏

أمام الباب توقفنا.‏

أدارت القصيرة المفتاح في ثقب الباب فأصدر صوتاً فيه تأوه ورغبة.‏

دلفنا إلى الداخل.‏

بقي الباب مفتوحاً‏

استدارتا نحوي‏

كنت أقف في الخارج وقد احتلني البرد المفاجئ.‏

قلت للقصيرة وشيء من الخجل يضرب صوتي:‏

- بحق السماء اتركينا لبعضنا دقيقة واحدة فقط تقدمت القصيرة مني وهتفت:‏

سأفعل، ولكن دعني أقبل خديك أيها الفتى الجريء‏

أسلمت خدي لشفتيها الحانيتين.‏

اختفت القصيرة داخل البيت وهي تصرخ باحتجاج‏

-كم هو مخجل أن تبقى امرأتان لوحدهما في هذا الليل البارد القاسي.‏

قلت بحزن:‏

-ومخجل أن يظل الرجل وحيداً في هذه الليلة الصعبة.‏

وقفنا في الخارج.‏

المرأة الطويلة أمامي تنتصب شجرة تهتز تحت ثقل ثمرها الشهي.‏

جلسنا على مقعد من الإسمنت العاري.‏

كان القمر يرشق وجه المرأة بالنور فيزيده عذوبة، وكان الصمت يمنحها سمة إلهة متعبة. لم نتكلم.‏

بدأت أيدينا خلق لغتها المشتركة.‏

كنا طليقين كالهواء الذي لم نأبه لبرودته اللاذعة.‏

وبغتة دفعتني المرأة الطويلة وانتبذت جدار البيت وقالت:‏

- لنترك الأمر عند هذا الحد، لا أريد أن أفسد هذه العلاقة.‏

ودون أن تترك لي فرصة القيام برد فعل هرعت إلى داخل البيت.‏

وجاءني صوت المرأة القصيرة:‏

لماذا تركت هذه الحمقاء تهرب؟ ألا تعرف أنها تحاول أن تكون مخلصة لرجل مسن تزوجته في لحظة يأس؟‏

بقيت في الخارج أرقبهما والصمت يلفني.‏

أبصرت المرأة الطويلة تقف تحت المصباح المتدلي من السقف واستطعت أن أتبين قطرات تخضل في عينيها المشبعتين بنداء الماء، ولا أعرف لماذا بدت في وقفتها تلك أصغر من عمرها بعشرين سنة! كما لم أعرف سبب هذا الدفء الذي أخذ يحتل جسدي ويجعل مياه النهر تفور بين أضلعي.‏

بقينا نرقب بعضنا‏

قالت الطويلة:‏

-عصرنا يلغي المسافات البعيدة. سنكتب لبعضنا، أليس كذلك؟‏

لم أجب.‏

عاودت الحديث بصوت غريق:‏

-سلم لنا على العصافير.‏

قالت القصيرة:‏

-أجل، سلم لنا على العصافير.‏

أمسكت مفتاح غرفتي بضراوة.‏

قلت:‏

-لا أقول وداعاً‏

قالت الطويلة الشقراء:‏

-لا أقول وداعاً‏

قلت:‏

-تذهبين وتبقين.‏

وانسحبت والدم يرتطم في صدري.‏

قريباً من الشجرتين المشتعلتين ببكاء ونزق العصافير وقفت.‏

بسطت كفي وباعدت بين ذراعي ثم أطبقت الكفين بقوة واصطفقتا وأخرجتا صوتاً عنيفاً أرهب العصافير وجعلها تمرق من بين الشجرتين وفي لحظة واحدة دوت أصواتها ونشرت الجنون في الساحة.‏

راقبت الشجرتين الوحيدتين وسرت نحو البيت ويدي تشد على المفتاح بقسوة، وكنت أسمع النهر يرتد عن جدار السد هابطاً نحو الأسفل.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:32 PM
رائحة التفاح

-1-‏

رغم أن غزوان الفهد اشتهى أن يلتهم تفاحة ذات لون أحمر رائق يزهو بين الفاكهة الشهية التي ابتاعها من -السوبر ماركت- إلا أنه شهق وهو يمتص تفاصيل وجه المرأة الذي لسعته الشمس وحولته إلى برونز يتقد بنضارة دافقة تلهج بالصراخ السري الصامت.‏

أدرك غزوان الفهد خطورة الغموض المنهمر من عيني المرأة الشبيهتين بشفرتين قاطعتين، وخالجته رعشة خفيفة مكتنزة بالخوف من الموت.‏

وجد نفسه ينوء بحمل حقيبة الفاكهة وينوء بحمل روحه الجائعة المنقادة وراء المرأة التي راحت تبتاع من خانة الخضراوات تشكيلة متنوعة تضيفها إلى كميات كبيرة من الفواكه كانت قد اختارتها من قبل وركنتها في عمق العربة اليدوية المستكينة تحت يديها الطريتين.‏

كان غزوان الفهد يدرك إمكانية وجود نساء لهن جاذبية نادرة أشبه ما تكون بالسحر، وها هو الآن يرى نفسه يتحرك مسلوب الإرادة بفعل مغناطيس يشده قسراً ويلقي به في غياهب الألم والحرقة.‏

الله.. كم كان غزوان الفهد مجنوناً بالنساء الجميلات.‏

إنه يعرف أية حرائق يشعلن في القلب وأية بهجة آسرة يثرن في النفس ويحركن بحر الدماء لتصير خيولاً هائجة يملؤها التوحش.‏

يدرك غزوان هذا، ويعرف أنانيته في معاملة النساء، فهو لا يطيق إقامة علاقة إنسانية مع امرأة قبيحة، لا بل لنقل لا يستطيع إقامتها مع امرأة متوسطة الجمال.‏

باختصار كان غزوان الفهد مولعاً بالفتنة والبهاء، الأنثوي المكتمل. وكان يرى أن وجود نساء دميمات إشارة إلى وجود خطأ جسيم لا يحتمل في نظام الكون. ولذا فهو يدرك أن قبضة هذه المرأة تطبق على روحه بضراوة في محاولة لاستلال آخر رمق من جسده المطحون بالرغبة، يعرف أن لهاث الثيران الغاضب يتفاقم حتى ليكاد يصل إلى حلقه ويجهز عليه.‏

استكان لنداء الدم في عروقه وسار شبه منوم وراء المرأة.‏

أمام باب -السوبر ماركت- اقترب غزوان الفهد من المرأة وهمس:‏

- أستطيع أن أعاونك دونما أي ثمن.‏

رشقته المرأة بنظرة تحمل طعم التفاح وسألت:‏

- هل أنت متأكد بأنك لا تريد أي ثمن؟‏

وضحكت.‏

ضحك غزوان الفهد وامتدت يده لترفع كيساً مكتنزاً بالفواكه والخضراوات فقط، ولم يستطع أن يفهم لماذا كان يشم رائحة التفاح دون بقية الفاكهة؟‏

-2-‏

في مسبح بيكاديللي كان اللقاء الأول.‏

جفل الموج عندما ارتمت مونا فيه.‏

شعر الموج كما لو أن سيفاً يخترقه ببراعة ويوقظ فيه كل جنون الأعماق وشعر غزوان الفهد بشيء يخض القلب منه ويجعل الدماء تضرب جسده بوحشية وقسوة.‏

كانت مونا في السابعة والعشرين عارية إلا من ثوب سباحة أحمر صارخ يشد جسدها الممتلئ البض ويمنح جلدها رائحة ولون التفاح.‏

شقت مونا مياه المسبح وبدت سمكة رشيقة تمرح في زرقة الماء الحميم، وشقت رعشة الجوع في دم غزوان الفهد طريقاً عصبياً.‏

لعل غزوان الفهد، كان مسطولاً وهو يبصر مونا تسبح في كل اتجاه. تطفو مرة تغوص أخرى، لتعوم كالفراشة أو لتخرج فخذها الذي كان يزهو على صفحة الماء، أو لتروح مستلقية على ظهرها ونهداها يرتجان بعذوبة تحمل نداء الغابات الشائكة الأولى التي يعرفها غزوان الفهد ويعاني من لغتها الضارية الجارحة، كان غزوان الفهد يرقب مونا ويفكر بهذا البهاء الذي اندفع في الماء كالحلم. ووجد نفسه يتأمل عريها المؤتلق ويردد مع نفسه:‏

-لا عاصم اليوم يعصمني من هذا الفيضان الكاسح.‏

-3-‏

في شقة مونا التقيا ثانية.‏

احتضن غزوان الفهد جسد مونا الفارع، فانتصب ثديان طفلان مليئان بالنزق. وتوهج في ذاكرته فخذ أبيض يضيء المكان.‏

كان الثدي يتقافز مثل كرة ضالة تبحث عن هدف ولا تجده. وكان الفخذ يشرق شمساً مليئة باحتدام مجنون.‏

تمنى غزوان الفهد لو ينهض ويقترب من مونا، يفتح أزرار قميصها المشجر ويتلقف بشفتيه العطشاوين حلمتي الثديين بالتناوب ويشمهما بنهم ولهفة محمومة ثم يهبط بشفتيه إلى فستانها الأزرق ليرفعه مندفعاً نحو سرتها، زارعاً كل احتراقه هنالك. ونازلاً بعد ذلك قريباً من كائن عجيب في قبضة اليد وسحر الطبيعة، كائن هو طفل وهو شيطان يثير الزوابع في القلب ويفجر في الروح كل بروق السماء ونيران الأرض.‏

ومثل نمرة رشيقة مراوغة تحركت مونا فارتمى قميصها المشجر.‏

ارتمى فستانها الأزرق الخفيف.‏

ووقفت عارية إلا من الرغبة.‏

نشف الدم من وجه وجسد غزوان الفهد.‏

صرخ الدم في وجهه.‏

التمعت شعلتان من نار في عينيه المتقدتين.‏

ارتمى غزوان الفهد في البحر، جعلته مونا يسري في سموات الجسد ممسكاً نيازكه الحارقة ومتشبثاً بنجومه الخافقة بالحليب المتفجر. هبطت به إلى طبقات الأرض السبع فاكتوى بنار البراكين المندفعة في الأعماق، ولم تفلح كل مياه الينابيع الباردة في إطفاء توهج الروح التي ضاقت بالجسد وأرادت أن تغادره هرباً من هذا الجحيم الجامح.‏

-4-‏

في بيت من البيوت الكبيرة اجتمع غزوان الفهد بمونا.‏

كان قرميد البيت يبدو معتماً ويوحي بأنه عتيق. وكان البيت يقع في الريف، وإذا أردنا الدقة أكثر فهو ينتصب في ضاحية تقع في طرف المدينة وتنفتح على أفق واسع من الخضرة حيث الحقول الشاسعة المشتبكة بالريف.‏

داخل البيت أجال غزوان الفهد عينيه اللتين وقعتا على ثريات جليلة تتدلى من السقوف وتنير وجوه وأجساد الكثير من الرجال والنساء الذين أوحوا له من خلال حركاتهم وتصرفاتهم بأنهم نبلاء أو على أقل تقدير أوحى له سلوكهم الذي ينم عن تهذيب أكثر مما ينبغي بأنهم يراعون دبلوماسية مدروسة.‏

اكتشفت عيناه المساحة الكبيرة للصالة التي فرشت بسجاد يدوي يتألق تحت النور الذي غمر المكان.‏

أعطت مونا غزوان الفهد قدحاً من الويسكي، وهمست.‏

-بعد قليل سأعرفك بالشخص الذي يرعى مؤسستنا.‏

أحس غزوان الفهد بشيء من الخوف، ولكنه أحس بأن اللقاء بمونا منفرداً سيحرره من كل المخاوف فيما بعد.‏

أقبل رجل ملتح له عينان تشيان بوداعة ماكرة.‏

قالت مونا: الأب جيمس معلمنا.‏

مد الأب جيمس يده إلى غزوان الفهد الذي لم يعرف لماذا كانت باردة بهذا الشكل!‏

قال الأب جيمس: لابد أن مونا قد حدثتك عن ديننا الجديد.‏

قالت مونا: غزوان يعرف أننا نبشر بالحب والسلام ونسعى إلى كسب الناس إلى ديننا العالمي.‏

أومأ غزوان الفهد برأسه موافقاً.‏

قال الأب جيمس: هذا حسن.‏

ونظر إلى مونا وسأل: هل أخبرته بأهمية أن ينقل لنا بعض الأمور التي تهمنا عن بلده أحياناً؟ حركت رأسها بالإيجاب.‏

وحرك غزوان الفهد رأسه للمرة الثانية.‏

قال الأب جيمس: ستغيب مونا عنك للحظات ثم تعود لتزودك ببطاقة الطائرة ومبلغ بسيط.‏

قالت مونا: سأعود بعد قليل.‏

راقب غزوان الفهد البشر الذين كانوا يتكلمون بأصوات هامسة كما لو كانت لديهم أسرار خاصة وغامضة لا يريدون البوح بها للآخرين، وبدأ يتساءل عن معنى وجود كل هؤلاء البشر الذين أخبرته مونا بأنهم لا يأكلون سوى النبات ويحرمون الحيوان لأنه روح، وأحس برغبة في الضحك.‏

استعاد سؤالاً وجهه إلى مونا مرة: إذا كنتم تحترمون الأحياء إلى هذا الحد، فلماذا تغرقون أجسادكم في اللذة الحسية؟‏

حينذاك قالت مونا: نحن نريد أن نجعل الروح مرتاحة وغير مشغولة بمادية الجسد، نريد أن تشعر بالهدوء داخل هذا القفص الملتهب الذي نسعى إلى إطفائه.‏

وتذكر غزوان الفهد تعلقه بمونا، تذكر أنه قد تحول إلى طفل بين يديها، ولكم أحرقته الخيبة عندما رفضت السفر معه إلى بلده، يذكر غزوان أنها نظرت إليه وهي تسوي شعرها المتناثر على جسدها المبهج وقالت:‏

-لا أستطيع يا غزوان فأنا هنا لكسب الأتباع والدعاة.‏

يعرف غزوان أنها قد أحست بحزنه العميق فقالت:‏

-تستطيع أن تأتي هنا مرة أو مرتين في السنة وسنلتقي.‏

وربما شعرت بأنه لم يقتنع كلياً فواصلت:‏

وسنلتقي عندما أزور بلدك.‏

قالت مونا لغزوان الذي كان يبدو مسطولاً:‏

-عسى ألا أكون قد تأخرت.‏

لم يجب غزوان الفهد فأكملت:‏

هذه بطاقة الطائرة، وهذا غلاف فيه مبلغ قد تحتاجه، وبالمناسبة ستؤمن سفارتنا في بلدكم الاتصال بك وتزودك بما تحتاج.‏

قال غزوان بعد أن رشف من قدح الويسكي.‏

-هل ستذكرين غزوان الفهد يا مونا؟‏

قالت مونا بحياد ولكن بحسم: كيف أنساك يا غزوان؟‏

قال غزوان:‏

-أذكريني حتى بعد موتي؟‏

اعترضت مونا:‏

-أوه، لا تقل هذا فأمامك الكثير من الأشياء لتفعل.‏

قال غزوان:‏

-أعرف ذلك ولكنني أشعر بأن الموت يحوم حولي.‏

قالت مونا:‏

-غزوان سنحميك.‏

سأل:‏

-من يمتلك قدرة دفع الموت عن الإنسان؟‏

قالت مونا:‏

-غزوان لا تكن متشائماً، ودعنا من الموت، لقد صرت واحداً منا.‏

ردد غزوان بصوت دونما نبرات واضحة:‏

-أعرف ذلك.‏

سأل غزوان:‏

-متى نخرج؟‏

سألت مونا: أيكون الجو هنا قد أزعجك إلى هذا الحد؟‏

قال غزوان:‏

-أريد أن أكون في الخارج حيث الهواء الطلق.‏

قالت مونا:‏

-سأذهب وألتمس إذن الخروج.‏

قال غزوان:‏

-افعلي هذا، فموعد السفر في الأسبوع القادم ولابد أن نكون لبعضنا هذه الأيام.‏

ضحكت مونا.‏

عندما أصبحا في الخارج، أحس غزوان الفهد برائحة التفاح تهاجمه.‏

تطلع إلى مونا وتذكرها في مسبح بيكاديللي، تذكر كم كان الموج خائفاً حين رأى مونا لؤلؤة عارية تتألق تحت الشمس التي غمرت الماء. جفلت الأمواج وهي ترمق روحاً جامحة تفيض من جسد كاسح أنهكته ثمار تفور بالشهوة، استمد الماء من جسد مونا المفعم بلهب ينشر الحرائق في كل مكان، جنونه وغادر وقاره صار طفلاً نزقاً تملؤه قوى التدمير وهو يحتضن جسد مونا المندمج بالموج الغامر المميت. كان الجسد حوتا في الماء برقا في سمائه المضطرمة بالهلاك. المرتعشة ذعراً وهي تضم هذا الجسد الفيضان، كان الفيضان يأخذ غزوان الفهد بعيداً وكانت رائحة التفاح تهاجمه بوحشية لم يعهدها من قبل.‏

***‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:33 PM
تلك النجمة التائهة

هل كان يحلم أن يرى امرأة وحشية العينين ذات جسد يهاجم الآخرين ويمتلك القدرة على احتلال مشاعرهم.‏

تمدُّ يداً تنتهي بأصابع دقيقة، ووجها يعلن عن ابتسامة طرية تعرف أنها طاغية ومؤثرة بحيث تفلق الصخر، تقف أمامه مثيرة كل هذا الاضطرام في القلب؟‏

لم يكن قد فكر بأن المرأة التي اتصلت هاتفياً بمقر عمله في شركة الأدوية لتطلب عنوان إحدى قريباتها اللواتي يتدربن لحساب الشركة في مدينة إنكليزية أخرى، تمتلك هذا السحر الذي أشعره بالخوف.‏

أومأ لها أن تجلس ففعلت، وقبل ذلك كان قد حاول أن يقف قريباً منها ليعقد مقارنة جاءته دونما تمهيد، وشعر بشيء من الحزن وبالبهجة حين تبين له أن هذه المرأة الفارعة أطول منه.‏

طلب لها قهوة مرة وأوصى لنفسه بقهوة حلوة.‏

قالت: الآن وقد جئت بنفسي كما ترى، أطمح أن أحصل على عنوان قريبتي التي تكلمنا عنها عبر الهاتف.‏

قال: ستحصلين على العنوان رغم وجود محاذير أمنية تتعلق بأهمية المحافظة على أرواح منتسبي الشركة.‏

قالت: أنا لا أعمل لحساب عصابة مختصة بخطف العلماء.‏

وضحكت.‏

ضحك هو الآخر وهمس وهو يخرج دفتر عناوين من فجر منضدته الصقيلة التي عكست في زاويتها ملامح امرأة يختلج وجهها بغضب مكشوف:‏

-نحن لم نتعارف بعد، ومع هذا فها هو ذا رقم هاتف قريبتك، أتحبين أن أتصل بها أم أترك الأمر لك؟‏

أعطاها الورقة فتناولتها بعد أن حدجته بنظرة فيها شيء من إعجاب وهزيمة مؤقتة، واقتربت من منضدة جانبية تحمل أسطوانة تضم العديد من الأغاني العراقية القديمة، حملتها وقرأت الكتابة التي على الغلاف وقالت:‏

-أموت في الأغاني العراقية القديمة.‏

أخذ الأسطوانة منها ووضعها على منضدته، وحين أخرج قلما ليخط لها إهداء كانت قد أدارت قرص الهاتف فشعر براحة وهو يرقب طريقتها المكتنزة بطفولة مدهشة يخالطها تحرش لذيذ.‏

قالت: لن تحزري من أين أخابرك، كلا. كلا.. حسناً أنا اتكلم من مقر الشركة التي تعملين بحثك لحسابها، ربما أخطف رجلي وأزورك، تريدين قبلة؟ أيتها اللعينة التي لا تكف عن الفوضى سيغضب زوجي حين يسمع بأخباري الغرامية معك، ياه كم هو طيب طعم فمك.‏

مد الأسطوانة إليها فقرأت الإهداء وواصلت الحديث: بالمناسبة يبدو أن شركتكم قد بدأت تستخدم الموهوبين.. أجل إنه هو، أنت الأخرى تقولين بأنه ذكي، أيتها الحمقاء أنني أكلمك وهو على مسافة شبرين مني! وضعت سماعة الهاتف.‏

أشارت إلى الأسطوانة التي ضمتها إلى صدرها بألفة: شكرا.‏

تجاهل هو حركتها وسأل: شكراً من أجل ماذا؟‏

أجابت: من أجل كل شيء.‏

اعترض: لم يحصل أي شيء.‏

شعر أن جملته امتلكت قدرة تيار كهربائي خاطف استطاع أن يتبين تأثيره في ارتعاشة شفتيها العنابيتين، فاستدرك في محاولة لإخراجها من الفخ الذي أعده لها قائلاً:‏

-أقصد لم نتعارف.‏

ابتسمت بشكل أوحى له بأنها تدرك أي كذب واضح في تبريره، ولم يعرف لم أحس أن نظراتها المتوترة قد جعلته يبدو عارياً!‏

قالت ببرود لا ينسجم مع ملامحها الحارة:‏

-أنا الأخرى عراقية، حالياً أدرس القانون الدولي في جامعة أميركية، وعلى هامش ذلك أعمل خبيرة في شركة نفط مقرها واشنطن ولها أكثر من فرع في بلدان أوربا.‏

قال: هذا ممتع، ولكن أنت تبدئين من النهاية.‏

قالت: إذا التقينا ثانية فربما تضع يدك على البدايات، أنت لم تقل لي أي شيء عنك.‏

قال: إذا التقينا فسأريك بعض رسومي.‏

قالت: أنا لا أحب الرسم.‏

قال: لعلك تحبين بعض تلك الرسوم.‏

واستل ورقة أعطاها لها فرسمت فيها عدة حروف حملت عنوانها في الفندق الذي تسكن بلندن.‏

تطلع في الورقة وقال: لم تحدِّدي رقم الغرفة التي تنزلين!‏

ضحكت قائلة: لا أعتقد أن رقمها سيصعب عليك.‏

صافحته بشاعرية، وبقي يرقب قامتها الرشيقة التي اندست في بنطلون أبيض لم يستطع أن يخفي امتلاء جسد يضج ببروزات وانكسارات تهبط على روح المرء فتجعلها مصعوقة ملقاة في عالم تغمره الحرائق.‏

كان الضباب يدهم لافتة فندق-الهوليدي إن- التي تحمل دعوة لرؤية فرقة مكسيكية تلتمع أجساد أعضائها تحت وهج اللون الباهر المنبعث من الداخل.‏

غادر المصعد الذي توقف في الطابق العاشر وسار باتجاه الغرفة التي تسكن فيها سمية الشعلان في الغرفة المزدحمة بالصحف والنشريات الخاصة بذوي الأعمال التجارية، كان يجلس، وكانت سمية الشعلان قد وضعت على مائدة جانبية مجموعة من القناني الملونة وحقنة دقيقة، وبعد أن قدمت له عصير تفاح اتجهت إلى الحقنة وأفرغتها من الهواء ثم غرزتها في قنينة ذات لون بنفجسي، تحسست عرقاً نافراً في ساعدها وضغطت بهدوء عجيب.‏

صار وجهه أسئلة حائرة في سماء الغرفة.‏

نظرت إليه وقالت: أنا مصابة بلوكيميا الدم.‏

سأل وشيء من شرود يسكن صوته: منذ متى؟‏

أجابت بلا مبالاة: منذ أكثر من سنة.‏

أراد أن يسأل أسئلة أخرى، أو أن يطمئنها، ولكنه كف عن ذلك إذ أدرك أن لا عزاء يمكن أن يقال بهذا الشأن وأن من الحمق الإلحاح في تهييج جرح مرعب أصاب امرأة لم تصل الأربعين، امرأة ينبع منها سحر بهي ويتعالى فضاء واسع من الرغبات ونداء الغابات الأولى.‏

فاجأته وضحكة تنم عن حزن ثقيل في صوتها: الليلة سأحتفل، هل تحتفل معي؟.‏

قال: جئت لنخرج فأنت ضيفتي الليلة.‏

قالت: أنا التي سأدعوك، فاليوم قد فشلت في عقد صفقة تجارية، والمناسبة تستحق الاحتفال، أولاد الكلب لقد انتزعوا اللقمة من الفم بعد أن كدت ازدردها، ولكن لا بأس فثمة جولات أخرى تنتظر في المستقبل.‏

قال: إذا كنت تصرين فسأكون ضيفك.‏

أومأت برأسها راسمة علامة إصرار لا يلين.‏

وجد نفسه يقول: لقد جلبت بعض رسوماتي.‏

قالت: لنؤجل رؤيتها فسيكون الليل لنا.‏

أمام باب الفندق وقفا ينتظران سيارة، ويرقبان ضباب لندن يمرح بين الأشجار المحملة بنديف ثلج الأمس والتي تقف مستكينة في حديقة -سلوين- كان الثلج يغطي تمثال الراقصة والصياد ولكنه لا ينجح في لجم اندفاعة جسديهما الرشيقين الضاجين بامتلاء شهي، فالجسدان الشبيهان بأجساد آلهة اليونان القديمة يندفعان نحو الأعلى ويفيضان بضوء وزهو الجنوح نحو عالم غير أرضي يشدهما. كان الضباب قد حول فقط ذلك اللون الأسود الداكن للتمثالين إلى لون يشبه الرماد.‏

قال: تعجبني اندفاعة جسديهما نحو الأعلى.‏

قالت بقناعة: لكنهما لن يجدا شيئاً هنالك. ويبدو أن من الأفضل لهما أن ينتسبا إلى الأرض.‏

سأل: هل تقصدين أنهما يحاولان محاولة مستحيلة؟ أجابت وهي تشعل سيجارة: ليست مستحيلة كلياً، قد يصلان إلى شيء ولكن لفترة محدودة وعليهما أن يهبطا إلى عالمهما الأرضي، عالم المادة بكل قسوته الواقعية الخشنة.‏

لاذ بصمت توقع أن يجعله يحل بعض مغاليق كلام سمية الشعلان.‏

عندما اقتربا من ملهى فرنسي تتردد عليه نساء طاعنات في السن من الطبقة الأرستقراطية الإنكليزية بغية الخروج بشاب فتي جائع وعاطل يمكن أن يكون كرة نار في فراشهن البارد الذي أضناه الجليد منذ زمن، شاب يرضى أن يقدم فحولته الجنسية لقاء طعام وسكن مريح وبدلات فاخرة، غصّ في ضحكة طويلة عالية.‏

نظرت إليه وقالت: لست امرأة طاعنة في السن.‏

وضحكت هي الأخرى ضحكة مراوغة عالية.‏

اتخذ زاوية هادئة تغرق في لون أزرق فاتح على شكل موجات رفيعة تنعكس على المائدة المطلية بلون فضي، كان الضوء يتكوم تارة على صفحة المائدة ويسيل على الجدران الفضية فتلتمع مثل عيون مشعة لكائنات غريبة بدائية في قلب عتمة أليفة، أو يروح تارة أخرى ساقطاً على وجهيهما الضائعين في زاوية بهيجة.‏

تحدثت مع النادل بلغة فرنسية تحولت حروفها إلى غناء أسيان في شفتيها الناضجتين، وبعد لحظات اكتظت المائدة بمقبلات بحرية لها ملامح مخلوقات غامضة ذات عيون براقة، مخلوقات تشبه الخيوط أو لا شكل لها على الإطلاق، مخلوقات لها لون وطعم ورائحة كما يقول الصينيون عن الطعام الجيد، وفي زاوية من المنضدة وضعت شرائح كبد خروف رقيقة ونيئة ممزوجة بالكمون والكاري. قالت سمية الشعلان: أعرف هذا المكان منذ سنوات، أتيت إليه برفقة زوجي أكثر من مرة.‏

جيء بقنينة فودكا.‏

علق: إذن فأنت تعيدين ذكرى زوجك في هذا المكان!‏

قالت: احتفل الليلة بفشلي.‏

سكب في قدحها شيئاً من الفودكا فقالت: أنا منفصلة عن زوجي أعيش في واشنطن مع طفلين وطفلة هم ثمرة ذلك الزواج غير المقدس.‏

صبت قدح الفودكا في جوفها دفعة واحدة فسكب لها قدحاً آخر.‏

قالت سمية الشعلان: اسمع، لك عقلية منظمة تؤهلك أن تكون مدير أعمال، رجل علاقات من الطراز الأول، ويمكن أن تصبح ثرياً.. أستطيع أن أدبر لك عملاً في الشركة التي أعمل فيها، ماذا تقول؟‏

قال: أنا سعيد بعملي الحالي.‏

رشفت رشفة بطريقة حسية مغرية وقالت:‏

-أخشى أن تستيقظ ذات يوم فتجد الأشياء قد تسربت من بين يديك كالرمل.‏

قال: هنالك كائنات مثل طيور الكراكي تطير في سماوات مختلفة ولكن طين أرضها الأولى يظل عالقاً بها أينما حلت.‏

امتص بتلذذ الفودكا وتمنى لو كانت لاذعة أكثر مما هي عليه.‏

قدمت له سيجارة ووضعت أخرى في فمها فسارع إلى إشعالها بولاعة تحمل على جوانبها صورة جسر لندن القديم.‏

راقبا امرأة طاعنة في السن، ترصد شاباً قد كشف عن صدر عريض، واستطاعا أن يلحظا أنها قد لفتت انتباهه، كانت المرأة المسنة تضحك بغنج متأخر ومع هذا فقد تمكنت من دعوة الشاب إلى مائدتها وحين بدأت الموسيقى الهادئة تفيض في المكان، كانا في المرقص يحاولان أن يتحدا في شخص واحد.‏

ضحكا سوية.‏

داعبت موسيقى ناعمة أذنيه فسألها:‏

-هل نرقص؟‏

قالت: ولم لا؟‏

في المرقص احتضنها بضراوة، لم تكن امرأة بقدر ما كانت لظى، صار وجهها غريقاً يستغيث وينظر بلهفة متشوقاً إلى إنقاذ عاجل. كان يسمع دمها يضرب صدره عنيفاً هادراً. حدثته بهمس حزين عن فتاة صغيرة دون سن البلوغ زوجها أهلها عنوة من رجل كبير السن لم تستطع أن تتحمل عجزه، رجل أمضت معه سنوات قصيرة ليصبح عديم الفائدة مثل خرقة بالية، أخبرته عن أحزان تلك الفتاة التي تكور ثدياها وضج جسدها بنداءات محرقة تحت سقف بيت كئيب لا وجود للرجل فيه، سنوات مضنية شائكة طويلة، وحين مات الرجل الأول، عقد أهلها صفقة أخرى: مع أمير يسبح في بحر من المال، حينذاك كانت الفتاة الصغيرة قد قررت أن تعد نفسها للنوائب فالأمير أغرقها في ثراء فاحش، ولكنه كان يعيش شهراً معها وشهوراً يدير أعماله في لندن والعواصم الأوروبية، أخبرته أنها كانت تعرف أن الأمير كان يستأجر أجنحة في الهيلتون والشيراتون لا ليدير أعماله فحسب، بل ليمارس شتى أشكال الزنا والشذوذ الجنسي.. لكن تلك الفتاة كانت شاطرة فواصلت دراستها وبدأت في أميركا تخرج مع رجال أمام مرأى خدم الأمير، قالت له أن تلك كانت طريقة ماهرة كي يطلقها، ولم يكن الأمر عسيراً فجواريه كثيرات، أخبرته أنها في ذلك الوقت لم تكن قد عرفت الخيانة الزوجية، ولكنها كانت طريقة للتخلص من قيد النار الذي أحرق أجمل سني عمرها.‏

كانت تبدو حمامة مقطوعة العنق وهي تنزف حكايتها، في واشنطن تعرفت بزوجها الأخير، في البداية كان لطيفاً عذباً كبقية الرجال الآخرين عندما يلتقون امرأة لفترة قصيرة ثم يملونها فيما بعد، النتيجة أن الزواج أثمر ثلاثة أطفال، وانفصالاً اتفق عليه بين الاثنين، وكان لابد أن يحصل هذا حين يتحول الرجل من نسيم لطيف إلى ثور أناني مهتاج لا يجد لذته إلا في أحضان نساء أخريات، قالت له أن فصيلة الرجال قذرة وأنهم أنذال:‏

جفل حين سمع ذلك فقالت:‏

-كن ديمقراطياً وتقبل الحقيقة.‏

هز رأسه موافقاً فأكملت:‏

-سنكون لبعضنا لليلة واحدة فقط.‏

سأل: ليلة واحدة؟‏

أجابت: ليلة واحدة.‏

دفعت قائمة الحساب وإذا اعترض على ذلك لم تلق إليه بالاً وقالت:‏

-احتفل الليلة بفشلي.‏

في الخارج، كانت السماء كامدة ولها لون رماد والشوارع التي أغرقها مطر الساعات السابقة قد ناءت تحت هيمنة صمت ثقيل.‏

كانا يسيران قرب -كرين بارك- حين طلبت سمية الشعلان أن يغني لها أغنية عراقية.‏

قال بلا تردد: صوتي قبيح وأشتهي أن أسمع ذلك منك.‏

بدأت سمية الشعلان تغنّي عن طيور مهاجرة تتجه ناحية الأهل والأحبة. كانت سمية الشعلان تستحلف الطيور أن تنقل شوقها للناس الذين عرفتهم. انبثق صوتها جريحاً متعباً من أعماق بئر عميقة مهجورة، لم يكن غناء بقدر ما كان بكاء خشناً معذباً.‏

قال: أنت نجمة تائهة يا سمية.‏

نظرت إليه وقالت: أحس رغبة مجنونة في البكاء.‏

قال: لنبك معاً هذه الليلة.‏

أعطت سمية الشعلان بطاقتها لعامل استعلامات الفندق وأعطى هو بطاقته أخرجت نقوداً أعطتها للعامل فشعر بامتعاض وقال:‏

-دعيني أدفع.‏

قالت بإعياء: بل دعني أفعل ذلك حتى لا أشعر أني مومس.‏

قال: كنا نستطيع أن نذهب إلى شقتي أو إلى الفندق الذي تنزلين فيه..‏

قالت: اتركني أفعل الأشياء كما أحب.‏

قال: سلمت أمري إلى الله.‏

حين انزلق الثوب الرمادي عن جسد سمية الشعلان، شعر بأنه قد تحول إلى برق يوشك أن ينفجر ويشق روح الأنثى في أعماقها، حين أضيئت الغرفة بنور جسد امرأة حزينة، صار الصدر على الصدر، اليد في اليد، والتفت الساق على الساق فارتطم الدم بالدم وأوشكت القيامة أن تقوم.‏

حصرته سمية الشعلان في زاوية ضيقة من السرير، هبطت عليه من الأعلى خيمة تشتعل بمطر بدائي، خيمة لفت بقائمتيها ظهره. صار قدماها يطوقان جسده وينتهيان بالارتطام بالجدار الذي استلم حطام جسد رجل يشتعل، كانت خيمة تساقط لهباً وشهباً ونيازك غاضبة محرقة، وكان الرجل قد تحول الآن إلى غريق يستغيث من هذا الفيضان الكاسح.‏

كانت القيامة قد قامت.‏

صباحاً استيقظ فوجد الغرفة خالية، كانت سمية الشعلان قد غادرت الفندق تاركة رسالة صغيرة تقول فيها أنها قد أمضت معه ليلة تاريخية وأن ذلك لن يتكرر أبداً، حملت كلماتها أيضاً اعتذاراً لأنها لم تجد الفرصة لترى رسوماته.‏

رمى الورقة من يده وشعر بغصة مرة وهو يفكر بقيامة رجل آخر مع امرأة مصابة بلوكيميا الدم، وتمنى أن يكون ذلك الرجل ولكنه كان يدرك كلياً أنه لن يجد مرة أخرى تلك النجمة التائهة التي تدعى سمية الشعلان، وكان موقناً أنها كانت على حق حين أخبرته بأن الراقصة والصياد يهبطان إلى الأرض.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:36 PM
السمفونية الناقصة

قلت لنفسي ـ وأنا أرقب الفتاة الواقفة بجانبي تتأمل تمثالاً لرودان، وضع تحته اسم يد الله: يالهذه الفتاة التي يتصدع الحجر من جمالها المتوحش. ولأني كنت أشم رائحة الأنثى من وراء كل بحار الدنيا، فقد ارتجفت لهفة وقلت:‏

ـ إن يد الله تسعى لوضعك في نعيم جديد أيها الأحمق المولع بالنساء.‏

كان التمثال قبضة ضخمة كأنها المطلق وهي تطبق على جسد إنسان ضئيل يحاول أن يجد خلاصاً من هذه القوة الرهيبة المندفعة نحوه، وكنت أحاول أن أجعل الفتاة منتبهة لوجودي فقلت بصوت تعمدت أن يكون مسموعاً:‏

ـ يالهذا العمل المروع.‏

نظرت إلي فواصلت: يبدو أن لا خلاص من مصير الإنسان المفجع.‏

قالت الفتاة دونما حذر ووجهها يختلج بارتعاشات خفيفة: أفزعني هذا الإنسان أنا الأخرى.‏

وجدتني أقف أمام باب مهيأ كي يفتح فسألت: هل تعرفين رودان جيداً؟‏

ضحكت وقالت: تقصد أعماله؟ رأيت بعض تماثيله الجميلة.‏

قلت بيقين: نحن نخاف الانسحاق ولكننا نستطيع أن نحيا في ظل رحمة نسيان مصيرنا المجهول.‏

قالت بيأس: أجل نحن منسحقون.‏

أردت أن أنتقل نحو جسر آخر يمتد إليها فقلت: هل شاهدت تمثال القبلة؟‏

أجابت: ليس في الواقع ولكن في دليل ضم بعض أعمال رودان.‏

قلت: لو أتيح لك أن تقفي أمام التمثال. فستحسين بامتلاء نفسي وأنت ترقبين حالة التداخل الحميم بين جسدين وروحين، ربما كنت ستحسين بانتفاء الثنائية بين الرجل والمرأة بفعل طاقة الحب، وربما غرقت في سعادة بهيجة.‏

قلت: ربما.. والآن وداعاً..‏

قلت معترضاً: لا وداع بيننا.‏

قالت: نحن لا نعرف بعضنا.‏

قلت: الآن نتعارف إن لم نكن قد تعارفنا.. أنا بدوي جاء من بلاد العرب.‏

ضحكت وقالت: لو كنت هكذا لما اعترفت.. أنا تسليم جئت من باكستان.‏

سألت: زيارة أم دراسة؟‏

قالت: هاجرنا من الوطن، ونحن نعيش هنا، معي أبي وأمي..‏

قلت: وأنا أعد رسالة دكتوراة في أكسفورد عن إحدى حركات التحرر في إفريقيا.‏

قالت: موضوع مثير..‏

سألت: هل نأخذ كوباً من الشاي؟‏

أومأت برأسها وسألت: أنت عربي أليس كذلك.؟‏

كررت: أنا عراقي.‏

وخرجنا من المتحف.‏

بعد أن شربنا في محل يرقد تحت قدمي ساحة الطرف الأغر سألتها:‏

ـ كيف عرفت أني عربي..‏

قالت باقتضاب: هذا أمر يخصني.‏

اعترضت: أنت حادة يا تسليم، وافترض أننا أصدقاء.‏

قالت: ليس بعد.‏

لم أشأ أن أفقد الفرصة، فقلت: سنكون أصدقاء في زمن قصير.‏

قالت: ربما.‏

بعد أن سألتها أن تعطيني رقم هاتفها ضحكت وقالت:‏

ـ والدي رجل متدين وشرقي سيذبحني إذا عرف أنني أجالس الرجال.‏

قلت: هذا رقم هاتفي إذن.‏

ضحكت وقالت: إذا أردت أن أراك ثانية، بالمناسبة هل تعرف أنك قبيح؟‏

قلت باستسلام:أعرف.‏

واصلت بعدوانية: قبيح جداً...‏

سألت: هل ننهض؟‏

أجابت: انهض وحدك.‏

قلت: لن أقول وداعاً..‏

قالت: أنت عنيد، كان الرجل الذي أحبه عنيداً.‏

شعرت براحة جزئية وأنا أسمع ذلك، وبعد أن تطلعت كطفل مسحور إلى عينيها السوداوين الغافيتين في عسل وجه مستدير تزينه غمازتان قاتلتان، غادرت المكان.‏

في اليوم الثاني التقينا..‏

سألت تسليم: هل صليت للرب مراراً قبل أن أخابرك؟‏

اعترفت: لم أستطع أن أرقد إلا بجانب الهاتف، وحين اتصلت بي اشتعلت فرحاً..‏

قالت: أنا عذراء.‏

احتفظت بالصمت.‏

سألت: أين نذهب؟‏

قلت: ثمة مكان قرب نهر التيمز يدعونه قاعة الاحتفالات الملكية، أعتقد أنه يلائم العشاق.‏

قالت: أعتقد ذلك، ولكن تذكر أننا لسنا عشاقاً.‏

أية بنت هذه؟ ولم تعترض بهذا الذكاء الحاد وبلهجة قاطعة على أقوالي؟..‏

وماكنت لأعتقد أن فتاة لا تتجاوز العشرين قادرة على إقفال كل الأبواب في وجهي وبهذه الطريقة التي تورثني مرارة بغيضة وتلفني بخجل مكتوم ينتفض في أعماقي مثل عصفور مصاب بجرح قاتل.‏

كانت تسليم قد طلبت قهوة أعقبتها بحساء، فقط بينما كنت أحتسي نبيذاً أندلسياً له لون دم رائق.‏

سألت: كيف عرفت أنني عربي...‏

أجابت وهي تضع أصابعها على جبهتها في محاولة لإيهامي بأنها تبذل جهداً للتذكر:‏

ـ أنت جريء وعنيد..‏

غرقت تسليم في صمت عميق وهي تتطلع إلى نهر التيمز الذي اكتسى بلون نفطي داكن تكتنفه بقع ولطخات متنافرة الألوان، ونقلت نظرها إلى السفن المنطلقة بالسياح من الجانب الآخر المجاور للبرلمان البريطاني، بينما أدركت أنني قد أحرجتها بسؤالي فرحت أرصد الكنائس والكاتدرئيات القديمة المواجهة لنا وأحاول أن أتوصل إلى أكثرها قدماً، ومع أنني أخفقت في ذلك، إلا أنني وجدت تعويضاً في صوت تسليم الذي جاءني حزيناً له طعم شفرة قاسية:‏

ـ كان لي حبيب عراقي مولع بفلسطين التي لم أكن أعرف عنها سوى الاسم، والآن أعرف حتى حجارتها المقدسة، كنا نخرج في التظاهرات معاً.. لقد ذهب إلى لبنان وقاتل في صفوف الفلسطينيين ثم حدث نفي الفلسطينيين ورميهم في البحر، لقد رحل عادل، أخذ حياتي معه ورحل.‏

بكت تسليم بدموية فأعطيتها أكثر من منديل ورقي وحاولت أن أجفف دموعها فأبعدت يدي:‏

ـ لقد أخذ حياتي معه ورحل.‏

قلت في محاولة لاستلال بعض حزنها: إن الإنسان لن يعيش طويلاً إذ سيلف يوماً ذيله ويشهق ثم يتلقفه القبر، ومن العبث أن نفني ذواتنا في الحزن!‏

قالت: لست في حاجة إلى مواعظ..‏

وانخرطت في بكائها الشرس من جديد..‏

وماكان في قدرتي أن أجعلها تقلع عن البكاء وماكان في قدرتي أن أتحمل هذا البكاء الصادر عن مخلوق هو الصفاء فاقترحت:‏

ـ لنغادر المكان.‏

تطلعت إليَّ بدهشة فأكملتُ: أنت في حاجة إلى راحة.. وغادرنا المكان.‏

في اليوم الثالث: التقينا في حديقة عامة.‏

قالت تسليم: لا تمني النفس بأن نصير عاشقين.‏

سألت بدهشة: هل طلبت ذلك؟‏

أجابت: أنا فتاة جميلة. وأعرف مايريد الرجل من فتاة جميلة.‏

قلت: لا يخجلني القول بأني معجب.‏

قالت تسليم وعيناها تفصحان عن معنى كلماتها: لن يحدث هذا أبداً فأنا أنتظر عودة عادل..‏

قلت بدهشة: ولكنك أخبرتني بأنه قد رحل.‏

قالت تسليم: أحس أنه حي حتى الآن..‏

قلت متسائلاً: أين هو الآن؟‏

قالت تسليم: بعد أن حوصر الفلسطينيون بقي لأكثر من شهر وكأن روحه غير روحه السابقة. ثم قال لي ذات يوم، سأذهب إليهم، حاولت جاهدة أن أثنيه عن عزمه، ولكنكم تمتلكون عناداً لا يطاق...‏

وبدأت تبكي...‏

سألت: هل وصلك منه أي شيء؟‏

قالت: رسالة واحدة ثم انقطعت الرسائل. لا أعرف إن كان حياً، أو ميتاً، لا أعرف أي شيء، لكنني موقنة أنه سيعود ذات يوم.‏

قلت لتسليم التي لم تأبه للآخرين الذين كانوا يرقبون بكاءها العميق:‏

ـ أتمنى أن يعود ذات يوم.‏

قالت تسليم وصوتها المختنق يضج بالحزن. بعد ذهاب عادل، صرت أذهب كل عطلة نهاية أسبوع إلى الهايدبارك، وإذا حدث وأن رأيت علم العراق واللافتات، أنتظم مع العراقيين وأخرج في تظاهراتهم.‏

قلت لتسليم: إذن سنلتقي هنالك ذات يوم.‏

قالت: لا تغضب:‏

قلت: لن أغضب..‏

قالت: أنت غاضب.‏

قلت: قليلاً..‏

قالت: تذكر إنسان رودان المنسحق تحت يد عاتية.‏

قلت: سأتذكر..‏

ونهضت، تطلعت إلى الوجه العسلي المحلى بعينين سوداوين غمرتهما الدموع، أردت أن أقول شيئاً إلا أن الكلمات استعصت علي، غادرت المكان وأنا أشعر بانقباض مبهم.. يجثم على صدري، بينما كانت تسليم تنتظر الرجل الذي تحب، وكانت السماء رمادية.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:37 PM
مارغريت

كنت أقف في الحانة قريباً من عامل البار وأعصابي مشدودة وأنا أرقبها تتحدث مع الفتى المغربي الذي ذهبت معه في الليلة الماضية. هل كانت الغيرة هي التي تحكمني أم أن إخفاقي هو الذي أورثني الشعور بالخجل من نفسي وأجج الرغبة الشرسة بأن أمتلك هذه الأنثى السمراء ذات الوجه الشبيه بقهوة محترقة والتي احتلت جاذبيتها قلبي الضعيف أمام فتنة النساء؟ هل كنت أشعر بندم هزيمة رجل أمام سطوة أنوثة طاغية أم أن روحي المتوهجة التي ترفض أن تنكسر منذ الجولة الأولى كانت وراء تصرفي وكانت تهتف بي: كن رجلاً ولا تدع اليأس يأسرك. أقسم أن هذه الأنثى لم تكن واحدة كسائر بنات جنسها. والمفجع في الأمر أنها كانت تدرك أي سحر مدمر تمتلك. وكانت شأنها شأن بقية النساء الفاتنات اللواتي يصبحن حلماً مستحيلاً في أغلب الأوقات.‏

فهاهي ذي الآن ترمقني من الجهة المقابلة وتوحي إليّ بأن الطريق إليها عصية، وهاهي ذي نزواتي الشيطانية تدفع بي إلى مواصلة هذا العذاب الكاسح.‏

قالت لي أن اسمها مارغريت: وأنها قد جاءت من زيمبابوي إلى لندن بعد أن طلقها زوجها الإنكليزي. وبعد أن احتسينا أكثر من قدح مارتيني تدفقت بين يدي كالماء..‏

سألتها: أنت وحيدة هنا إذن!..‏

قالت: لستُ وحيدة كلياً ، لكنني وحيدة أحياناً..‏

أشعلت لها سيجارة وتطلعت إلى عينيها اللتين فاضتا بنار لطيفة بدأت أهتز وأنا أصغي إلى أغنية لبوب مارلي. كانت الأغنية تشي بنبرة حزن عميق لرجل فاجأه الحب وتركته المرأة التي يهوى فصار عزاؤه الابتعاد عن دائرة لهب الحب وأصبح مبشراً بفكرة أن من الأجدى للمرء ألا يحب كي لا يبكي.‏

قلت لمارغريت: أحب هذه الأغنية..‏

أجابت: نحن نحب بعض الأغنيات لأنها تذكرنا بأشياء شخصية. هل هجرتك المرأة التي تحب؟‏

حاولت أن أمسك شعرها الزنجي الطويل والمجدول في خصل تزين نهاياتها خرزات زرقاء غامضة إلا أنها ابتعدت إلى الوراء قليلاً وعاودت السؤال:‏

ـ هل هجرتك المرأة التي تحب؟‏

قلت: لم أجد المرأة التي أحب بعد. لكنني أعتقد أنني سأجدها هذا المساء.‏

ضحكت فاهتز صدرها المكتظ بحمل ثقيل وقالت:‏

ـ يعجبني الرجل الثعلب.‏

أردت أن أبدو كما لو كنت غير مدرك لما أرادت أن تفخر به، فقلت:‏

ـ لابد أنك تحبين الحيوانات الأليفة.‏

ضحكت ثانية وطلبت مني أن أبتاع لها علبة سجاير ففعلت.‏

بدأ جسد مارغريت يميل مثل غصن مثقل بثمار ناضجة، وكانت الموسيقى قد بدأت تتصاعد فجذبت ساحة المرقص الفتيات وأصدقاءهن. صارت الساحة كتلة من الأضواء البهيجة والوجوه الجميلة المتعطشة للحب فعرضت على مارغريت الرقص إلا أنها قالت:‏

ـ أفضل أن أراقب، ألا تجد لذة وأنت ترقب الآخرين؟‏

لذت بصمت وأنا أشعر بعواء داخل جسدي، عواء حار وملتاع.‏

بقيت أرقب المرقص وأدخن بضراوة، وانفصلت للحظات عن النظر إلى مارغريت، وحين هدأت الموسيقى وصارت عذبة أسيانة مثل موجات بحر متعبة، رمقت وجه مارغريت فرأيت شجناً يفطر القلب في عينيها.‏

رأيت حزناً وحشياً معذباً يغمره بلا رحمة.‏

قلت: مارغريت أي حزن كافر في عينيك؟‏

قالت بآلية: أنا هكذا أكثر الأوقات.‏

وإذ رأت صمتي ودهشتي واصلت:‏

ـ أنا متعبة، أية حياة تعيسة أعيش.‏

قرأت في ملامحي الرغبة في تفسير ما تعني فقالت:‏

ـ إنني أرى الموت أمامي في كل يوم، تصور أراه أمامي يدخل حجرات المرضى خلسة ويقطع تلك الخيوط الدقيقة التي تربط بين البشر.‏

لا أعرف إن كنت قد أردت أن أظهر أمامها بمظهر الأذكياء، أم أن لساني قد زل حين رددت:‏

ـ أنت ممرضة إذن!‏

وبنفس الفجيعة في صوتها الطري قالت:‏

ـ ممرضة تعمل في مستشفى لمشوهي الحرب، احزر إذن كم مصيبة أعاين في اليوم.‏

قلت لها: لم لا نغير هذا المكان؟ أعرف أماكن أشد جاذبية وروعة في لندن، ونستطيع هنالك أن‏

ننسى أحزاننا.‏

قالت بيأس: محال، فالإنسان يحمل أحزانه أينما ذهب.‏

وركنت إلى صمت مؤقت سرعان ماقطعته قائلة:‏

ـ ترى ألا يمكن أن يعيش الإنسان من عمل يناسبه؟ لشد ما أتمنى أن أغير عملي.‏

رغم أنني تعاطفت مع ضعفها البشري إلا أنني كنت أئن داخلياً وذلك الصخب يمور في عروقي ويجعلني أشبه بمريض لن يجد شفاءه إلا بين ذراعي هذه المرأة الرشيقة مثل رمح والمكتنزة في أشد أماكن الأنثى جاذبية. وانتشلني من أفكاري ذلك البلاء النازل من السماء والمتمثل في فتى مغربي وسيم حد الخطيئة، فتى أكثر فتوة مني... تقدم الفتى المغربي من مارغريت وصافحها ثم احتضنها ومرغ شفتيه بشبق في عنقها وخديها وشفتيها ثم طوق خصرها بينما كنت أستغيث غريقاً تحطم زورقه في لجة بحر هائج. قدمته لي مارغريت، تعارفنا بسرعة، طلبت لنا شراباً والغيرة سيوف صدئة تحاول أن تجد لها منفذاً في قلبي.‏

ظل المغربي يوشوش في أذنها ويقرصها بين فترة وأخرى إلى أن أفلح بأن جعل ضحكتها مليئة بالحياة، وأفلح في عزلي بحيث شعرت كما لو أنني وحيد في جزيرة مهجورة كئيبة.‏

فجأة قالت مارغريت: وداعاً..‏

سألت: إلى أين؟‏

أجابت ببساطة دمرت قلبي: سأذهب مع صديقي.‏

سألت ثانية: كيف نلتقي مرة أخرى؟‏

قالت: أكون هنا كل مساء.‏

واحتضنها المغربي وخرجا.. أما أنا فلم أستطع النوم تلك الليلة، والآن هاهو ذا المغربي يقف جوارها في الطرف المقابل من البار، يغازلها ويحاول أن يضحكها إلا أن محاولاته لم تكن مجدية فقد ظل وجهها ضاجاً بحزن كثيف وبدا كما لو أن مأتماً ينهض في عينيها النديتين..‏

عندما دخل المغربي المرقص ليرقص وحده شعرت براحة فتقدمت من مارغريت صافحتها وتعمدت أن أشعرها باهتمامي:‏

فقلت:‏

ـ مارغريت، تبدين أكثر حزناً هذا المساء.‏

نظرت إلي وشدت على يدي التي أبقتها في يدها وقالت:‏

ـ خذني معك.‏



لم أصدق ما أسمع وبحركة سريعة كنت وإياها في الخارج.‏

في الطريق قالت مارغريت:‏

ـ عرفت هذا اليوم أن أختي تموت بالسرطان في إحدى مستشفيات زيمبابوي.‏

قلت: وأنا ألف خصرها الضامر..‏

ـ مامن تعزية يمكن أن تنقذ إنساناً من الموت.‏

قربت وجهها الشهي مني وقالت:‏

ـ لا أريد أن أكون أنانية معك أكثر مما كنت في الليلة الماضية.‏

طافت في روحي أكثر من أغنية وأنا ألتقط صوتها يهمس:‏

ـ سأكون لك هذه الليلة، يبدو لي أنك رجل لديه من الحزن مايكفي..‏

في الغرفة التي ضمتنا، كانت مارغريت فرساً جموحاً طارت بي في غابات إفريقيا وجعلتني كائناً بدائياً أترعت روحه رائحة الابنوس وطعم الفلفل، كنت ضائعاً في أعماق نهر مليء بالغرابة. نهر ولا كالأنهار قادتني إليه فرس مترعة باللهفة، نهر كنت أغرق في أعماقه غرقاً لذيذاً وأحس في فمي نكهة التين. قبل أن نغادر الغرفة قالت مارغريت:‏

ـ أعتقد أننا سنكون صديقين حميمين..‏

قلت بقناعة: لقدأصبحنا صديقين يا مارغريت..‏

قالت وشغف الأنثى المرتاحة يلون صوتها الطري: أعتقد ذلك.‏

في الطريق كنت ألف خصرها بذراعي ونسير، في طريق ملعون اسمه ايرلزكورت قابلتنا فتاة ترتدي ثوباً يكشف عن فخذين تجعلان الروح تطير. فتاة ممتلئة تشع نضارة لحمها الأبيض فتخترق الدم وتحيله إلى شعلة نار.. ودون وعي وجدتني أتوقف، تصلبت دهشة واستدرت لأتابع الفتاة التي صارت وراءنا، ثم رددت كالمسطول وأنا أصفر:‏

ـ يا إلهي أية أنثى هذه!‏

دفعتني مارغريت في صدري بضراوة وابتعدت، وإذ خرجت من رعب الصدمة لحقتها فحثت خطاها وقالت:‏

ـ أنت مريض ولا تبحث عن الحب.‏

قلت بضراعة: مارغريت لم يكن سوى مزحة.‏

قالت وهي تبتعد: أنت أشد أنانية من المغربي.‏

حاولت أن أبرر لها غير أنها قالت بصرامة:‏

ـ ابتعد وإلا سأصرخ وأنادي الشرطة.‏

توقفت، وكان آخر ماوصلني منها:‏

ـ أنت لست ثعلباً فحسب، بل ذئب وسخ.‏

بقيت أرقبها وهي تبتعد، ومع أن الجو كان مضيئاً إلا أنني شعرت بأن الضباب يجثم على المكان، ورأيتها تندس في الضباب وتختفي..‏

في الليلة التي أعقبت هذا، وفي ليال أخرى، ذهبت إلى نفس الحانة، لكن مارغريت لم تعد إليها أبداً.‏

والغريب أنني مازلت أحس أناملها تعبث بشعري الخفيف وبطعم التين في فمي يختلط برائحة الابنوس، وأتساءل: هل صحيح أنني مريض ولم أخلق للحب؟‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:38 PM
حورية البلاد البعيدة

كيف يمكن للمرء أن يرقب حورية تجعل الحجر يرتعش ولا يشعر بتصدع في جسده وبرغبة عارمة في بكاء لا حد له؟‏

كانت تلك المرأة حورية القسم الداخلي الذي نسكن فيه نحن طلبة ماوراء البحار كما يحلو لبني جنسها أن يطلقوا علينا؟‏

أي عذاب مبهج كان يخض القلب ونحن نرقبها تتهادى نبعاً يمور بنور عذب آسر؟‏

أقسم أن تلك المرأة قد اختصرت جمال نساء الأرض.‏

ـ هل أتحدث عن قامتها الفارعة الشبيهة بشجرة باسقة مثقلة بالثمر الناضج؟ أم عن السحر الذي يهمي من عينيها ويجعلنا مسحورين؟‏

كان بهاء الخضرة في العينين يشعل الحرائق أو الروح ويبعث جنون الأعماق الفواحة بصراخ حيوانات بدائية تفترس أجسادنا.‏

أطلقنا عليها لقب أميرة النساء. في الواقع لم نكن قد شاهدنا أميرة من قبل ـ لكن حلم المرء العثور على فاتنة، ماكان ليصل إلى أبعد من قدمي أميرتنا.‏

إن لساني لينعقد وأنا أبصر دفق النور الصافي في وجهها الرقيق الغض. وإن روحي لتتقد حين ألتهم جسدها الوفير الذي لم تكن الملابس لتخفي تكوراته وانثناءاته وامتلاءه الشهي.‏

كنا جميعاً نعيش هذا الجمال الطاغي وعلى استعداد للانحناء عن طيبة خاطر يبن ذراعيها اللدنتين ـ لا بل ما كنا لنتردد في الانحناء أمام ساقيها الرخاميتين الشبيهتين بمرآتين صقيلتين تشعان أنوثة.‏

من نوافذ غرفتنا العالية المطلة على فناء القسم الداخلي. بدأنا نرصد امرأة تفيض على البشر والأشياء فتفجر الكائنات ببهاء قدسي. وتغرق البشر الفانين من أمثالنا في موج كثيف لا قرار له. موج حار وشائك ولذيذ.‏

آمنت بأن الأرض تزهو تحت قدميها. وأن نجوم السماء تسرق الضوء من بريقها المتدفق. وكان أصدقائي يعيشون ليلهم ونهارهم مسكونين بالحديث عن أميرة النساء هذه، ومع أنني فكرت بأن نفسي قد أضفت عليها أجمل الصفات وأنها ربما تكون مثالاً لجمال في داخلي هو مثال وسعيٌ نحو المطلق، إلا أن فكرتي كانت تذوي أمام دهشة الأصدقاء الذين لم يدخروا جهداً للإفصاح عن ولههم بهذه الأنثى التي لم تكن لتنتسب إلى عالمنا القاسي، وإذا حاولت أن أقيم موازنة بين انبهاري بها وبين تسبيحهم بآلاء حضورها الذي يكتسح المرء ويلقي به في يم عميق.‏

فسأكون متزناً في حكمي.‏

قلت لنفسي: لا ملاذ اليوم يعصمني من هذا البلاء.‏

وإذا كنت أبصرها تدخل الفناء الرحب،كنت أشعر بحرقة وغصة في الحلق،ولعل مرد إحساسي بالانكسار النفسي يعود إلى أنها كانت تأتي في بعض الأمسيات الندية برائحة الثلج الناعم مع رجل نحيل الجسد، أنيق الملابس اعتاد أن يوصلها إلى القسم الداخلي، واعتادت أن تترك جسدها الشبيه بجسد نمرة رشيقة بين ذراعيه وأن تدس رأسها الصغير في أحضانه.‏

بدأنا أراقبها كل مساء.‏

بدأن نرقبها من نوافذنا المشرفة على فناء القسم الداخلي.‏

ورغم أننا أدركنا بأنها ليست لنا وأن الطريق إليها ليست سالكة، فقد أدركنا أيضاً أنها لست مستحيلاً.‏

كنا ننتظر الفرصة، لكن الفرصة لم تكن لتأتي بسهولة، فالرجل يرافقها أبداً ويقف سداً منيعاً في طريقنا، ومع هذا فإن جذور الأمل ظلت متوهجة، وبقينا مفعمين بلذة المراقبة والتطلع إليها كمن يتطلع إلى قدر لا فكاك منه.‏

ذات مساء اكتشفنا أمراً جديداً، ذات مساء يطوق ضبابه أشجار الحديقة الغافية.‏

جوار القسم الداخلي وتنشر أضواء الشارع على جانبي الطريق منه التماعات كامدة لها رائحة الرماد، رأيناها تعود وحيدة دون رجلها، بدت خطواتها رتيبة متعبة تشي بكائن متهدم، لكننا شعرنا بأن الراحة قد غمرتنا إن لم أقل أسكرتنا.‏

إذن هاهي ذي وحيدة عارية من الرجل الذي تحب.‏

وجدنا أنفسنا أمام فرصة التقرب من المرأة التي سرقت النوم من عيوننا، ووجدنا أنفسنا أمام تحليل واحد لا يقبل النقض، فلابد أن غراب البين قد صرخ بينهما ناشراً الفراق. توحدنا في عين واحدة تتطلع كل مساء إلى المرأة التي نحب.‏

أيقنا بتوالي المساءات الطويلة الكئيبة أن الرجل قد هجر المرأة، فالمرأة لم تعد تمشي بحيوية كالسابق، ذلك أن أقدامها قد صارت ثقيلة توحي بوحدة قاتلة.‏

سأل أحدنا: من يمتلك القدرة على الدخول إلى الجنة؟‏

همس آخر: الفوز بالنعيم يتطلب مهارة وأعمالاً صالحة.‏

واختلطت الأصوات والضحكات، أما أنا فقد لذت بالصمت وآليت على نفسي أن أفوض أمري إلى جحيم هذه المرأة.‏

في مساء اليوم التالي كنت أقف في مدخل الفناء منتظراً إياها، وحين جاءت رائقة كحلم مخضل بالشذى شعرت بقلبي يطير من صدري.‏

ألقيت التحية.‏

فابتسمت ابتسامة لا أعرف كيف لم تلقني أرضاً.‏

قلت لها: أسكن في القسم هنا، وسأكون مسروراً لو تناولت معي قدح شاي عراقي.‏

ضحكت بألفة وقالت: يسعدني ذلك، فأنا لم أجرب هذا النوع من الشاي.‏

اندفعت قائلاً: ستحبينه بالتأكيد.‏

ضحكت للمرة الثالثة فأومأت بيدي واقتدتها إلى غرفتي.‏

في الطريق، كنت أرى عيون الأصدقاء، تبرق من وراء النوافذ، بريق عيون قطط مشاكسة.‏

حين نضت المعطف عن جسدها، امتلأ الجو بعبق رائحة عطر نفاذ يمتزج برائحة أنوثة غريبة.‏

أمضينا وقت انتظار الشاي في الحديث عن الصقيع الذي هاجم البلاد هذا العام وبث الشجن بين الناس.‏

قالت: صحيح أنه يشعرنا بالوحدة ولكنه جميل.‏

قلت: أنتم تحبونه لأنه جزء من طبيعة بلادكم، أما نحن ففي بلادنا لا نراه إلا في الشمال وفي فصل الشتاء وبعض الربيع.‏

احتست بتلذذ الشاي الذي حرصت أن أعده لها خفيفاً بينما كنت أدير أسطوانة لفيروز تتحدث عن الحب في الصيف والشتاء.‏

أعترف بأني كنت مأخوذاً وأن السحر قد ركبني فأسلمت كياني إليه.. إذن ها أنذا مع المرأة التي لا تنتسب إلى عالمنا أتجاذب الحديث معها وأرمق وجهها الصافي كالفضة مسترقاً النظر إلى هذا البذخ الجسدي الذي لا يترك للإنسان فرصة استرداد النفس حين ينظر إليه.‏

قالت متسائلة: مابك؟ هل تشكو من شيء؟‏

قلت: كلا.. أنت جميلة، جميلة، إلى درجة الجنون.‏

سألت بغرابة: الجنون؟‏

قلت: أعني أنت ساحرة.‏

ضحكت وقالت بدهشة ساحرة.‏

قلت: أجل، أحس أنك من عالم آخر.‏

قالت: ماذا تقصد؟‏

قلت: صعب جداً أن أجعل الكلمات تفصح عن مكنون شعوري.‏

سألت: أي شعور؟‏

اقتربت منها مسلوب الإرادة، أمسكت بوجهها فأسلمته لي.‏

تشجعت وداعبت خصلات شعرها المسترسل.. كان وجهها بين يدي غضاً رقيقاً مرهفاً، وكانت فتحة صدرها تكشف عن جزء من ناهديها المتماسكين، بدت منذهلة ولم تقاوم فاندفعت لأقبلها بضراوة.‏

دفعتني بألفة وقالت: يالك من شيطان لطيف!..‏

وقفت مبهوراً أرتعش بين يديها والجوع قد حولني إلى طفل ضال.‏

أبعدتني وقالت بحزم: لا. أرجوك هذا ليس جميلاً.‏

قلت بضراعة: أنا وحيد وحزين، وأنت وحيدة، لنكن لبعضنا.‏

قالت: لي صديق ولست وحيدة.‏

قلت واليأس يرج صوتي: كنت أعتقد أن صديقك قد هجرك.‏

ضحكت وقالت: أوه، لا تكن سيئاً وتفكر هكذا، إنه في سفر.‏

وسيعود الأسبوع المقبل، نحن نحب بعضنا.‏

وجدتني أتهالك على الكرسي. فاقتربت مني وقالت بصوت رهيف:‏

ـ لابأس، ستجد الكثير من النساء في هذا العالم.‏

لم أستطع أن أتكلم فقالت: كنت لطيفاً معي، ولا أريد أن أجلب المتاعب لك.‏

لم أستطع إلا النظر إليها مبهوتاً، ولم تستطع الانتظار فتناولت معطفها، وقالت: وداعاً، وشكراً على الشاي اللذيذ.‏

رددت بآلية: وداعاً.‏

وإذ شعرت بالاختناق اتجهت صوب النافذة وفتحتها لأعبّ حفنة هواء فارتطمت نظراتي بوجوه أصدقائي الذين كانوا داخل فناء القسم الداخلي يلوحون بأيديهم متسائلين.‏

حاولت أن أرفع يدي لأرسم لهم علامة النصر فاستعصت علي.‏

وفجأة أغلقت النافذة بعنف وعدت لأطفئ النور في غرفتي وأسترخي على السرير لأحلم بامرأة منحتني قبلة وذوت كالندى بين أصابعي.وتذكرتُ. وطالما تمنيت. لو أنني كنتُ سألتها عن اسمها.. اسمها فقط..!!

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:38 PM
الحب في زماننا

من منكم أتيح له أن يقف أمام امرأة من عشب ودمع، وأن يحوم حول فراشة محاصرة بالنيران؟‏

يبدو أن قدري يضعني في حالات مربكة تجعل مني بهلول العاشقين.‏

الآن لي أن أروي لكم الحكاية التي ابتدأت في فندق يتوهج بالنور ورائحة الأنوثة والطعام الشهي.‏

كنت أرشف من فنجان قهوتي وأحاول أن أحصي عدد مربعات النور التي تؤطر النوافذ المزركشة بخطوط وتعربشات نباتية تتسم بشيء من البدائية. وفجأة دهمني وجهها المكتنز بوهج مدمر مضيء بدهشة الصباح وأسلمني إلى رائحة ليل غض رحل وما زالت بقاياه تسطع كالفراشات التي قدت من نور يرحل في الألوان. فجأة وجدتني أرمق الدماء القلقة في وجه تلك المرأة وأشهق بحبور ضائع في الضوء والرحيل.‏

بدأ الجميع رصد هذا الوهج المدمر المضيء بدهشة العشب الصباحي الذي يحن إلى الرحيل.‏

عن كثب تطلعت إلى ذلك الأسى في العينين ذلك الأسى الذي أودعني في قلب إحساس بنزول كارثة. نظرة ندية محزونة توحي كما لو أن الناس يخوضون في شوارع تستحم بالدم.‏

انتشلني صوت أحد الأصدقاء:‏

ـ هل رأيت هذه الأنثى التي اخترقت دائرة الاحتفال وحولتها إلى خضرة بهية؟‏

أنظر إلى الرجال الذين يحومون كالذئاب الجائعة.‏

قلت:‏

ـ أشعر بأن الجميع قد تحولوا إلىثيران هائجة ترمق نداء الدماء في الوجه المحزون.‏

في الذراعين المزهوين في العينين اللتين تشعلان الحرائق.‏

قال:‏

ـ جمال متوحش ونادر كهذا يحتاج إلى كثير من الجنون.‏

لا أدري كيف نهضت لأسير نحوها كالمنوم ولأقول بشيء من الخشوع:‏

ـ ثمة رجل مجنون. فيه من نزق الطفولة وحكمة الحيوانات البريئة مايؤهله كي ينبح، أو ينهق، أو يزأر. ثمة سهم مشتعل ينشد الماء فبأية لغة تريدين أن نتفاهم وأي وجه أتخذ كي أستل بعض هذا الحزن المتفجر؟‏

أشارت لي أن أجلس ففعلت.‏

قالت: لم أكن حزينة ولكني أحس بالعزلة.‏

قلت:‏

ـ بالله دليني على من أعطاك هذا الحزن. هل يستحق أي كائن كان أن يقودك إلى هذا الأسى ويسلمك إلى هذا النزيف؟‏

قالت:‏

ـ أنت فضولي.‏

قلت:‏

ـ في البداية، وأنا أرقب وجهك قلت سيرميك الله في النار إن لم تنتشل هذه الأنثى من مطر النار الذي يتلقف وجهها المأسور، وعندما رأيت هذا الترف تحرك الحيوان في داخلي.‏

ابتسمت:‏

ـ قلت: أعترف بأنك قد اخترقت الجميع، واخترقتني جزئياً.‏

ابتسمت ثانية، وقالت:‏

ـ هل تأخذ فنجان قهوة؟‏

قلت:‏

ـ هذا فأل خير أنت أكرم مني وقد سبقتني في الدعوة.‏

ونهضت لأقودها إلى كافتيريا الداخل بعيداً عن عيون الآخرين.‏

قلت:‏

ـ كم من الحرائق قد أضرمت في قلوب الرجال؟‏

قالت:‏

ـ أنت تكثر من الأسئلة وتلك علامة حسنة.‏

قلت:‏

ـ هل يمكن للمرء أن يمسك بالبرق؟ كنت برقاً بهر الآخرين، لكنهم خشوا الصاعقة والاشتعال، تحاشوا الذوبان في هذا البلاء.‏

قالت:‏

ـ جرأة القلب تعجبني، أذوب في جرأة القلب.‏

أخرجت سيجارة فسارعت إلى إشعالها.‏

قالت:‏

أحببتُ رجلاً حد الفناء.‏

قلت:‏

ـ جميل.‏

قالت: اتضح أنه متزوج رفضته لأنه كذب، أعلمني ولا أقول أوهمني بأنه أعزب، المسألة في المبدأ وليس في الزواج أرفض علاقة ترتكز أساساً على الكذب.‏

قلت:‏

ـ لكن هذا لا يكفي.‏

قالت:‏

ـ أحب وأحترم شقيقتي لأنها سافرت مع من تحب. واختارت وضعها البشري.‏

قلت:‏

ـ يعجبني رأسك.‏

قالت: وهي تنفض رماد سيجارتها التي تلون عقبها بأحمر شفتيها:‏

ـ أنهيت دراستي في علم النفس قبل أكثر من سنتين ولم أشأ أن أضع نفسي في قفص الوظيفة.‏

قلت:‏

ـ علم النفس لذيذ وممتع.‏

قالت:‏

ـ أعتقد بأن فرويد أكبر من ماركس. أنا مؤمنة بأن الغرائز هي الأساس في الإنسان. فهي طبيعته الأولى. وماعداها قوانين تفسر الإنسان من الخارج وتجهز على بدائيته وعفويته.‏

قلت:‏

ـ لا يروق لي فرويد كلياً، ولعلي قد استأت من تفسيره الثورة بروح القطيع.‏

سألتني بغتة.‏

ـ هل تعرف المخرج فلان؟‏

ـ قلت:‏

هو معروف أكثر مما ينبغي.‏

قالت:‏

ـ كنت على علاقة معه، في البداية قال لي أنه قد اشتهاني، لكنه قال فيما بعد بأن دور الجسد قد انحسر وأنه يحب روحي.‏

قلت:‏

ـ لا أستطيع أن أكون كذاباً فأنا أحب هذا النور في رأسك، ولكني أحب وأشتهي ثمر هذه الحقيقة التي‏

تصيب المرء بالقهر، أحب نار هذه القامة العامرة بالطيوب والعجائب.‏

قالت:‏

ـ هل يزعجك أن أتحدث عن الناس الذين أحببت؟‏

قلت:‏

ـ لي صديق يسمي المرأة ذات الفخذين الممتلئين، امرأة مفخذة.‏

نظرت إلى الأسفل وقالت:‏

ـ ذاك يوحي بالترهل.‏

قلت:‏

ـ لا أقصد المرأة البدينة، بل الممتلئة.‏

وقلت: إنّ صديقي يحب الزّغبَ عليهما فهو يذكره بالزغب الناعم في صدر المرأة.‏

قالت: ـ أنت غريب.‏

قلت:‏

ـ إنسان.‏

أمعنت النظر في شعرها الشبيه بشعر مادونا وحدقت في سترتها السوداء وتنورتها الرمادية.‏

قالت:‏

ـ الجو حار.‏

قلت:‏

ـ ضعي السترة جانباً.‏

قالت:‏

ـ ملابسي خفيفة.‏

قلت:‏

ـ هل أشرب كأساً من البيرة؟‏

قالت:‏

ـ أرجوك لا تفعل.‏

قلت:‏

ـ الغرفة التي أسكن تطل على النهر والحدائق.‏

قالت:‏

ـ أمهلني ولا تتعجل معي.‏

قلت:‏

ـ أنت تثيرين المرء وتلقين به إلى التهلكة.‏

قالت:‏

ـ وأنت تثير الزوبعة.‏

قلت:‏

ـ هل تأتين في المساء؟‏

قالت:‏

ـ إذا كنت قد فضت كالنهر وأنت تراني هكذا فكيف ستتدبر حالك إن أقبلت في الليل؟‏

قلت:‏

ـ أحب الساحرات اللواتي يجعلن الماء يندفع في عروق الحطب اليابس.‏

قالت:‏

ـ سحري لا يدفع الماء، سحري يلقي بالناس في النار.‏

قلت:‏

ـ أردت أن ننفرد ببعضنا كي تري إنْ كنت إنساناً يحترم نفسه أم لا؟‏

ـ لم تجب.‏

حدثتها عن أربعة رجال التقوا ذات ليلة امرأة مثيرة ترقص في ناد ليلي بكامل ملابسها التي حركت الوحوش في عروقهم قلت لها أن المرأة بقدر ماكانت مكتنزة رشيقة شهية، وهي ترقص، كانت منفرة كريهة فالملابس قد خدعتهم، ولذا هربوا بأنانيتهم تاركين إياها تصب اللعنات عليهم.‏

قالت:‏



ـ لن تستفزني بهذه الحكاية ولا تتعجل فسترى ما تحب.‏

قلت:‏

ـ المرأة سر رباني والجسد العاري هو الذي يعلن كنوز المرأة.‏

قالت:‏

ـ هذا صحيح إلى حد كبير.‏

قلت:‏

ـ تعرفين أن الأرواح المتشابهة تتعارف وتسعى لتتوحد مع بعضها.‏

قالت:‏

ـ أعرف ذلك.‏

قلت:‏

ـ كان لي صديق أحب امرأة إيرلندية وأمضى معها عدة أشهر وذات مساء وهما يشهدان مسرحية ـ صوت الموسيقى ـ انتبهت المرأة إليه فوجدته يبكي وهو ينصت إلى صوت بتولا كلارك يصدح في مشهد الهروب من فيينا فقالت:‏

ـ أنت إنسان.‏

وطلبت منه أن يأخذها إلى شقته وهناك قبلته بحرارة قبلت صدره. يديه وجهه وهمست:‏

ـ الآن أحبك أكثر.‏

بيد أن صديقي هجرها وجاءني يرتعش غضباً ليقول:‏

ـ أكان ماغمر دمها من ماء روحي مجرد أكذوبة بعد كل هذه الليالي التي أمضينا سوية ألم تدرك منذ البداية بأن لي روحاً؟‏

قالت:‏

ـ عجيب أمر بعض الرجال. قلت:‏

ـ والأعجب منه أمر النساء.‏

شعرنا بالعيون ترصدنا فقالت:‏

ـ الآن يتوجب علي أن أمضي.‏

قلت:‏

ـ وتتركيني وحيداً.‏

قالت:‏

ـ أمقت لحظات الفراق فهي قاسية.‏

أعطتني رقم هاتفها، وأعطيتها رقم غرفتي.‏

بعد منتصف الليل. في الواحدة والنصف جاءني صوتها عبر الهاتف:‏

ـ ماذا أقول صباح الخير أم مساء الخير؟‏

قلت:‏

ـ أفضل صباح الخير.‏

قالت:‏

ـ نحن كائنات ليلية كأجدادنا في الحضارات العراقية القديمة يبدأ نشاطنا ونهارنا في الليل.‏

قلت:‏

ـ اسمع صوت موسيقى تقولين أنه شوبان، لكنها الفصول الأربعة لفيفالدي كما أعتقد، تقولين أن شوبان قدصنع الفصول الأربعة أيضاً حسناً. ربما أكون قدأخطأت، ربما كانت الفصول الأربعة لهما معاً.‏

ـ ماذا عن صديقك المجنون؟ لقد أحببته.‏

قلت:‏

ـ أنا أيضاً أحبه أجل كما تقولين هو رجل مكتظ.‏

فيضان، بالمناسبة صوتك عبر الهاتف يغرقني في اللهب. ألم يخبرك أحد من قبل أن حسيَّته قاتلة.‏

ضحكت بمراوغة فقلت:‏

ـ أحببت عينيك.‏

قالت:‏

ـ لماذا ليس الشفتين؟‏

قلت:‏

ـ هل أنا برق لأمسك أم أنت؟‏

قالت:‏

ـ عدت إلى البيت أتوهج كنت جائعة ولم أستطع أن آخذ الطعام كان ثمة حدث قد وقع، أعرف أنه كبير فأنا شديدة الحساسية إزاء أشياء من هذا النوع في لقائنا كنت صامتة لم أتحدث سوى دقائق قلت لي تكلمي فأنت تجيدين الحديث أما أنا فلم أرد أن أوضح نفسي تركت لك حرية اكتشافي كنت تتكلم بجنون وقد استوعبتني كنت أشعر بأني أنا التي تتكلم ولست أنت، تصور العالم أصغر من قبضة كف وفيه نجد مايطمئن نفوسنا الملتاعة.‏

قلت:‏

ـ كيف لي أن أكتشف الغابة أو البحر.‏

قالت:‏

ـ لا تتواضع، الإنسان الذي لا يكتشفني في أول لحظة غير جدير بي، بالمناسبة هل تعرف (فلان)؟‏

وصعقني الاسم والسؤال فلذت بالصمت.‏

قالت: ـ تعرفه بالتأكيد، لم أستجب له رغم مايمتلك من نفوذ وثروات لماذا صمت؟ أنت تختلف عن الآخرين ـ أنت لا تخلق عندي أي ملل، أنت مجنون نادر وأنا أحب المجانين، أنا أنحاز إلى الحالات الصعبة المقلقة فهي تحرك الماء الراكد في بحيرة أعماقي، تعطيني الحيوية وتجعل روحي مشتعلة، هل تسمعني جيداً، الهدوء والسكون والابتعاد عن الأمور المثيرة تشعرني بالكسل وبأني متعبة أنا لاأبحث عن عبء بل عمن يساعدني في إزاحة هذا العبء عن روحي.‏

قلت:‏

ـ أشعر بالخوف يا امرأة.‏

قالت:‏

ـ لا تخذلني في نفسي فأنا لا أريد أن أكون شيئاً عابراً في حياة الذي يحبني. أحب أن أترك بصماتي واضحة في نفس الرجل الذي أحب والإنسان الذي لا يصلني أول لحظة لن يصلني في النهاية هل تسمعني؟ لماذا توقفت عن الحديث أيها المجنون.‏

رميت سماعة الهاتف جانباً، وانتفضت لأغادر الغرفة التي كانت ندية بصوت امرأة من دمع وعشب.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:44 PM
عــــــلاقة

تأملته بصمت وسألت:‏

-أين تريد أن تقبل المرأة؟‏

كان يتصور أنها قد سألته عن مكان اللقاء بالمرأة لا عن القبلة فقال:‏

-أريد أن ألتقي بالمرأة في عراء واسع ثم ندخل ملكوت العالم تحت زخات المطر واختلاط خضرة الأعشاب ووحل الأرض تحت سماوات الرب الشاسعة.‏

تطلعت إليه بشراسة وولولت بمرح:‏

-أنت خيالي مجنون.‏

هزّ رأسه وقال:‏

-ربما.‏

صرخت بجدية:‏

-تصور أنا أحبك ولا أريد الزواج منك.‏

فكر..‏

شيطانة صغيرة في رأسها شعلة نار، تقرأ لهيجل وتعرف همنغواي وغوركي وتقود التظاهرات ضد سياسة الحكومة في مدينتها الغافية على البحر.‏

-اسمع.‏

انتشله صوتها من أفكاره فمط شفتيه واتخذ سمة الجد والوقار قائلاً بخشوع:‏

-أنا الآن متعبد في معبد.‏

ضحكت وغمغمت:‏

-كنت أعرفك قبل الآن، ثق كنت أعرفك، ولكن لم أفكر بأن هذا الرجل أحمق بهذا الشكل.‏

فجأة قال:‏

-حدثيني عن بلدك.‏

انتصبت وأخذت حفنة هواء ثم سألت:‏

-عني أم عن الناس؟‏

رمقها بخشونة جارحة وقال:‏

-عن الاثنين.‏

أفصحت:‏

-حياتي بسيطة هناك.‏

قال:‏

-لا أصدق.‏

أجابت ضاحكة:‏

-أحب الكذب أحياناً.‏

-اصدقي إذن.‏

ركضت بين الأشجار الشامخة المرصوفة حول ساحة مربعة فحث خطاه وعندما اقترب وجدها تبكي بهلع ورجاء. انساب صوته:‏

-لماذا؟‏

-أحبك أحبك أيها المجنون.‏

اتخذت نبراته الهدوء:‏

-هذا لا يدعو للبكاء.‏

واجهته:‏

لا تكن ساذجاً فأنا لست قادرة على أن أجعلك لي.‏

قدم لها قطعة كلينكس -فجففت دموعها وأكملت حين رأت نظراته تستجدي: -في الوطن ينتظرونني.‏

-هكذا!‏

واصلت:‏

-في صغري كنت عفريتة أتحرش بالجميع وعندما يريد أبي أن يضربني كنت أهرب إلى البحر وأرمي نفسي فأشبع من الماء وأكاد أغرق.. يخرجني أبي، يعالجني ثم يبدأ بضربي حين أصحو، وكنت أعود للتحرش بالآخرين ثانية.‏

ضحك وقال:‏

-ثم؟‏

-قلت لك أن النقطة الحساسة كانت وقت تعرفت بمدرستي الفلسطينية التي أمدتني بكتب كثيرة.‏

وبحركة مرحة قالت:‏

وعملت في السياسة:‏

وغيرت نبرتها وقالت والشرر يتقد في عينيها الداميتين:‏

-في مدينتي نأخذ الطعام بالبطاقات.‏

رد:‏

-قرأت هذا مرة.‏

أكملت:‏

-والبوليس يأتي مع الماء والهواء، إنهم يكسرون الأيدي ويخلعون الأرجل، ويجيدون قلع الأظافر ووضع الملح.‏

أحس انفعالها الشديد فقال باستفزاز:‏

-جسدك لعنة عليك.‏

ضحكت، اختفى الانفعال وهمست:‏

-هنا فقط، أنتم جائعون‏

سأل:‏

-كلنا؟‏

وشعر بصوت يهتف في داخله: رغم أن جسدها يثير برشاقته وتكوينه البديع الحيوان في أعماق أي رجل إلا أنها بريئة. بريئة محكومة بلعنة الجسد.‏

ضحكت ثانية وقالت:‏

-حتى أنت.. ولكن حيوان وديع سالم.‏

تحداها.‏

-لأنك تجهلين من أنا.‏

تحدته:‏

كتاباتك أوضحت لي أعماقك.‏

قال:‏

-بالمناسبة، أنت صاحبة أسلوب شعري مدهش.‏

-لا..‏

-ثقي.‏

-أيها الصغير، يا طفلي المتعب أنت لا تعرف بأنني قد فزت بجائزة قصصية في بلدي.‏

-يجوز.‏

وراح يتفرس بحري عينيها المغزولتين بشوق عارم.‏

انتشله صوتها:‏

-لنرجع.‏

وافق:‏

في الطريق كانت نظراتها دامعة، متعبة وفي عينيها هاتف يصرخ:‏

-أحبك. ولكن يا للأسى فأنت لن تكون لي.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:45 PM
مـــاريــا

بعد أن انتهينا من ترتيب شحن جثة طبيب عراقي سيء الحظ. نام فلم يستيقظ، أحسست بكآبة العمارات الشاهقة في كلاسكو التي كانت تغرق في دخان كثيف تنفثه المصانع المبثوثة داخل المدينة، وإذ نظرت إلى صاحبي وجدت وجهه ضائعاً في تأمل عميق يوحي بالخوف وتوقع حدوث أشياء قاسية. صلبة. قلت بنبرة جاهدت أن أجعلها محايدة: والآن وقد انتهينا من موت إنسان، علينا أن نبحث عن ملاذات تنتشلنا من هذه الغابة الشائكة.‏

قال صاحبي: هل تعتقد أن ثمة ما ينسينا رعب الذي حدث؟‏

قلت: لنحاول.‏

كانت المدينة في المساء تغتسل في ألوان براقة، والصبايا غزلان نافرة يطاردها الصيادون. وقد اكتست الشوارع برذاذ خفيف أطلقته السماء الرمادية القاتمة.‏

أرشدونا إلى مرقص يقع في الطابق الخامس من عمارة داكنة، وعندما حاول صاحبي أن يعود اعترضت وقلت:‏

-أعرف جيداً هذه المدن، فهي مدن تبدو مقفلة ولا تمنح نفسها للغريب بسهولة، صحيح أنها قبيحة المظهر، ميتة الملامح، ولكن رونقها يكمن في الداخل فهناك تكون الألوان والظلال والعالم القريب من السحر الندي، وهناك تتفتح لك وتدعوك لمخاصرتها والبدء في الرقصة الأولى:‏

عقب ببرود: سنرى.‏

غادرنا المصعد لندخل المرقص ولشد ما كانت دهشتنا، فالمرقص واسع وفسيح تغمره الأضواء المتداخلة الخاطفة والموسيقى الهادئة. وفي الوسط منه كانت امرأة وحيدة ترقص برشاقة تجعل تكورات جسدها وأشياءها الثقيلة ترتعش بحسية قاتلة.‏

قال صاحبي: يبدو أن النحس يطاردنا هذا المساء.‏

راقبت المرقص الخاوي إلا من المرأة الوحيدة وعمال الحانة وعجبت من كثرة المقاعد والكراسي الفارغة فقلت:‏

-ويبدو ذلك واضحاً.‏

توجهنا إلى بار المرقص فاستقبلنا رجل عجوز ذو ملامح وديعة تمثلت في عينيه المنهكتين الزرقاوين وشفتيه اللتين كان لهما لون دم نقي قائلاً:‏

-لشد ما أكون سعيداً حين يأتي الضيوف مبكرين، إن هذا يتيح لي فرصة الحديث معهم؟‏

طلبنا كأسين من الجعة.‏

قال صاحبي: إذن فقد أتينا مبكرين!‏

سألت الرجل العجوز: متى يأتي الآخرون؟‏

ضحك العجوز: ربما بعد أن تحتسي كأسين من الجعة.‏

ضحكنا وبدأنا نشرب بتلذذ ثم استدرنا لنرقب المرأة التي كانت ترقص بضراوة بفعل ازدياد حدة الموسيقى، وفجأة اندفع صاحبي إليها وبدأ الرقص معها وأحسست تجاوبها عندما بدأت تتحدث معه وهما يرقصان بحيوية ولا أعرف لم فكرت بأنهما حزينان حزناً ثقيلاً.‏

بدأ المرقص في احتضان الرواد الذين يتقاطرون، وعندما انهمروا كالمطر الغزير اتخذت كرسياً في زاوية منه، وبدأت أرقب تلك الأجساد المستغيثة من نداءات الوحوش في الأعماق، تلك النداءات التي تتجسد في التصاق رجل بامرأة، أو قبلة تقتلع صبوات القلب وتبث حريق الدم في الشفتين، النداءات التي تبرز في جنون الرقص، في ضحكة حادة وحركة غضة أو نظرة مكتنزة بالرغبة.‏

في الجوار مني، جلس رجل بهي الطلعة، فارع الطول، وقريباً منه كانت تجلس امرأة قدرت أنها لم تبلغ الأربعين بعد، امرأة حمراء الشعر يضج وجهها بنمش محبب وتتدفق نار عاتية من عينيها المركبتين من لون أخضر تشوبه زرقة لطيفة.‏

جاء صاحبي ومعه المرأة التي كانت ترقص وحيدة.‏

تعارفنا بسرعة، قالت أن حبيبها قد أودع السجن لستة أشهر لأنه سرق قطعة ملابس داخلية من مخزن!‏

كان الأمر أشبه بنكتة بالنسبة لنا، لكنها كانت جدية وهي تقول بأنها تحبه رغم ولعه بالسرقة، أوضحت لنا أنه لم يكن لصاً ولكنه مصاب بمرض السرقة وأنها وحيدة وحزينة ولكنها لا تملك إلا أن تعيش لحظاتها بانتظار مغادرته السجن.‏

تجاذبنا أطراف الحديث وحاولنا أن نستل أحزانها فأدركت ذلك وقالت:‏

-لا تكدرا ليلتكما بسببي، من فضلكما تمتعا قدر ما تستطيعان فالمرء لا يعرف ما يخبئه له الغد.‏

أنهضها صاحبي فلبت دعوته، وأصبحا كتلتي لهب في قلب المرقص.‏

سألني الرجل الذي يجالس المرأة ذات الشعر الأحمر:‏

-أنتم عرب، أليس كذلك؟‏

قلت: أجل، نحن عرب.‏

قال: عرفت ذلك من لغتكم، كنت أعمل في السعودية في حفر آبار النفط، اسمي ساني.‏

قلت: واسمي سعيد.‏

قدم لي المرأة: ماريا.‏

صافحتها فواصل الحديث معها: معنى اسمه الرجل السعيد.‏

سألت بود تشوبه مرارة: هل أنت سعيد؟‏

أجبت: أحاول أن أكون سعيداً في عصر يستبيح بهجة المرء.‏

قالت: كلنا نحاول أن نبحث عن سعادة ضائعة.‏

لذت بصمت متعمد.‏

قال ساني: نحن نحتفل بمناسبة سعيدة، فماريا اليوم قد حصلت على الطلاق من محكمة العاصمة في ادنبرة.‏

احتلت صاعقة جسدي.‏

قالت ماريا: ساني صديقي ونحن نحب بعضنا، اليوم فقط تخلصت من العذاب الذي أورثني إياه زوجي.‏



غادرت دائرة المفاجأة فقلت: سأحتفل معكما. ماذا تشربان؟‏

قال ساني: ويسكي بالليمون.‏

وقالت ماريا: مارتيني.‏

ضرب الشراب رؤوسنا، جاء صاحبي لوحده وأعلمني أنه سيأخذ المرأة التي معه إلى الفندق وذهبا بعد أن لوحت لي بيدها مودعة وهي تقف قرب مدخل المرقص.‏

قالت ماريا: أعمل في صحيفة نسوية، أحرر زاوية مشاكل القارئات العاطفية.‏

كان يجب أن أكذب عليها ولا أخبرها بأنني موظف في سفارة فقلت:‏

-أنا الآخر محرر فني في مجلة عربية تصدر في لندن.‏

سألت: أنت ترتاد المسارح كثيراً إذن؟!‏

أجبت بنوع من المباهاة: بالتأكيد.‏

قالت: يقولون أن مسرحية أماديوس تلاقي نجاحاً مذهلاً هناك.‏

قلت: لقد شاهدتها وكتبت عنها مقالة صغيرة.‏



شهقت دهشة وقالت: صحيح؟ حدثني عنها فأنا أعشق موزارت.‏

تململ ساني في جلسته وأبصرت عدم راحة في عينيه فقلت:‏

-الحديث عنها يطول وربما لن يكون مريحاً.‏

قالت: أحب أن تحدثني فموزارت قد أخذ عقلي.‏

قلت: باختصار، تتحدث المسرحية عن روح الطفل عند المبدع وتحطيمه للأطر الجامدة وتخطيه لمعطيات عصره وتبرز محنته مع الطبقة الارستقراطية ومع من هم دونه موهبة.‏

قالت: أعرف أن البلاط الذي أولع بنمط من الموسيقى الكلاسيكية لم يرحب بموسيقى موزارت الفرحة الراقصة، وأعرف أن ساليري قد وقف ضد موزارت وحطم حياته.‏

قلت: أنت تعرفين موزارت حقاً.‏

ابتسمت بألفة وقالت: أعرف عنه بعض الأمور.‏

واصلت رغم إحساسي بأن ساني لم يعد مرتاحاً: المهم أن ساليري بعد أن دفع موزارت إلى الموت اكتشف فيما بعد أن موته قد منحه حيوات عديدة فلجأ إلى الانتحار تكفيراً عن ذنبه.‏

قالت: كان ساليري قد اكتشف أن من المستحيل قتل المبدع.‏

قلت بحزن: اكتشف ذلك متأخراً.‏

قال ساني: لنشرب في صحة موزارت.‏

رفعنا كؤوسنا نظرت إلى ماريا، نظرت إليّ، كانت الموسيقى تتسلل بمهارة إلى نفوسنا، قلت:‏

-هل أستطيع أن أدعو السيدة الجميلة إلى الرقص؟‏

نهضت ماريا ووجهها قنديل ضوء متوهج.. وكان وجه ساني قد شحب.‏

أصبحنا في قلب المرقص، ومع أنني كنت أتمنى أن تكف الموسيقى عن صخبها العنيف وتتحول إلى موسيقى بطيئة كي يتاح لي أن أحتضن ماريا وأقربها من قلبي المشتعل علها تطفئ التنور الذي في أعماقه. إلا أن ذلك لم يحدث فواصلنا رقصنا السريع وعدنا بعد أن سبحنا في عرق جسدينا.‏

قال ساني بعدوانية: قل لي يا هذا لماذا يتعطش العربي إلى المرأة؟‏

لاحظت استياء في عيني ماريا فقلت:‏

-ربما لأن الرجل الشرقي جائع نفسياً إلى المرأة، أعني أنه يختلف عنكم في كونكم تبدؤون الاختلاط بالجنس الآخر منذ الطفولة، أنتم تعرفون الأنثى في كل المراحل الدراسية وتختلطون بها، ومن هنا فهي تبدو حالة إنسانية طبيعية، أما نحن فلا نختلط بالجنس الآخر في الجامعة وهذا الأمر متاح لفئة محدودة وعليه فإن الرجل العربي يظل يعاني من الرغبة في معرفة المرأة لإشباع حاجة نفسية وقد يلتقي بامرأة في مرحلة متأخرة فيتوهم أنها فتاة حلمه الأزلي وما أن يمتلكها حتى يبدأ البحث عن الأنثى لأن أعماقه عطشى نفسياً إلى معرفة المرأة.‏

ضحكت ماريا ومدت يدها إلى شعري، عبثت أصابعها فيه وقالت:‏

-تفسير منطقي.‏

قال ساني: لكن هذا لا ينفي ركضكم وراء النساء،‏

قلت بجفاف: ليس لدي ما أضيف.‏

قالت ماريا مؤنبة: ساني، لنحتفل هذا المساء.‏

قال ساني: عذركما، سأعود بعد لحظة.‏

ونهض.‏

قالت ماريا: سامحه فهو عصبي ويحبني، الأحمق تخيل أنني قد أحببتك.‏

شعرت بلطمة مؤذية فأكملت:‏

-لقد تركت زوجي من أجله، إنه طيب ويعبدني.‏

قلت: ليس كثيراً أن يهوى امرأة ناضجة مثلك.‏

قالت ضاحكة وشيء من عتاب في صوتها: هل تريد أن تثبت وجهة نظره في العربي وركضه وراء النساء؟!‏

قلت: إن ذلك لا يسوؤني.‏

ران الصمت شعرت ثقله حين بدت ماريا مرتبكة، قلقة.‏

فجأة قالت: تأخر ساني.‏

قلت: سيعود، هل نرقص؟‏

قالت: كلا، أخشى أن يكون قد غادر المكان.‏

قلت: هذا لا يمكن.‏

قالت: أنا أيضاً أعتقد أنه لن يفعل ذلك ويحرجني.‏

لم أفهم ما عنت فقلت: هل أذهب فأتفقده؟‏

قالت: بل سأتفقده أنا.‏

عادت ماريا بعد لحظات أكثر ارتباكاً وقلقاً وقالت:‏

-النذل غادر المرقص وتركني وحدي.‏

وانهارت على المقعد لتنخرط في نشيج قوي جعل أشياء جسدها المحملة بالثمار اليانعة القطاف ترتجف.‏

قلت: ماريا، يمكن أن تغادري المكان وتلحقي به.‏

قالت وهي تحاول أن تضبط أعصابها: تلك هي المشكلة، ماذا أقول لك؟ لقد تركني في مأزق، جاء بي بسيارته وتركني لوحدي.‏

قلت: ما من مشكلة في الأمر كما أرى.‏

قالت: ساني يعرف أنه أحرجني، أنا أسكن في منطقة ارشاير في ضواحي كلاسكو، والآن لا توجد باصات أو قطارات، المشكلة أن طفلتي يجب أن تذهبا إلى المدرسة في الصباح وعليّ أن أدبر أمرهما، ولكن كيف أذهب إلى هناك ولا أمتلك نقوداً أدفعها أجرة تكسي الآن؟‏

سألت: كم يكلف ثمن الذهاب بالتاكسي إلى هناك؟‏

قالت: عشر جنيهات تقريباً.‏

أخرجت من محفظة النقود ورقة من فئة عشر جنيهات وقلت لها:‏

-تستطيعين الذهاب إلى طفلتيك.‏

نظرت إلي بذعر وسألت: أنت جاد؟ لا أعتقد أن بإمكاني أن أرد النقود إليك في وقت قريب.‏

وضعت في حقيبتها النقود بينما كانت ملامحها تشي بالخجل وبعذاب أنثى جرحت من قبل الرجل الذي أحبت.‏

قالت: هل تطلب لي شراباً؟ سأذهب بعد أن أشرب قليلاً.‏

عدت بقدح مارتيني وبجعة لي فارتشفت شرابها بحماس.‏

سألت: هل تشعرين بجوع؟‏

قالت: أجل.‏

قلت: أحب الطعام الإيطالي، وأنا غريب فهل ترشديني إلى محل يقدمه لنا؟ ضحكت فشعرت براحة.‏

ونهضنا.‏

في الطريق كانت الشوارع تلتمع مثل فراشات تحت دوائر الضوء والمطر. بغتة قالت ماريا: خذني إلى الفندق الذي تنزل فيه، أستطيع أن أكتفي بسندويش فالوقت متأخر الآن.‏

بعد أن تناولنا شرائح لحم خفيفة واحتسينا قدحي مارتيني أصبحنا في غرفتي.‏

قالت ماريا: لن أنام معك!‏

قلت: وطعم الإهانة في فمي: لن أجبرك على شيء أبداً.‏

قالت: سأتصل هاتفياً بساني.‏

قلت: لا تفعلي.‏

قالت: لابد أن أكلمه فقد أهانني.‏

اتصلت بساني وبمجرد أن سمع صوتها أقفل الهاتف في وجهها فانخرطت في بكاء غاضب وقالت:‏

-كان يجب أن آخذ برأيك، سأخبر أمه بما فعل.‏

احتفظت بالصمت ولم أعلق بشيء.‏

قالت ماريا: سآخذ حماماً.‏

بقيت أصغي لقطرات الماء تساقط على جسدها وأغرق في خيالات حسية حارة.‏

خرجت ماريا من الحمام وقد لفت نصفها الأسفل بمنديل قطني، وكان نصفها الأعلى نافراً، مشرعاً كالرمح يخترق لحمي ويغور فيه بلا رحمة.‏

قالت ماريا: أريدك.‏

توترت أعصابي وارتخت مفاصلي ثم عقد لساني.‏

قلت بصعوبة: هل تفعلين ذلك بسببه؟‏

قالت: أنت رجل لطيف وأنا حزينة وأريدك.‏

فتحت ماريا أبواب الجحيم لي وألقتني في سعير كافر لم يترك في جسدي بقعة إلا والتهمها، سعير طيّر النوم من عيني وأبقاني أسير تلك النار التي أكلتني بضراوة.‏

في الصباح الباكر، كان على ماريا أن تذهب.‏

في الصباح قالت لي ماريا: هل تعرف أن ساني أفضل منك؟‏

قلت بعصبية: لم أترك جمرة في أعماقي إلا وأطفأتها في نهرك، وربما كان أفضل مني لأنك تحبينه.‏

قالت: ربما، ولكن لا تنزعج من الصدق.‏

أخذنا سيارة تاكسي إلى محطة القطار، كنا ثلاثة ماريا وصاحبي الذي قلت له:‏

-كيف كانت حبيبة لص الملابس الداخلية.‏

قال بمرارة: تركتني بعد أن حدثتها عن الطبيب البائس الذي كان سيحصل على الدكتوراه قريباً ونام ولم يستيقظ، في البداية ظلت تبكي حبيبها اللص ثم تركتني..‏

قالت ماريا: أعطني جنيهاً.‏

أصبت بخيبة أمل فأعطيتها الجنيه وأنا أفكر بأنها تبتزني فقد أعطيتها في المساء عشر جنيهات.‏

أخرجت من حقيبتها ورقة العشر جنيهات وأعطتني إياها قائلة:‏

-خذها فلن أحتاجها الآن، الجنيه يكفي لأن يوصلني إلى منطقتي فالباصات والقطارات متوفرة في الصباح.‏

أعدت إليها ورقة النقد وقلت: ابتاعي بها حلويات لطفلتيك.‏

صافحتني، صافحت صاحبي غادرت السيارة باتجاه أحد الباصات.‏

في لندن تلقيت منها نداء قالت فيه مداعبة:‏

-هل أنت سعيد يا سعيد؟‏

قلت: أحاول أن أكون سعيداً، ماذا عن ساني؟‏

قالت: سأكتب لك رسالة عما حدث.‏

جاءتني رسالة منها تقول:‏

"اعتذر ساني عما حصل وأنا الآن معه أعد له طعاماً شهياً وبالمناسبة أنا طباخة ماهرة.‏

أتذكر الظروف المعقدة والغريبة التي التقينا فيها وأقول لك لقد أحببتك، أليس من حق المرأة أن تحب رجلين في وقت واحد؟ لدي الكثير من الأشياء علي أن أقولها لك، وسأعمل على أن أزورك في لندن، هل تستقبلني أم أنك غاضب حتى الآن لأنني قلت بأن ساني أفضل منك في الفراش؟ إذ أردت أن تتصل بي فرقم هاتفي... لك قبلات ماريا".‏

بعد ذلك لم أتصل بماريا، ولم تتصل ماريا بي.‏

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:51 PM
أســـطورة العشق

حين قرأ القاضي الحكم، نهضت عن كرسيها وصرخت: "غير ممكن"، وركضت نحو طاولة رئيس المحكمة.‏

نظر إليها القاضي غاضباً. قال محامي الدفاع بابتسامة خفيفة ووجه هادئ القسمات: "اهدئي يا سيدة".‏

"ليس ممكناً ففؤاد لا يمكن أن يوقّع".‏

قال محامي الدفاع ببرود: "تعالي هنا أنا أريك".‏

نظرت إلى محامي الدفاع بتردد وسألت بلهجة غير مصدقة:‏

"هل وقّع فؤاد؟"‏

قال القاضي: "نعم يا سيدتي لقد وقّع".‏

"ذلك غير ممكن، إنكم تكذبون".‏

نهض الأب من مكانه وقال: "كوني عاقلة يا ابنتي".‏

أخذ محامي الدفاع وثيقة الزواج عن الطاولة واتجه نحوها: "لا تحدثي ضجة يا سيدة أفسانه، هذا أيضاً إمضاء السيد فؤاد".‏

ضربت الوثيقة، أحسّت سقف المحكمة الآجري العالي يدور حول رأسها، أحست كل شيء أسود اللون في ناظريها.‏

-"ليس هذا معقولاً".‏

كبتت غضبها وفرّت من مبنى المحكمة، كان صوت أقدامها في وسط سكوت المحكمة يحدث صوتاً مسموعاً.‏

كانت روائح السجائر الحادة تفوح في فضاء المحكمة.‏

صرخ الوالد: "أين تذهبين يا أفسانه؟" وركض خلفها قال محامي الدفاع بصوت مرتفع "اتركها.. دعها وحدها للحظة".‏

قالت الأم: "سوف تصيبني هذه البنت بالجنون في النهاية".. وبكت.‏

قال رئيس المحكمة: "سوف يحصل خير يا سيدتي! عندما تقطع الأمل.."‏

عاد الأب لاهثاً إلى بناء المحكمة:‏

"لقد غابت.. قطعة من النار" وجلس على الكرسي.‏

نهضت الأم مضطربة: "قد تفعل بنفسها شيئاً لا قدر الله".‏

قال وكيل الدفاع: "ليست طفلة يا سيدتي!"‏

تنهّد الأب بشدة وقال: "كنت كل العمر أنظر إليها وهي تكبر.. كم عقدت آمالاً.. كلها ذهبت أدراج الرياح".‏

قال القاضي: "لم يحصل شيء.. المهم أن الحكم قد نفذ والحمد لله قد رضي السيد فؤاد.. بعد ذلك ليس لديكم مشكلة".‏

قال محامي الدفاع: "سوف تصبح دكتورة بعد ثلاث سنوات".‏

قالت الأم: "كان حولها عدة أشخاص مرموقين".‏

قال محامي الدفاع: "إذن لماذا أنت منزعجة"؟‏

قالت الأم: "إنها عنيدة.. أخاف" ذعرت والتفتت نحو الأب وقالت: "أين ذهبت؟ ربما.."‏

قال الأب: "لا أعرف، فتشت عنها لم أجدها" وبلل شفتيه الجافتين بلسانه..‏

قال كاتب المحكمة: "أحضروا الشاي"‏

سأل محامي الدفاع: "ماذا سيحصل للسيد فؤاد؟"‏

قال الأب: "من المقرّر أن يأتوا من المصحّة ليأخذوه"‏

مكث قليلاً وقال: "سوف أدفع نفقاته بنفسي"‏

أحضر صبي ذو شعر أشعث وأيدٍ سوداء عدة كؤوس من الشاي، وضعها على الطاولة وذهب..‏

سألت الأم: "في أي ساعة سيأتون؟ لا نريد أن يبقى السيد فؤاد وحده طويلاً"‏

قال الأب بلهجة آمرة: "من المقرّر أن يرتبوا الأمر في هذه الساعة التي عقدت فيها جلسة المحكمة، لا أريد أن تراه أفسانة ثانية".‏

قالت الأم بانزعاج: "مسكينة أفسانه! قلبها عند السيد فؤاد".‏

قال القاضي: "إن القلب كل يوم يتغيّر، فلا تقلقي يا سيدتي"‏

قال محامي الدفاع "ستكون الأيام الأولى صعبة بالنسبة لها اشغلوها بشيء آخر بسرعة".‏

قال الأب: "هي بنت عنيدة"‏

قالت الأم: "كم زجرها والدها عند زواجها بالسيد فؤاد"‏

سأل محامي الدفاع: "ألم تكونوا راضين؟"‏

قال الأب: "لا ياسيدي! أين نحن وأين السيد فؤاد! ليس لديه أسرة عريقة ولا مال، لم يكن لديه سوى عدة كتب، حتى هذا البيت كنت قد اشتريته لهم لحفظ ماء الوجه".‏

قرع جرس المحكمة ودخلت جماعة كبيرة، وقّع الرئيس الوثيقة وختمها وسلّمها للوالد: "مبارك إن شاء الله".‏

قال الأب بوجه عابس منقبض: "أتبارك لنا على الطلاق؟"‏

قال رئيس المحكمة بحرج: "كان توفيقاً بالنسبة لكم، لقد سعيتم سنتين من أجله يا سيدي".‏

لفّ الأب الوثيقة بقماشة وقال: "هو كذلك" وودّعهم جرى صبي وراءه: "إنعام يا سيدي".‏

عندما اندفعت من المحكمة كانت تبكي بكل وجودها، كانت بنتاً محجوبة، لم تعتد أبداً الكلام بصوت عال. ولم يكن أحد أيضاً قد رأى بكاءها، كل ما كان كان في داخلها ووحدها، ورغم علاقتها القوية والقريبة بفؤاد ما كانت تظهر نفسها لـه أبداً، كان فؤاد يقول لها: "إنك بنت محافظة".‏

كانت الأوراق الصفراء تخشخش تحت قدميها، وكان نعيب الغربان يزعجها أكثر من صوت الضجيج وأبواق السيارات، كانت تمسك بعباءتها على وجهها وتركض "لماذا سلّم فؤاد؟"‏

كانت قد مشّطت شعرها ليلة الأمس، زينت وجهها بعض الشيء، وقفت مقابل المرآة ووضعت القرطين اللذين أهداها فؤاد إياهما ليلة العقد في أذنيها، وكانت قد اشترت لفؤاد باقة ورد مريم مع أعشاب صحراوية وحشية، وضعتها داخل مزهرية مقابل سرير فؤاد، كان طائر العشق يغرّد في القفص، وضعت كأسين من البوظة في الصينية، وجلست جانب فؤاد، على حافة سريره، كان فؤاد مقطب الجبين، لم يكن يضحك وضعت ملعقة من البوظة داخل فم فؤاد، كان ساكتاً وينظر من النافذة إلى الخارج، كانت السماء غائمة، قالت أفسانة: "ألا تنظر‏

إليّ"‏

كان فؤاد ساكتاً "أحصل شيء ما؟"‏

-"لا!"‏

برقت السماء واهتزّ الزجاج‏

سألت ثانية: "أحصل شيء؟"‏

دفع فؤاد ملعقة البوظة إلى الخلف وقال"كان والدك هنا".‏

-"حسناً!"‏

-"غداً يوم الجلسة في المحكمة"‏

-"أعلم"‏

نظر إليها بتعجب: "تعلمين!"‏

-"أعلم"‏

-"لماذا لم تخبريني بشيء"‏

-أردت أن أخبرك الليلة"‏

سكت كلاهما، حدّقت أفسانه بأزهار مريم، وفؤاد يحدق بالمطر الذي كان ينزلق على الزجاج، سألت: "ماذا قال أبي".‏

كان فؤاد ساكتاً.‏

-"بالتأكيد مرة أخرى من أجل الطلاق"‏

هزّ فؤاد رأسه.‏

"حسناً، أنت ماذا قلت؟"‏

لم يجب بشيء، نظرت إليه أفسانه بحيرة، قال: "من المقرر أن يأتيا غداً صباحاً هنا من أجل التوقيع".‏

قالت أفسانه باضطراب "أنت لن توقّع؟"‏

-"إذا أجبرت"‏

نظر إليها فؤاد "كان والدك منزعجاً جداً"‏

-"ليكن"‏

-"ليس مهماً بالنسبة إليك؟"‏

-"لا"‏

-"إنه والدك"‏

-"وإن كان والدي، فسوف يرجح رغبتي على رغبته"‏

-إنه يريد صالحك"‏

-"مصلحتي في كوني معك"‏

سكت فؤاد طأطأت أفسانة رأسها إلى الأسفل.. ابتلت‏

عيناها.. قالت: "إنهم يؤذونني منذ سنتين".‏

قال فؤاد: "عندهم حق".‏

اضطربت أفسانه: "أنت أيضاً؟"‏

نظر فؤاد إليها بحنان: "كوني منطقيّة!".‏

-"العشق لا يعرف المنطق".‏

حدّق فؤاد بأزهار مريم، قالت أفسانه: "هل وصلت أنت إلى اليوم بالمنطق؟".‏

-"القضية تختلف".‏

-"لا تختلف أبداً، العشق لا يعرف المصلحة".‏

ثم سحبت يدها على يدي فؤاد وقدميه.‏

-"ألم تكن هاتان القدمان تجريان؟، ألم تكن هاتان اليدان تكتبان؟، إذن لم وصلنا إلى هذا اليوم؟".‏

-"كان عليّ أن أذهب!".‏

-"وأنا أيضاً يجب أن أبقى!".‏

-"حرام من أجلك".‏

-"ألم يكن ذاك حرام أيضاً من أجلك".‏

اضطرب فؤاد: "لا تجادليني".‏

"لقد أصبتني بالاضطراب يا فؤاد".‏

سمّر فؤاد نظره بالمطر الذي يهطل، قال: "إنك تستطيعين أن تكوني أماً".‏

"أنت أيضاً كان بإمكانك أن تكون أباً".‏

"بعد يومين ستحصلين على الدكتوراه، ستصبحين شخصية مرموقة، ماذا تفعلين بزوج عليل، غضبت أفسانه: "ليتك تفهم أنت أيضاً!".‏

ضربت الباب وخرجت من الغرفة، كان قلبها مضطرباً، كانت تعرف رجولة فؤاد، وكانت تخاف.‏

-"يا سيد فؤاد: إن كنت تريد سعادة أفسانه فطلقها".‏

توقفت سيارة أمام قدميها.‏

- "يا سيدة! إن كنت لا ترحمين نفسك لا أقلّ ارحمينا نحن..."‏

-لم تقل شيئاً، طأطأت رأسها واستدارت بسرعة.‏

كان الطريق ساعة من المحكمة إلى البيت، كانت قد استجمعت كل طاقتها وصارت تجري، أدخلت يدها في حقيبتها، أخذت المفتاح، إنها تذكر أن والدها قبل مدة كان يتحدث عن مصحّ خصوصي وحديث، زادت من سرعة جريها: "قد يأخذوه!".‏

عندما وصلت إلى رأس الشارع، لفتت نظرها سيارة المصحّ.‏

جرت بتمام وجودها، كانت تركض كطفل ضائع يجري خلف أمه.‏

كان رجلان بلباس أبيض يرفعان سريراً عن الدرج، دفعتهما إلى الخلف وصعدت إلى الدرج.‏

"بالتأكيد قد أعطاهم والدها المفتاح".‏

كان باب الممّر مفتوحاً، فزعت، ركضت داخل الغرفة كان ممرضان يجمعان أشياء فؤاد، كانا قد وضعا كتبه داخل صندوق من الكارتون ولباسه في حقيبة وفؤاد ملقى على السرير.‏

كظمت غيظها وصرخت: "لن أدعكم تأخذوه، محال! هنا بيتي، اذهبوا خارجاً".‏

نظر إليها الممرضون بغضب.‏

قال فؤاد: "لا تصرخي كالأطفال يا أفسانه! كل شيء قد انتهى".‏

-"إنك بلا رحمة".‏

-"إنني أريد صالحك".‏

-"أنت لا تفهم، أبي لا يفهم، لا أحد يفهم".‏

اندفعت من الغرفة، غسلت وجهها حاولت أن تكون هادئة، كان معها شيء من النقود في الحقيبة عادت إلى الغرفة.‏

قال فؤاد: "لا تتصرفي كالأطفال يا أفسانه".‏

حاورت الممرضين وأوضحت لهم واعتذرت وأعطتهم مالاً مقابل أتعابهم وودعتهم إلى الباب، أحكمت إغلاق الباب خلفهم وأقفلته.‏

جلست في ذاك المكان، على أول درجة، كانت تلهث، كانت تركض منذ الصباح باستمرار "كم كان يوماً مرّاً!".‏

وضعت رأسها على ركبتها، كانت تحس أنّها كمرآة انكسرت وتبعثرت كل قطعة منها في جهة، لم تكن تصدق أن فؤاداً سيوقِّع، كانا قد بارزا كل المصاعب لمدة سنتين، لكنها لم تكن منكسرة كاليوم "إنني أريد صالحك".‏

إنك لا تعرف معنى المصلحة، لا في ذاك اليوم الذي كانت قد تشاجرت فيه مع والدها من أجل فؤاد ولا اليوم حيث أرادوا فصلها عن فؤاد، مسحت دموعها وصعدت الدرج بهدوء، حاولت أن تضبط نفسها، كانت تتمنى لو تبكي بصوت عال، لكن هدّأت من توترها، دخلت الصالة، وقفت خلف باب الغرفة، لم تستطع الدخول، كان إحساس مبهم يشدها إلى الخلف.‏

"هل فؤاد يحبها أيضاً؟".‏

كان ترديداً مرّاً أصاب رأسها بالدوار، لم تتردد في حب فؤاد كل هذه المدة، كان دفء محبة فؤاد مرهماً لآلمها ومصاعبها خلال سنتين.‏

"لماذا سلّم فؤاد للظروف فجأة؟".‏

ناداها فؤاد: "أفسانه".‏

هزّت نبرة صوته وجودها.‏

دخلت الغرفة مترددة، اتكأت إلى الجدار وطأطأت رأسها إلى الأسفل كانت تعرف أن هناك حاجزاً بينها وبين فؤاد، كانت تحس بالخجل نفسه الذي كانت تحس به عند كلامها مع رجل غريب، تصبب وجهها عرقاً، قال فؤاد بثبات: "ماذا تريدين أن تفعلي؟".‏

لم تجبه، قال فؤاد: "انتهى كل شيء، لا توقعي نفسك في الحرام".‏

أجابت بخجل وبهدوء: "أحبك يا فؤاد".‏

"أنا لا أفيدك بشيء.. حرام من أجلك.. تستطيعين أن تكوني سعيدة، أن تكوني أماً لأطفال، أن تركضي، أن تجلسي، أن تدرسي، تستطيعين فعل أي شيء.. أما أنا! ماذا يمكنني أن أفعل! عالة، محتاج، لا أنفع لشيء، لم تريدين أن تظلمي نفسك من أجلي، إن ممرضة يمكنها القيام بعملك، اذهبي.. اذهبي من عندي.. في ذاك اليوم الذي تزوجنا فيه لم أفكّر في يوم كهذا.. في ذاك اليوم الذي كنت أتمنى أن أكون أفضل زوج لك، وعدت والدك برجولة أن أجبر كل النقصان.. أبوك على حق، صرف عمره يرعاك، وعقد عليك آلاف الآمال والأحلام.‏

كيف سيتحمل أن تضع ابنته المتعلمة الطشت تحت قدمي رجل مقعد وترفعه! كيف يحتمل رؤية ابنته تعيش مع رجل لا يستطيع حتى أن يضع طعامه في فمه، اذهبي يا أفسانه أبوك على حق، القاضي على حق، محامي الدفاع على حق، اذهبي، لا تخربي حياتك".‏

صرخت أفسانه: "يكفي هذا!".‏

"دعيني أقول ما عندي، كنت ألاحظ لمدة سنتين، كنت أتجرع دماء قلبي، كنت أرى وجهك الجميل النضر وأتألم، كنت تمشطين شعرك الطويل الشفاف أمامي وحتى لم أستطع ملامسته، سنتان، من الصباح إلى المساء كنت تركضين وأنا فقط أنظر. لا تعذبيني أكثر من هذا يا أفسانه، إن كنت تفهمين العشق، أنا أيضاً أفهمه، إن كنت تحبيني، أنا أيضاً أحبك، لا أستطيع أن أرى تحطّمك، إنك شابة، جميلة، نضرة، انظري هذه الزهرة، إن لم ترويها بالماء ستذبل، تجف، تموت، أنت أيضاً مثل هذه الزهور تحتاجين الماء، تحتاجين النور، ماذا أستطيع أن أعطيك غير التعب...".‏

صرخت أفسانه ثانية: "يكفي هذا".‏

"لا تفكري بي.. الله كبير، من يعلم، ربما يكون المصح أفضل لي، ربما أتعرف هناك على أصدقاء جدد، ربما يكون الممرضون جيدين...".‏

-"أتستعيض عني بممّرضة؟".‏

"لم لا تفهميني؟ إنني لا أستبدل شعرة منك بكل الدنيا!‏

لكن لا أستطيع أن أرى عذابك أكثر من هذا!"‏

-"أي عذاب! لقد وجدت أفضل نضج لي إلى جانبك!"‏

"لا تطلقي شعارات يا أفسانه!"‏

"إنني لا أطلق شعارات! أقول حقيقة! لقد كنت لي أفضل صديق، في ذاك اليوم الذي تزوجتك فيه، راقني قدّك وطولك، أأتركك اليوم من أجله، دع كل عشاق الدنيا يقولون ويكتبون عن جمال وحسن وجوه معشوقيهم، لكني أرى الجمال ليس في جسمك بل في سمة روحك! لا أحد يفهم، أنت تفهم، لا أحد يعلم، أنت تعلم، أنت تعيش بالعشق، لقد وصلت إلى يوم كهذا نتيجة العشق، إن العشق يكسر كل المعادلات والقواعد المألوفة، ربما‏

ما يقولـه أبي حقيقة، لكن هذا المعنى صحيح ما دام يخضع لأساس وقاعدة وقانون.‏

إن ما يجري في داخلي أوسع من هذه المعادلات، أوسع من فكر المصلحة هذا، ليس هناك طلب منفعي في العشق".‏

وضبطت نفسها، حدّقت بأزهار مريم وقالت:‏

"أتذكر كيف كنت تقول لي دوماً إنه حتى الموت لن يسلبك مني!".‏

أدار فؤاد وجهه إلى الجدار، وانكسر غضبه في حنجرته، تمتمت أفسانه: "إن ذهب قلبي خلف الحسان فهو معذور... إن فيه مرضاً فماذا يفعل...".‏

وكسر صوت ما كلامها، قطعه صوت ممتد ومتواصل.. كان طائرا العشق يغرّدان في القفص.

عاصفة نجد
29-05-2006, 03:56 PM
أســـطورة العشق

حين قرأ القاضي الحكم، نهضت عن كرسيها وصرخت: "غير ممكن"، وركضت نحو طاولة رئيس المحكمة.‏

نظر إليها القاضي غاضباً. قال محامي الدفاع بابتسامة خفيفة ووجه هادئ القسمات: "اهدئي يا سيدة".‏

"ليس ممكناً ففؤاد لا يمكن أن يوقّع".‏

قال محامي الدفاع ببرود: "تعالي هنا أنا أريك".‏

نظرت إلى محامي الدفاع بتردد وسألت بلهجة غير مصدقة:‏

"هل وقّع فؤاد؟"‏

قال القاضي: "نعم يا سيدتي لقد وقّع".‏

"ذلك غير ممكن، إنكم تكذبون".‏

نهض الأب من مكانه وقال: "كوني عاقلة يا ابنتي".‏

أخذ محامي الدفاع وثيقة الزواج عن الطاولة واتجه نحوها: "لا تحدثي ضجة يا سيدة أفسانه، هذا أيضاً إمضاء السيد فؤاد".‏

ضربت الوثيقة، أحسّت سقف المحكمة الآجري العالي يدور حول رأسها، أحست كل شيء أسود اللون في ناظريها.‏

-"ليس هذا معقولاً".‏

كبتت غضبها وفرّت من مبنى المحكمة، كان صوت أقدامها في وسط سكوت المحكمة يحدث صوتاً مسموعاً.‏

كانت روائح السجائر الحادة تفوح في فضاء المحكمة.‏

صرخ الوالد: "أين تذهبين يا أفسانه؟" وركض خلفها قال محامي الدفاع بصوت مرتفع "اتركها.. دعها وحدها للحظة".‏

قالت الأم: "سوف تصيبني هذه البنت بالجنون في النهاية".. وبكت.‏

قال رئيس المحكمة: "سوف يحصل خير يا سيدتي! عندما تقطع الأمل.."‏

عاد الأب لاهثاً إلى بناء المحكمة:‏

"لقد غابت.. قطعة من النار" وجلس على الكرسي.‏

نهضت الأم مضطربة: "قد تفعل بنفسها شيئاً لا قدر الله".‏

قال وكيل الدفاع: "ليست طفلة يا سيدتي!"‏

تنهّد الأب بشدة وقال: "كنت كل العمر أنظر إليها وهي تكبر.. كم عقدت آمالاً.. كلها ذهبت أدراج الرياح".‏

قال القاضي: "لم يحصل شيء.. المهم أن الحكم قد نفذ والحمد لله قد رضي السيد فؤاد.. بعد ذلك ليس لديكم مشكلة".‏

قال محامي الدفاع: "سوف تصبح دكتورة بعد ثلاث سنوات".‏

قالت الأم: "كان حولها عدة أشخاص مرموقين".‏

قال محامي الدفاع: "إذن لماذا أنت منزعجة"؟‏

قالت الأم: "إنها عنيدة.. أخاف" ذعرت والتفتت نحو الأب وقالت: "أين ذهبت؟ ربما.."‏

قال الأب: "لا أعرف، فتشت عنها لم أجدها" وبلل شفتيه الجافتين بلسانه..‏

قال كاتب المحكمة: "أحضروا الشاي"‏

سأل محامي الدفاع: "ماذا سيحصل للسيد فؤاد؟"‏

قال الأب: "من المقرّر أن يأتوا من المصحّة ليأخذوه"‏

مكث قليلاً وقال: "سوف أدفع نفقاته بنفسي"‏

أحضر صبي ذو شعر أشعث وأيدٍ سوداء عدة كؤوس من الشاي، وضعها على الطاولة وذهب..‏

سألت الأم: "في أي ساعة سيأتون؟ لا نريد أن يبقى السيد فؤاد وحده طويلاً"‏

قال الأب بلهجة آمرة: "من المقرّر أن يرتبوا الأمر في هذه الساعة التي عقدت فيها جلسة المحكمة، لا أريد أن تراه أفسانة ثانية".‏

قالت الأم بانزعاج: "مسكينة أفسانه! قلبها عند السيد فؤاد".‏

قال القاضي: "إن القلب كل يوم يتغيّر، فلا تقلقي يا سيدتي"‏

قال محامي الدفاع "ستكون الأيام الأولى صعبة بالنسبة لها اشغلوها بشيء آخر بسرعة".‏

قال الأب: "هي بنت عنيدة"‏

قالت الأم: "كم زجرها والدها عند زواجها بالسيد فؤاد"‏

سأل محامي الدفاع: "ألم تكونوا راضين؟"‏

قال الأب: "لا ياسيدي! أين نحن وأين السيد فؤاد! ليس لديه أسرة عريقة ولا مال، لم يكن لديه سوى عدة كتب، حتى هذا البيت كنت قد اشتريته لهم لحفظ ماء الوجه".‏

قرع جرس المحكمة ودخلت جماعة كبيرة، وقّع الرئيس الوثيقة وختمها وسلّمها للوالد: "مبارك إن شاء الله".‏

قال الأب بوجه عابس منقبض: "أتبارك لنا على الطلاق؟"‏

قال رئيس المحكمة بحرج: "كان توفيقاً بالنسبة لكم، لقد سعيتم سنتين من أجله يا سيدي".‏

لفّ الأب الوثيقة بقماشة وقال: "هو كذلك" وودّعهم جرى صبي وراءه: "إنعام يا سيدي".‏

عندما اندفعت من المحكمة كانت تبكي بكل وجودها، كانت بنتاً محجوبة، لم تعتد أبداً الكلام بصوت عال. ولم يكن أحد أيضاً قد رأى بكاءها، كل ما كان كان في داخلها ووحدها، ورغم علاقتها القوية والقريبة بفؤاد ما كانت تظهر نفسها لـه أبداً، كان فؤاد يقول لها: "إنك بنت محافظة".‏

كانت الأوراق الصفراء تخشخش تحت قدميها، وكان نعيب الغربان يزعجها أكثر من صوت الضجيج وأبواق السيارات، كانت تمسك بعباءتها على وجهها وتركض "لماذا سلّم فؤاد؟"‏

كانت قد مشّطت شعرها ليلة الأمس، زينت وجهها بعض الشيء، وقفت مقابل المرآة ووضعت القرطين اللذين أهداها فؤاد إياهما ليلة العقد في أذنيها، وكانت قد اشترت لفؤاد باقة ورد مريم مع أعشاب صحراوية وحشية، وضعتها داخل مزهرية مقابل سرير فؤاد، كان طائر العشق يغرّد في القفص، وضعت كأسين من البوظة في الصينية، وجلست جانب فؤاد، على حافة سريره، كان فؤاد مقطب الجبين، لم يكن يضحك وضعت ملعقة من البوظة داخل فم فؤاد، كان ساكتاً وينظر من النافذة إلى الخارج، كانت السماء غائمة، قالت أفسانة: "ألا تنظر‏

إليّ"‏

كان فؤاد ساكتاً "أحصل شيء ما؟"‏

-"لا!"‏

برقت السماء واهتزّ الزجاج‏

سألت ثانية: "أحصل شيء؟"‏

دفع فؤاد ملعقة البوظة إلى الخلف وقال"كان والدك هنا".‏

-"حسناً!"‏

-"غداً يوم الجلسة في المحكمة"‏

-"أعلم"‏

نظر إليها بتعجب: "تعلمين!"‏

-"أعلم"‏

-"لماذا لم تخبريني بشيء"‏

-أردت أن أخبرك الليلة"‏

سكت كلاهما، حدّقت أفسانه بأزهار مريم، وفؤاد يحدق بالمطر الذي كان ينزلق على الزجاج، سألت: "ماذا قال أبي".‏

كان فؤاد ساكتاً.‏

-"بالتأكيد مرة أخرى من أجل الطلاق"‏

هزّ فؤاد رأسه.‏

"حسناً، أنت ماذا قلت؟"‏

لم يجب بشيء، نظرت إليه أفسانه بحيرة، قال: "من المقرر أن يأتيا غداً صباحاً هنا من أجل التوقيع".‏

قالت أفسانه باضطراب "أنت لن توقّع؟"‏

-"إذا أجبرت"‏

نظر إليها فؤاد "كان والدك منزعجاً جداً"‏

-"ليكن"‏

-"ليس مهماً بالنسبة إليك؟"‏

-"لا"‏

-"إنه والدك"‏

-"وإن كان والدي، فسوف يرجح رغبتي على رغبته"‏

-إنه يريد صالحك"‏

-"مصلحتي في كوني معك"‏

سكت فؤاد طأطأت أفسانة رأسها إلى الأسفل.. ابتلت‏

عيناها.. قالت: "إنهم يؤذونني منذ سنتين".‏

قال فؤاد: "عندهم حق".‏

اضطربت أفسانه: "أنت أيضاً؟"‏

نظر فؤاد إليها بحنان: "كوني منطقيّة!".‏

-"العشق لا يعرف المنطق".‏

حدّق فؤاد بأزهار مريم، قالت أفسانه: "هل وصلت أنت إلى اليوم بالمنطق؟".‏

-"القضية تختلف".‏

-"لا تختلف أبداً، العشق لا يعرف المصلحة".‏

ثم سحبت يدها على يدي فؤاد وقدميه.‏

-"ألم تكن هاتان القدمان تجريان؟، ألم تكن هاتان اليدان تكتبان؟، إذن لم وصلنا إلى هذا اليوم؟".‏

-"كان عليّ أن أذهب!".‏

-"وأنا أيضاً يجب أن أبقى!".‏

-"حرام من أجلك".‏

-"ألم يكن ذاك حرام أيضاً من أجلك".‏

اضطرب فؤاد: "لا تجادليني".‏

"لقد أصبتني بالاضطراب يا فؤاد".‏

سمّر فؤاد نظره بالمطر الذي يهطل، قال: "إنك تستطيعين أن تكوني أماً".‏

"أنت أيضاً كان بإمكانك أن تكون أباً".‏

"بعد يومين ستحصلين على الدكتوراه، ستصبحين شخصية مرموقة، ماذا تفعلين بزوج عليل، غضبت أفسانه: "ليتك تفهم أنت أيضاً!".‏

ضربت الباب وخرجت من الغرفة، كان قلبها مضطرباً، كانت تعرف رجولة فؤاد، وكانت تخاف.‏

-"يا سيد فؤاد: إن كنت تريد سعادة أفسانه فطلقها".‏

توقفت سيارة أمام قدميها.‏

- "يا سيدة! إن كنت لا ترحمين نفسك لا أقلّ ارحمينا نحن..."‏

-لم تقل شيئاً، طأطأت رأسها واستدارت بسرعة.‏

كان الطريق ساعة من المحكمة إلى البيت، كانت قد استجمعت كل طاقتها وصارت تجري، أدخلت يدها في حقيبتها، أخذت المفتاح، إنها تذكر أن والدها قبل مدة كان يتحدث عن مصحّ خصوصي وحديث، زادت من سرعة جريها: "قد يأخذوه!".‏

عندما وصلت إلى رأس الشارع، لفتت نظرها سيارة المصحّ.‏

جرت بتمام وجودها، كانت تركض كطفل ضائع يجري خلف أمه.‏

كان رجلان بلباس أبيض يرفعان سريراً عن الدرج، دفعتهما إلى الخلف وصعدت إلى الدرج.‏

"بالتأكيد قد أعطاهم والدها المفتاح".‏

كان باب الممّر مفتوحاً، فزعت، ركضت داخل الغرفة كان ممرضان يجمعان أشياء فؤاد، كانا قد وضعا كتبه داخل صندوق من الكارتون ولباسه في حقيبة وفؤاد ملقى على السرير.‏

كظمت غيظها وصرخت: "لن أدعكم تأخذوه، محال! هنا بيتي، اذهبوا خارجاً".‏

نظر إليها الممرضون بغضب.‏

قال فؤاد: "لا تصرخي كالأطفال يا أفسانه! كل شيء قد انتهى".‏

-"إنك بلا رحمة".‏

-"إنني أريد صالحك".‏

-"أنت لا تفهم، أبي لا يفهم، لا أحد يفهم".‏

اندفعت من الغرفة، غسلت وجهها حاولت أن تكون هادئة، كان معها شيء من النقود في الحقيبة عادت إلى الغرفة.‏

قال فؤاد: "لا تتصرفي كالأطفال يا أفسانه".‏

حاورت الممرضين وأوضحت لهم واعتذرت وأعطتهم مالاً مقابل أتعابهم وودعتهم إلى الباب، أحكمت إغلاق الباب خلفهم وأقفلته.‏

جلست في ذاك المكان، على أول درجة، كانت تلهث، كانت تركض منذ الصباح باستمرار "كم كان يوماً مرّاً!".‏

وضعت رأسها على ركبتها، كانت تحس أنّها كمرآة انكسرت وتبعثرت كل قطعة منها في جهة، لم تكن تصدق أن فؤاداً سيوقِّع، كانا قد بارزا كل المصاعب لمدة سنتين، لكنها لم تكن منكسرة كاليوم "إنني أريد صالحك".‏

إنك لا تعرف معنى المصلحة، لا في ذاك اليوم الذي كانت قد تشاجرت فيه مع والدها من أجل فؤاد ولا اليوم حيث أرادوا فصلها عن فؤاد، مسحت دموعها وصعدت الدرج بهدوء، حاولت أن تضبط نفسها، كانت تتمنى لو تبكي بصوت عال، لكن هدّأت من توترها، دخلت الصالة، وقفت خلف باب الغرفة، لم تستطع الدخول، كان إحساس مبهم يشدها إلى الخلف.‏

"هل فؤاد يحبها أيضاً؟".‏

كان ترديداً مرّاً أصاب رأسها بالدوار، لم تتردد في حب فؤاد كل هذه المدة، كان دفء محبة فؤاد مرهماً لآلمها ومصاعبها خلال سنتين.‏

"لماذا سلّم فؤاد للظروف فجأة؟".‏

ناداها فؤاد: "أفسانه".‏

هزّت نبرة صوته وجودها.‏

دخلت الغرفة مترددة، اتكأت إلى الجدار وطأطأت رأسها إلى الأسفل كانت تعرف أن هناك حاجزاً بينها وبين فؤاد، كانت تحس بالخجل نفسه الذي كانت تحس به عند كلامها مع رجل غريب، تصبب وجهها عرقاً، قال فؤاد بثبات: "ماذا تريدين أن تفعلي؟".‏

لم تجبه، قال فؤاد: "انتهى كل شيء، لا توقعي نفسك في الحرام".‏

أجابت بخجل وبهدوء: "أحبك يا فؤاد".‏

"أنا لا أفيدك بشيء.. حرام من أجلك.. تستطيعين أن تكوني سعيدة، أن تكوني أماً لأطفال، أن تركضي، أن تجلسي، أن تدرسي، تستطيعين فعل أي شيء.. أما أنا! ماذا يمكنني أن أفعل! عالة، محتاج، لا أنفع لشيء، لم تريدين أن تظلمي نفسك من أجلي، إن ممرضة يمكنها القيام بعملك، اذهبي.. اذهبي من عندي.. في ذاك اليوم الذي تزوجنا فيه لم أفكّر في يوم كهذا.. في ذاك اليوم الذي كنت أتمنى أن أكون أفضل زوج لك، وعدت والدك برجولة أن أجبر كل النقصان.. أبوك على حق، صرف عمره يرعاك، وعقد عليك آلاف الآمال والأحلام.‏

كيف سيتحمل أن تضع ابنته المتعلمة الطشت تحت قدمي رجل مقعد وترفعه! كيف يحتمل رؤية ابنته تعيش مع رجل لا يستطيع حتى أن يضع طعامه في فمه، اذهبي يا أفسانه أبوك على حق، القاضي على حق، محامي الدفاع على حق، اذهبي، لا تخربي حياتك".‏

صرخت أفسانه: "يكفي هذا!".‏

"دعيني أقول ما عندي، كنت ألاحظ لمدة سنتين، كنت أتجرع دماء قلبي، كنت أرى وجهك الجميل النضر وأتألم، كنت تمشطين شعرك الطويل الشفاف أمامي وحتى لم أستطع ملامسته، سنتان، من الصباح إلى المساء كنت تركضين وأنا فقط أنظر. لا تعذبيني أكثر من هذا يا أفسانه، إن كنت تفهمين العشق، أنا أيضاً أفهمه، إن كنت تحبيني، أنا أيضاً أحبك، لا أستطيع أن أرى تحطّمك، إنك شابة، جميلة، نضرة، انظري هذه الزهرة، إن لم ترويها بالماء ستذبل، تجف، تموت، أنت أيضاً مثل هذه الزهور تحتاجين الماء، تحتاجين النور، ماذا أستطيع أن أعطيك غير التعب...".‏

صرخت أفسانه ثانية: "يكفي هذا".‏

"لا تفكري بي.. الله كبير، من يعلم، ربما يكون المصح أفضل لي، ربما أتعرف هناك على أصدقاء جدد، ربما يكون الممرضون جيدين...".‏

-"أتستعيض عني بممّرضة؟".‏

"لم لا تفهميني؟ إنني لا أستبدل شعرة منك بكل الدنيا!‏

لكن لا أستطيع أن أرى عذابك أكثر من هذا!"‏

-"أي عذاب! لقد وجدت أفضل نضج لي إلى جانبك!"‏

"لا تطلقي شعارات يا أفسانه!"‏

"إنني لا أطلق شعارات! أقول حقيقة! لقد كنت لي أفضل صديق، في ذاك اليوم الذي تزوجتك فيه، راقني قدّك وطولك، أأتركك اليوم من أجله، دع كل عشاق الدنيا يقولون ويكتبون عن جمال وحسن وجوه معشوقيهم، لكني أرى الجمال ليس في جسمك بل في سمة روحك! لا أحد يفهم، أنت تفهم، لا أحد يعلم، أنت تعلم، أنت تعيش بالعشق، لقد وصلت إلى يوم كهذا نتيجة العشق، إن العشق يكسر كل المعادلات والقواعد المألوفة، ربما‏

ما يقولـه أبي حقيقة، لكن هذا المعنى صحيح ما دام يخضع لأساس وقاعدة وقانون.‏

إن ما يجري في داخلي أوسع من هذه المعادلات، أوسع من فكر المصلحة هذا، ليس هناك طلب منفعي في العشق".‏

وضبطت نفسها، حدّقت بأزهار مريم وقالت:‏

"أتذكر كيف كنت تقول لي دوماً إنه حتى الموت لن يسلبك مني!".‏

أدار فؤاد وجهه إلى الجدار، وانكسر غضبه في حنجرته، تمتمت أفسانه: "إن ذهب قلبي خلف الحسان فهو معذور... إن فيه مرضاً فماذا يفعل...".‏

وكسر صوت ما كلامها، قطعه صوت ممتد ومتواصل.. كان طائرا العشق يغرّدان في القفص.

ثلووج
19-06-2006, 09:49 PM
(عاصفة نجد).. أشكرك على هذه القصص الرائعه

حملتها على الجهاز ... ولي عوده....

نجم
20-06-2006, 12:06 PM
قصه رائعه مظمونها اروع فعلا جميله

الف شكر وغلا لك أختي عاصفه نجد مجهود متعب عليه

وفقك الله وانتظر جديدك

الى اللقاء ...