المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "الدولرة".. احتلال أبدي للعراق


احسـ العالم ـاس
08-08-2003, 07:29 AM
سيادة الدولار لها آثار سلبية على مستقبل الاقتصاد العراقي



في خضم الإجراءات الأخيرة التي قامت بها سلطات الاحتلال بشأن صرف رواتب موظفي الدولة العراقية لشهري آذار (مارس) وحزيران (يونيو) عام 2003 (بالدولار الأمريكي) بدأت التقلبات تلحق بسعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الدينار العراقي، فبعد أن تجاوز 1500 دينار للدولار الواحد في شهر مارس، وبداية يونيو، انخفض ليصل إلى 1300، ثم عاد ليرتفع ويبقى مرهونا بعدد المستفيدين أو الموظفين المستلمين لرواتبهم بالدولار.



هذا الأمر يقع كاهله على الموظف (صاحب الدخل المحدود) الذي طالما حلم باستلام راتب يسد به رمقه، ويفي باحتياجاته دون اللجوء إلى بيع حاجياته أو جزء من حصته التموينية أو اللجوء إلى الانحراف.



وكانت سلطات الاحتلال الأمريكي قد أعلنت عن رواتب الموظفين وتقسيماتها وفقا لسلم الدرجات الوظيفية، بحيث لا تقل عن مائة ألف دينار للدرجة الخامسة والتي حولت إلى 60 دولارا فيما بعد -وهي أدنى الدرجات- ثم الدرجة الرابعة والثالثة وحدد راتبهما بـ 200 ألف دينار عودلت فيما بعد بـ 120 دولارا، ثم الدرجة الثانية والأولى وحدد راتبهما بـ 300 ألف دينار، وعودلت فيما بعد بـ 180 دولارا.



إلا أن الموظفين العراقيين اصطدموا ابتداء بتسلمهم لرواتبهم بعملة فئة (عشرة آلاف) دينار والتي أشاعت جهات مشبوهة عدم قبولها في التداول، فاضطر الموظف لعدم قبولها في التداول، واضطر أيضا لاستبدالها بأقل من قيمتها ليصل سعر الورقة الواحدة فئة عشرة آلاف دينار إلى 7500 دينار، أي أن الموظف خسر حوالي 25% من دخله الشهري، وإذا ما رضخ للمساومة بقبول السعر الأقل للعملة نفسها فإنه قد يدخل في دائرة الحرام؛ لأنه تورط بشكل أو بآخر بنوع من أنواع الربا.



وما كاد يفيق من هذه الصدمة حتى اصطدم بعقبة أخرى وهي تقويم راتبه بالدولار؛ وهو الأمر الذي له خطورته في حالة تحسن سعر الصرف للدينار العراقي، والذي يتوقع استمرار تدهور سعر صرفه بسبب قانون العرض والطلب، واحتمال زيادة العرض من الدولار لاستلام الموظفين لدخولهم الشهرية بالدولار، واضطرارهم لاستبدالها بالعملة العراقية لسد حاجاتهم اليومية ما لم تصدر قرارات جديدة عن سلطة الاحتلال.



حقائق نقدية



وقد يقول قائل: إن انخفاض سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي ستئول فائدته إلى المستهلك النهائي؛ إلا أن هناك حقائق عدة تنافي هذه النتيجة، منها ضيق السوق المحلية وارتفاع سعر بعض السلع الضرورية وتحول سعرها إلى الدينار العراقي بعد أن كان مقوما بأسعار الدولار، وعلى سبيل التوضيح فإن سعر مولدة الكهرباء وهي حاجة ذات طلب ملح في ظل تدهور أوضاع الطاقة الكهربائية ذات القدرة 3.5 كيلوات كان سعرها 350 دولارا عند بداية اندلاع الحرب أي ما يعادل مليون دينار عراقي.



وعندما انخفض سعر صرف الدولار ارتفع سعرها ليتم بيعها بحوالي 650 دولارا، محاولة من البائع للحفاظ على السعر الذي يحصل عليه بالدينار العراقي إضافة إلى زيادة الطلب على هذه السلعة، وهذا ما يرجع لقانون الطلب المعروف اقتصاديا.



وإذا كانت هذه المظاهر السابقة قد بدت واضحة لسيادة الدولار في السوق النقدية العراقية بعد الاحتلال، فالمتوقع هو أبعد من ذلك، وهو سير الاقتصاد العراقي قدما في فلك الدولرة، وهي عملية قد تلحق آثارا كبيرة في الاقتصاد العراقي وعلى فئات المجتمع المختلفة في آن واحد، وتؤدي لاحتلال أبدي يدوم ما دامت هذه الدولرة موجودة، حتى بعد زوال الاحتلال العسكري الأمريكي عن بلدنا، وهذا ما نحاول تسليط الضوء عليه هنا بصورة مختصرة.



فالدولرة ظاهرة اقتصادية عرفتها بلدان العالم النامي منذ مدة طويلة، ويقصد بها حيازة المتعاملين في سوق دولة ما لجزء كبير من أصولهم أو موجوداتهم مقومة بالعملة الأجنبية (الدولار)، ووفقا لذلك فإن غالبية المعاملات ستتم بالدولار، سواء كانت متعلقة بالبيع أو الشراء أو الإيداع والسحب والاستيراد والتصدير إلى آخره.



ونلاحظ شيوع هذه السمة على نطاق كبير في معظم اقتصاديات الدول النامية كنتيجة طبيعية لظاهرة عدم الاستقرار الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم ورغبة أصحاب الأموال المقيمين في تنويع أرصدتهم وحمايتها خشية حدوث تقلبات حادة في أسعار صرف العملات المحلية، كما حدث في العراق عام 1996 بعد توقيع اتفاق النفط مقابل الغذاء.



ولمزيد من التوضيح فقد وصل سعر الدولار إلى 3 آلاف دينار عراقي أواخر عام 1995، وما إن أعلنت موافقة العراق على اتفاق النفط مقابل الغذاء حتى انخفض سعر الدولار إلى أقل من 500 دينار؛ الأمر الذي أدى إلى اضطراب السوق العراقية، وحدوث حالات اقتتال بين الدائنين والمدينين، وبين التاجر الرئيسي وتجار التجزئة أيضا، فالسلعة التي كان سعرها دولار واحد تباع في السوق بالدينار العراقي بأكثر من 3 آلاف دينار، وعندما انخفض سعر الصرف للدولار أصبح سعرها لا يزيد عن 500 دينار. فإذا كانت الديون وقتها مقومة بالدولار فلن تكون مشكلة، أما إذا كانت مقومة بالدينار العراقي، فهنا تحدث المشكلة، حيث أصبح ثمن الشراء يفوق معدلات البيع بأضعاف كثيرة.



نعم لقد استفاد الدائن من هذه الحالة إلا أن قدرة المدين على التسديد أصبحت معدومة. ولقد كان هناك حالة مشابهة في دول جنوب شرق آسيا عام 1997 إبان الأزمة المالية. هذه الأمور ألجأت غالبية التجار والمستثمرين إلى التعامل بالدولار الأمريكي، أو كما اصطلح عليه في السوق العراقية بـ"الثابت".



فرض الدولرة



من هنا فإن ظاهرة الدولرة ليست غريبة على الاقتصاد العراقي، وتزامنت مع فرض الحصار الاقتصادي عليه، ومع عقلانية الأسباب التي أدت إلى شيوعها على نطاق البنى الداخلية، فإن هناك عوامل خارجية ساهمت وتساهم في فرض الدولرة، ولا نجافي الحقيقة إذا ما أشرنا إلى أن العولمة الاقتصادية تمارس فرض العولمة من خلال آليتين: الأولى هي زيادة الاندماج بالاقتصاد العالمي لكل بلد، وما يتطلبه هذا من استقرار في سعر الصرف، وهو أمر لا يتوفر في غالبية الدول النامية إلا إذا تم ربط العملة المحلية بعملة أجنبية، ويطلق على هذا الاندماج عادة تسمية "الاندماج النقدي"، أما الاندماج السلعي، أي ما يخص الجانب التجاري، فهو يمثل الآلية الثانية نحو العولمة، والدولرة توفر اندماجا تجاريا أكبر للبلد المدولر، مع اقتصاديات الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم يؤهلها للاندماج بالاقتصاد العالمي تجاريا.



من جهة أخرى مارست الولايات المتحدة ضغوطها، ترغيبا وترهيبا، للدول بصورة منفردة، من أجل شيوع الدولرة، لا سيما بعد ظهور عملة اليورو إلى التداول؛ الأمر الذي يعني احتمال فقدان مكاسب جمة للإدارة الأمريكية في حالة تحول المتعاملين إلى اليورو بدلا من الدولار، وهذا يعني فقدانه الموارد المكتسبة من الولايات المتحدة، وتحولها للاتحاد الأوربي. ورغم قرار الحكومة العراقية السابقة بإحلال اليورو محل الدولار، واتخاذه كاحتياطي رسمي، فقد بقيت آثار هذا القرار محدودة لعدة أسباب منها:



- دخول اليورو للتعامل العالمي عام 2001 أي أن المدة الزمنية غير كافية للتحول إلى اليورو.



- اتفاقيات العراق التجارية كانت تخضع لموافقات الأمم المتحدة والحصة فيها محددة بالدولار الأمريكي.



- سعر النفط محدد عالميا بالدولار وليس باليورو.



آثار سلبية



تنجم عن ظاهرة الدولرة آثار سلبية عديدة في البلد المتحول إليها، لعل أهمها فقدان سيادة الدولة سياسيا واقتصاديا، أما سياسيا فيتجلى من خلال اختفاء العملة المحلية، وإحلال الدولار محلها، مما يمثل تبعية كاملة للولايات المتحدة، أي أن السيادة أصبحت رمزا لا حقيقة له، فسيادة الدولة تكتمل بإعلان عملتها المستقلة الخاصة بها، إذ إن قيمة العملة الوطنية تعد مؤشرا على أداء الاقتصاد المحلي، فكلما كانت عملته قوية دل ذلك على قوة الاقتصاد الوطني وسيطرته على مجريات الأمور لصالحه.



كما أن سلطات الاحتلال، وفقا للمواثيق الدولية، لا يحق لها إصدار عملة للبلد المحتل إلا في حال تشكيل حكومة خاصة بهذا البلد؛ لذا فإنها تسعى لاستخدام الدولار في المعاملات كلها تسهيلا لحساباتها، وبالتالي ترتيبات دمجها للبلد المحتل في اقتصاد المستعمر، كما فعلت بريطانيا سابقا مع "كتلة الإسترليني"، ويعد الاستقلال الاقتصادي مرهونا بقدرة العملة الوطنية على فرض قبولها داخليا وخارجيا دون خضوعها لسلطة عملة أخرى.



أما على نطاق السيادة الاقتصادية فتلحق بالبلد المدولر خسائر فادحة، تبدأ من فقدان الدولة للمزايا التي يمكن الحصول عليها من خلال إصدارها للعملة الخاصة بها، مرورا باضطراب السياستين المالية والنقدية للبلد، لتعلقها بالدولار وتقلباته عالميا وداخليا. وكما ذكرنا آنفا فعلى الرغم من ارتباط الدولرة بحالة التضخم الجامح فإنه لا يمكن التكهن بزوالها بعد تخفيض معدلات التضخم أو معالجته. ففي دول أمريكا اللاتينية، حيث ارتبط الدولار ارتباطا وثيقا بتاريخ ارتفاع معدلات التضخم، وبعدم الاستقرار المالي والنقدي؛ ارتفعت نسبة الودائع بالعملة الأجنبية ارتفاعا حادا في بعض الأحيان، حتى بعد انخفاض معدلات التضخم في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات؛ وهو ما يعني بقاء الاقتصاد مرتبطا بالدولار حتى بعد معالجة التضخم.



لقد عانت البلدان المصدرة للنفط، ومن ضمنها العراق، من خسائر حقيقية جراء التقلبات والتخفيضات التي لحقت بسعر الدولار الأمريكي، ومع تزامن ذلك مع الانكشاف الاقتصادي لهذه البلدان يتبين مقدار الضرر الذي يستنزف الإيرادات التي تحصل عليها من عائد بيع النفط حتى بعد رفع الحصار الاقتصادي.



إن شيوع الدولرة في السوق العراقية قد يؤدي إلى انحسار الدور المستقبلي للعملة العراقية وفقدانها لوظائفها الاقتصادية، لاسيما كونها مقياسا للقيمة؛ وهو ما يعني تعرض المتعاملين لخسائر فادحة تنجم عن تقلبات سعر الصرف، وبقاء الاحتلال متغلغلا في معاملات العراقيين الاقتصادية حتى بعد زواله الظاهري




د.أسامة عبد المجيد العاني- بغداد