المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السطحية وغياب الهدف


المسافر
17-11-2003, 12:19 AM
السطحية وغياب الهدف
سارة بنت عبد المحسن آل جلوي


إن المتأمل في واقع المسلمين المعاصر، ومجريات أحداثه، وتعامل المسلمين أنفسهم مع هذه الأحداث ومجرياتها، وطريقة فهمهم لها، وموقفهم إزاءها، يظهر له بجلاء أن في الأمر خللا؛ لأن الواقع المعاش دليل صريح وعلامة واضحة على هذا الخلل.

لذا، فقد كثر الحديث عن واقع الأمة المسلمة المأسوي، وتعددت وجهات النظر حول تحليل هذا الواقع، وأسبابه، والعوامل المؤثرة فيه، فالبعض ينسبه إلى عوامل خارجية لا يد للمسلمين أنفسهم فيها.

والبعض الآخر، يؤكد بأن السبب الأول والعلة الأصلية كامنة في المسلمين أنفسهم، وهذا الاتجاه الأخير، يفترق في تحديده لتلك العوامل.

فمرة تنسب إلى الانهزامية النفسية، وأخرى إلى البعد عن الإسلام، وثالثة إلى التكالب على الدنيا، ورابعة إلى التخلف العلمي والعجز الثقافي، وخامسة إلى الاستبداد السياسي وانقسام الأمة على نفسها، وسادسة وسابعة... كل يحدد العوامل من منطلق رؤيته الشخصية لها.

والواقع: أن الأزمة أشمل من أن تحصر في عامل واحد، أو تركز في سبب معين؛ بل هي مجموع تلك العوامل والأسباب الداخلية والخارجية جميعها، وزيادة عليها.

ونحن نقول:

إن مشكلة الأمة في حقيقتها تكمن في اعتلال فكرها، وغياب عقلها، وعدم وضوح منهجيتها. أو بعبارة أخرى: عدم استيعابها للمنهاج الذي وضعه لها ربها، وفقدان غايتها، وجماع ذلك: السطحية وغياب الهدف.

يقول علماء المنطق: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إذ لا يمكن الحكم على المجهول.

لذا، فحري بنا قبل تناول موضوع السطحية وغياب الهدف أن نبين ما معنى السطحية؟ وماذا نقصد بغياب الهدف؟

السطحية: هي عكس العمق، فسطح الشيء ظاهره، وسطح البيت أعلاه، والسطح عند الحكماء: هو الذي تكون جميع أجزائه على السواء فلا يكون بعضها أرفع، وبعضها أخفض.

أما السطحية التي نقصدها بموضوعنا فهي:

السطحية الفكرية، أو السطحية العقلية، سطحية العقل والتفكير المتمثلة في التعامل مع ظواهر الأمور، دون التعمق فيها.

أو بعبارة أخرى هي: فهم الأمور بظواهرها الخارجية دون النفاذ إلى دواخلها، ودلالاتها ومكوناتها وأبعادها الأساسية، التي تعين على التصور الكامل والمعرفة الحقيقية للأمور، والحكم الصحيح عليها.

وهو ما نقصده بقولنا: فلان سطحي الفهم، وفلان سطحي التفكير، وفلان سطحي التدين، أو سطحي الإيمان.

أما غياب الهدف:
فالغياب.. ضد الحضور، ومقصدنا هو عدم الوجود في الأصل.

وكلمة الهدف.. لها معان متعددة، منها: كل مرتفع من بناء أو كثيب رمل، أو جبل، ومنه سمي الغرض الذي يرمى هدفاً.

فالهدف: هو الغاية والمقصد، والغرض الذي يسعى إليه المرء ليبلغه ويحققه.

فغياب الهدف إذاً، هو عدم وجود غاية ومقصد وغرض يعمل الإنسان على تحقيقه في هذه الحياة، ويسعى من أجل الوصول إليه.

أما العلاقة بين السطحية وغياب الهدف، وما وصل إليه حال المسلمين اليوم فسنبينه من خلال هذه المقالة، بإذن الله.

أولاً: السطحية:
تعيش الأمة الإسلامية اليوم حالة من الضعف، والوهن، وانحسار الشهود الحضاري، فالظروف الصعبة التي تمر بها، واضطراب موازينها، واختلاط أوراقها، وعجزها عن حل مشكلاتها، والاستفادة من إمكاناتها المادية والمعنوية، فضلاً عن التعامل مع واقعها المعاصر بالصورة المطلوبة التي تؤهلها للقيام بدورها الحضاري في قيادة الأمم والشهود عليها، واستشعار مسؤولياتها في حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض. هذا كله، جعلها تقف في أدنى مرتبة بين الأمم، وتظهر بأقبح صورة، وأسوأ ما يمكن أن تصور به أمة، مما جرّأ أعداءها عليها، وأطمعهم بها، وهون من شأنها في عالم الحضارة المعاصرة.

إن مشكلة المسلم المعاصر لا تكمن في افتقاده للمنهاج الذي يسير عليه، لكنها تكمن في أنه يعاني من أزمة في الفكر، والفهم، في الوسيلة التي يستطيع بها أن يفهم المنهاج الذي شرعه الله في كتابه، وطبقه رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار عليه سلف هذه الأمة الصالح، فكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودان بين يدي المسلم المعاصر، كما كانا بين يدي الرعيل الأول، لكن الاختلاف وقع في كيفية الفهم وحسن التعامل مع هذه النصوص الشرعية، فالقرآن هو القرآن، والسنة هي السنة، والمنهاج هو المنهاج، ولكن أين الفهم الصحيح؟ وأين التعامل الواعي؟ وأين الفقه الحقيقي لذلك كله؟

إذاً فأزمة المسلم المعاصر، هي أزمة فكر ووعي، نتجت حين عطل المسلم عقله، وبدأ يواجه مشكلاته بمنطق الأشياء، لا بمنطق الأفكار، ووقف عاجزاً في عالم تتصارع فيه الأفكار، والعقائد، والسياسيات، والفلسفات، لبسط النفوذ، والتحكم والسيطرة على أكبر جزء من العالم، إن لم يكن العالم كله.

إن مشكلة أو أزمة المسلم المعاصر، تكمن في جمود عالم فكره، وتعطيل ملكات عقله، التي أورثته العجز عن التعامل مع مبادئ عقيدته، ومعطيات الحضارة المعاصرة، من خلال إنزال تلك المبادئ العقدية والقيم الإسلامية الخالدة على الواقع الإنساني المعاصر.

فالنسق الفكري للأمة الإسلامية قد توقف عند حدود العقول السابقة؛ فلا بد لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا، فنعترف بأن العقل الإسلامي المعاصر قد أصيب برضوض، وصدوع، صدته عن المضي إلى غايته، وحالت بينه وبين أداء رسالته.

إن أبرز ملامح الخلل في العقلية المسلمة المعاصرة هي السطحية في فهم الأمور والتعامل معها. وهذه السطحية لها مظاهر كثيرة، نورد بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر، لكنها المظاهر الأقوى تأثيراً في الحياة:

1- جزئية النظرة:
إن النظرة الجزئية التي سيطرت على المسلم، وعملت على إيجاد عقلية التبعيض والتفكك والانشغال بالجزئيات، ووضعها في غير موضعها من سلم التكاليف والأولويات، وغياب الرؤية الكلية الشاملة، التي أسلمت بدورها إلى ظهور التخاذل الفكري، والعجز والانحسار، وأخيراً وضع الأمور في غير مواضعها، وتضخيم جوانب على حساب جوانب أخرى؛ فضعف العطاء، وغاب الإبداع، وعم التقليد، وظهر العجز عن تصنيف الأمور، وتحديد القضايا، وترتيب الأولويات في حياة الفرد والأمة، واختلت القدرة على الموازنة بين الحاجات والإمكانات، وبين الأمنيات والقدرات؛ فكان الفشل والإحباط، وانطفاء الفاعلية، ومن ثم السلبية في التعامل مع الحياة، والفصل بين الإيمان ـ بصفته عقيدة ـ والعمل ـ بصفته تطبيقا لها ـ.

لقد ارتد العقل المسلم الذي وقع فريسة النظرة الجزئية والتبعيض، إلى مرحلة الطفولة العقلية، والتأزم الفكري، وغياب الوعي، وانعدام البعد الثقافي، وشلل الإرادة الفاعلة، وغياب القلق الحضاري والإحساس بالمسؤولية، التي تحرك المسلم باتجاه تحقيق أهداف هذه الأمة وغاياتها التي رسمتها لها رسالة الإسلام الخالدة.

2- التعارض بين الفكر والمنهاج:
إن مشكلة العقل المسلم هي التعارض بين الفكر والمنهاج، وأصل هذا التعارض يعود إلى خطأ في الفهم والإدراك لحقيقة المقاصد الإسلامية، ومراميها.

فأصل المشكلة إذاً: الأزمة الفكرية التي تولدت عنها بقية المشكلات والأزمات، التي لم تكن في حقيقتها إلا نتيجة لها، أو مظهراً من مظاهرها، تمثلت في صور مختلفة من الانحرافات، والانقسامات، والاختلافات الظاهرية التي أوهنت الأزمة، وشتت شملها، وضيعت مجدها، وأضعفت قواها وأطفأت فاعليتها.

3- علاقة العقل بالنص والواقع:
إن الرؤية الإسلامية غير واضحة، حيث يشوبها خلط غير هين بين العقيدة والفكر، أو العقل والنص، حتى بدت كأنها شيء واحد، له القداسة نفسها، والطبيعة نفسها، والأبدية نفسها، يضاف إلى ذلك العوائق النفسية التي روضت العقلية الإسلامية فلم تعد تجرؤ على إمعان النظر، أو التحليل والتدقيق والتعمق المطلوب في التراث الإسلامي، وفهم أبعاده، والتفريق بين الأسس المطلقة الثابتة، والمتغيرات المحدودة بالزمان.

لقد أصبح العقل المسلم أسير مفاهيم سطحية، ومنطلقات جعلته حبيس أخطاء، وانحرافات لم تعد لدية القدرة على فهمها، وتمييزها، فضلاً عن القدرة على تصحيح مسارها وتقويمها في ضوء المقاصد الشرعية الثابتة، فأصبح عاجزاً عن وضع خطاب التكليف في مكانه المطلوب من الحياة، والحكم على الأشياء وإدراك الأولويات، وقراءة الظروف من خلال قيم الكتاب والسنة؛ لأنه قصر نفسه على فهمه الشخصي للإسلام، الفهم الذي اختاره وانتهى إليه، فأصبح هو المقياس الذي يقيس به الأمور. إن هذا الفهم أسلم إلى وجود نوع من الإرهاب الفكري، والتعصب الديني الذي لا يقره الإسلام الصحيح، فقد مزق الرؤية الإسلامية الشاملة، وقطعها إلى أبعاض وتفاريق، أفقدت المسلم المعاصر توازنه النفسي الذي يعينه على وضع الأمور في نصابها، وإعطائها ما تستحق من حيز ومكانة في حياة المجتمع، حتى قاده أخيراً إلى الانكسار أمام المجتمعات والمبادئ المختلفة، وانتهى به إلى السلبية، أو الممارسات الخاطئة، الفاقدة للبصر والبصيرة، وحسن الدراية والفقه بالدين، والواقع المعاش، والانخداع بأن هذا هو الفهم السوي، الذي لا فهم سواه.

إن مشكلة المسلمين اليوم مشكلة ثقافية، بما لهذه الكلمة من معنى شامل عام، ومقصدنا هنا "الممارسة الإسلامية، واستحضار البعد الإيماني الغيبي، في العقيدة، والحركة، والضبط الأخلاقي الموجه الصحيح لسلوك الإنسان في الممارسة؛ ذلك أن العلم على أهميته وضرورته لا يخرج عن أن يكون بعض جوانب القضية".

4- سطحية التدين:
إن السطحية في الفهم والتفكير، التي ورثتها النظرة الجزئية، وأحياناً استعجال النتائج، قد امتدت إلى الدين نفسه، فأصبح تدين الكثيرين منا تديناً سطحياً، فما أصاب عالم الأفكار من علل، انتقل إلى التعامل مع الدين، فتحول إلى التمسك بصور من العبادات، استغرقت الناس، وفصلت مفهوم العبادة عن الحياة، والسلوك والعمل، فغاب التوتر الإيماني، وقلق المسؤولية، واستشعار الهدف، وتحول الدين والإيمان إلى قضية شخصية تبلورت من خلال فهم مغلوط حرّفها عن وجهها وحقيقتها، وحصرها في نطاق الشعائر المحدودة والعبادات البدنية والمالية فقط. فالتفكير الجزئي في الدين، أو في غيره يؤدي إلى تعدد وجهات النظر وتباعدها وتنافرها، واختلاف الأهداف والغايات إن لم يغيبها، وينتهي إلى الفشل، وتبديد الجهد، والعجز عن الوصول إلى الحق، والغاية المنشودة. كما أن التفكير الجزئي أو السطحي، دليل على الجمود والتقليد، وضعف القوى العقلية، والميل مع الهوى. وخطورته تكمن في أنه تفكير انتقائي ينتهي غالباً إلى أحكام خاطئة مضللة، تمزق وحدة الموضوع، ووحدة الجماعة، ووحدة الهدف.

لذا، فقد نفى الله تبارك وتعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الصفة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].

وقال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ* وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ* يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [النور:15-17].

فجزئية التفكير، التي تركز على جز من الظاهرة، ثم تعمم الحكم، هو الذي يسميه القرآن ظاهر العلم، أي العلم السطحي الذي يقود إلى نتائج جد خطيرة على مستوى الفرد والجماعة قــال تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ..}[يونس: 39].

فهذا النوع من التفكير الجزئي، والعلم السطحي، إنما قوامه على الظن والهوى، قال تعالى: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ..} [النجم:23].

وهو ما نهى عنه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".

لقد نتج عن سطحية المسلم المعاصر ما يلي:

1- عجزه عن فهم مقاصد دينه الحقيقة، وأبعاد عقيدته الإيمانية، وعبوديته لله.

2- عجزه عن فهم واقعه المعاصر، وعن التعامل مع عصره ومعطيات الحضارة والتوفيق بينها وبين معطيات دينه بصورة متزنة فاعلة مؤثرة.

3- حيرته، وعدم وضوح مخططاته وأفكاره، وتحديد أهدافه في الحياة.

4- انفراط عقد الخلافة الإسلامية، وتمزق المسلمين إلى أكثر من(50) دولة بعد أن كانت تجمعهم دولة الخلافة.

5- تردده، وفقدانه روح الجرأة والإقدام والتضحية، واللجوء إلى التبرير العاجز.

6- عجزه عن التفاعل مع واقع أمته الإسلامية وواقع حياته الشخصية.

7- عجزه عن حل ما يعترضه من مشكلات، وتناقض أفعاله، واضطراب تفكيره.

إن هذه السطحية، وهذا العجز، أديا إلى اضطراب مسؤولية الأمة؛ فتاهت وعامت، حين اضطربت مسؤولية الفرد وضاعت في حياته، مع قصور فهمه، وتسطح تفكيره، وإساءة فهمه لدينه، فغاب هدفه؛ وبغياب هدفه غاب هدف الأمة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا العجز وهذه السطحية ونعاها، فقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

والمتأمل في آيات القرآن الكريم يجدها تقرر ضرورة التفكير، وتبين أن العقل الذي يخاطبه الإسلام، هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر ويتدبر، ويحسن الادكار والروية، إنه العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال والسطحية وقصور النظر، وجزئية الرؤية، والتفكير التبريري، ونسبة الأخطاء إلى الغير، وتحمليهم المسؤولية.

ذلك أن هذا النمط من التفكير، أو استخدام العقل في غير الطريق الذي حدده المنهاج الإلهي، يوصل إلى نهاية لا تلتقي مع الهدف الأسمى.

لأجل هذا نجد أن القرآن الكريم في كثير من آياته يضع الإنسان في قلب العالم والطبيعة، ويدفعه إلى بذل الجهد في التفكر والتدبر، والبحث والتنقيب، ليربط الإيمان بالإبداع، والتلقي عن الله بالتوغل في الحياة بصورة شمولية متوازنة، تضع الإنسان في موقع الفاعلية والتفاعل؛ ليحقق الشرط الأساسي من وجوده، من خلال منطق التوازن الحركي الذي يقود مسيرة الحياة والحضارة والإنسان في طريق مستقيم قويم لا ينحرف، ينتهي إلى تحقيق الهدف الأعلى، وهذا ما يميز الإسلام عن غيره من الديانات والفلسفات، إنه الهدف الأعلى الأسمى. فالفهم والوعي في الإسلام مرتبطان بتحقيق الهدف والغاية.

وهذا ما يوضح لنا سر اهتمام القرآن بتنمية الملكات العقلية ورعايتها، والاهتمام برسم منهاج للتفكير السليم، يقوم على الدعوة إلى الإحساس بالظاهرة، ثم الوعي بها، وتحديد إطارها وميادينها، ثم التعرف على تفصيلاتها، وتدبرها وتصنيفها، واكتشاف اللائق منها، واستشراف الحكمة فيها.

وبالتالي فهو يرفض التسرع في إصدار الأحكام، واتخاذ المواقف، قبل التقصي الكامل لأبعاد الموضوع أو القضية.

أما مفهوم التدين في الإسلام، وما يقوم عليه من عبادة، فإنه يشغل حيزاً كبيراً يتجاوز دائرة الشعائر المحدودة، إلى أن يعيش المسلم تجربة حياة كاملة متوازنة، وبرنامج شامل ينظم فاعليات جماعة المسلمين ويسبغ عليها المعنى الذي يسير بها إلى الهدف الواضح، ويمنحها البعد الحضاري بصبغته الإسلامية الخاصة، ويعطيها الدافع والمبرر الذي يبث فيها روح الإبداع، والابتكار، والتطور الدائم الفعال.

إن العبادة تشمل:
الدين كله، الحياة كلها، وكيان الإنسان كله ظاهره وباطنه، إنها حركة القلب السليم، ويقظة الفكر المستقيم، وترجمة العلم الصالح القويم.

إنها كما وضحها ابن تيمية حين سئل: ما العبادة؟

فقال: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة".

إن مفهوم التدين في الإسلام أن تكون المرأة مسلمة في فكرها، مسلمة في أدبها، مسلمة في شعائرها، مسلمة في عملها وتعاملها، مسلمة في عملها وثقافتها، مسلمة في أخلاقها، مسلمة في وطنيتها وانتمائها. إنه الحياة بجوانبها كلها دون فصل أو تجزئة، إنه الإدراك للعلاقة الوثيقة بين القواعد الإيمانية والوقع المعاش، إنه الممارسة الشاملة الممتدة المبنية على أساس التكامل والتناسق بين الإيمان والعمل، وفق منهاج الله في حدود الوسع والطاقة والمسؤولية والأمانة. إنه العقيدة، والفكر، والرأي، والموقف، والسلوك.

لأجل هذا، فإن الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة وحياة، يرفض كل صيغ التجزئة وقصور النظر، والانحصار داخل قوقعة السطحية، والفهم الضيق المتعصب، وبخاصة في مجال الدين؛ لأن التجزئة وقصور النظر والسطحية هذه كلها تترك فراغاً في الجوانب الأخرى كثيراً ما يملاْ بالأوهام، والأفكار الخاطئة. قال تعالى: { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.

وقال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..}.

إن عملية التغيير والحل لا بد أن تقوم على أساسين:

عقيدة إسلامية صافية، وتفوق فكري فعال، فاتحاد العقيدة والفكر هو طاقة الدفع الحضاري.

أما إذا حدث الفصام بين العقيدة الصحيحة، والفكر الفعال؛ فإن التمزق والتدهور والضعف الذي آل إليه حال الأمة الإسلامية هو المحصلة النهائية لذلك كله.

فالفاعلية في الحياة الحضارية لا تتحقق إلا بالفهم الدقيق العميق لطبيعة العلم الذي يقوم به الإنسان ودوره في الحياة، أو وضوح الفكرة التي يؤمن بها، وتحديد الأهداف التي يسعى لتحقيقها، والغايات التي يعمل لأجلها، واستشعاره لمسؤوليته أمام الله.

وهذا لا يتم إلا بدراسة أسباب التقصير، ومواطن القصور، وتقويم العقل المسلم المعاصر، ومعرفة علله الفكرية، ومعوقاته الثقافية، ثم معالجة ذلك بالأسلوب الصحيح الذي ينمي ملكات العقل، ويعيد لها توازنها، فتتمكن من القيام بدورها الصحيح.

فعملية تجديد الفاعلية، وتغيير الواقع، يجب أن تبدأ بعالم الفكر، فالفكر هو المقدمة الطبيعية لكل عمل، والفكر الصحيح هو الذي يوجد نهضة صحيحة تخرج الأمة من أزمتها الخانقة، وبما أن الإسلام هو الإطار الصحيح للفكر الصحيح فلا بد لهذا الفكر من أن يقوم على أساس إسلامي صحيح، يكون هو المنطلق، والقاعدة، من مصادره يستمد المنهاج، ومن قواعده تبنى أسس التفكير، التي تنقل المسلم من الجزئية إلى الكلية، ومن ظاهر المشكلة إلى حقيقتها، وتخلصه من تبعة التقليد والجمود الفكري.

إن عملية التغيير وحل المشكلات لا يكفي أن يكون ظاهر التوجه فيها إسلامياً، ولكن لا بد أن يقوم هذا الحل أو التغيير على أساس عقدي سليم، ونوازع إسلامية صحيحة نحو التعامل مع الواقع المعاصر، والقضايا الملحة، لا بد من إدراك عامل الزمان والمكان، وفهم التراث والتجربة الإسلامية في عصرها الأول فهماً صحيحاً، وإدراك التغيرات النوعية في حياة البشر، بما يستلزمه ذلك من شمول، وعمق، ودقة، وخبرة، وقدرة على التحليل. فتكون الحلول والتغيرات مناسبة للعصر، مطابقة للاحتياجات، مستجيبة لما يجدّ من تحديات، وفق أسس إسلامية صحيحة مستمدة من قواعد الدين الثابتة.

فالتعامل مع الواقع المعاصر يجب أن ينطلق من ذاتية إسلامية شاملة تعي بحق مقاصد الإسلام وكلياته، وقيمه، وتوجيهاته، ومنهاجه العلمي العملي الشامل.

ثانياً: غياب الهدف:
إن السطحية في الفهم، وفي الفكر، وفي التعامل مع الحياة، واتخاذ المواقف فيها، وقبل ذلك كله السطحية في التدين.. هذا كله سطّح الأهداف والغايات؛ فتحولت إلى دنيا، ومتاع، ومكاسب عاجلة وقتية. وتحت ركام هذه الأهداف الرخيصة، غاب الهدف الحقيقي الأسمى ـ الذي هو جزء من عقيدة المؤمن، وإيمانه ـ الهدف المرتبط ويطبق المنهاج الرباني، الهدف الذي يصبح هاجس المؤمن وحياته، يشغل عليه فكره وتصوره، ويملأ شعوره، ويغني بالأمل نفسه، وبالجد والمثابرة والإخلاص والإتقان عمله.

فالمسلم الحقيقي يدرك ويؤمن بأن كل شيء في هذه الحياة خلق لهدف، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبِينَ} [الأنبياء:16].

وقال عز من قائل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:27].

ويوقن بأن الإنسان نفسه لم يخلق عبثاً أو سدى بلا هدف.

وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38].

وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].

بل خلق لهدف عظيم، وغاية سامية قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإنَِسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

والإنسان لا يحقق وظيفته في هذه الحياة إلا إذا حقق الغاية والهدف الذي خلق من أجله، فالمتأمل في الآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق الكون وتهيئة الظروف الملائمة للحياة، يجدها ترتبط ارتباطاً عميقاً بالدور الذي بعث الإنسان من أجل تحقيقه فالقصد والنظام والإعمار والغاية.. كلها مقومات أساسية لأي نشاط حضاري فعال هادف منظم متطور.

فالمسلم إذاً غائي؛ تتمحور حياته حول هدف أسمى، هدف رباني يحمل خصائص إيمانية ترتفع به إلى مستوى عقيدته وإيمانه، وتحقق له السعادة في الدنيا، والفوز في الآخرة. وتحقيق الهدف ونيل السعادة يحتم أن تلتقي حركة الإنسان مع هدفه، فإن اختلفت الحركة والهدف، أو لم تلتقيا؛ وجد القلق والاضطراب.

فكل حركة في حياته لابد أن ترتبط بهدف يحققه تحقيقاً يقينياً، واليقينية هنا تقتضي أن يخرج هذا الهدف عن أن يكون تقليداً، وعن أن يكون جهلاً، أو يكون شكاً، وأن يكون ظناً، وأن يكون وهماً، فإن داخلها شيء من ذلك فسدت.

فالأساس أن يحكم وجود الإنسان المسلم هدف يقيني لا تقليد فيه ولا جهل، ولا شك ولا ظن ولا وهم.

وأن تتحول الأهداف القريبة في الحياة إلى وسائل لتحقيق الهدف الأعلى الذي حدده الخالق، الهدف الأكبر الذي تنبع منه الأهداف الأخرى، وتنتهي إليه، وترتبط به ولا تنفك عنه؛ حتى يبقى هو الهدف الأوحد للإنسان في هذه الحياة.

فيرتبط المسلم بعقيدته، بمنهاج ربه، بعبادة ربه وحده، هذه العبادة هي المحور الأساسي لحياة المسلم، لفكره، لعمله، لمشاعره، لوجود ذاته بكل خصائصه ومقوماته. ومفهوم العبادة في الإسلام لا ينحصر ـ كما ذكرنا ـ ضمن دائرة ضيقة هي الشعائر الدينية من عبادات بدنية، أو مالية فقط، فهذا فهم جزئي، قاصر، يدخل في نطاق السطحية الدينية التي يرفضها الإسلام بنصوصه الأصلية الثابتة.

فحياة المسلم إذاًَ مرتبطة بهدف أكبر، وغاية سامية، هي:

عبادة الله أولاً، ثم الجنة، ومن منطلق هاتين الغايتين أو الهدفين يطوع حياته، ويبلور مواقفه. فيكون علمه، وعمله، وثقافته، وتعامله، ومواقفه الشخصية الخاصة، أو العامة، تجاه أمته ودينه، نابعة من هذين الهدفين، متجهة إليهما.

قال تعالى في تصوير هذه الحقيقة: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ* قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 162-165].

إن القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يربيان المسلم على أن يكون صاحب هدف أسمى، وغاية عظمى، تطوع حياته كلها لأجلها وتبنى عليها.

ذلك أن الحياة بلا هدف حياة تافهة لا معنى لها. قال تعالى: {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3].

وعندما يغيب الهدف من حياة الإنسان، يعيش الإنسان بلا غاية. وفقدان الهدف والغاية من الحياة، يفقد الإنسان الإحساس بالمسؤولية الذي يدفعه إلى إتقان كل شيء يقوم به، من علم، وعمل، وتعامل، واجتهاد، وجدٍّ في الوصول إلى الأفضل، والارتقاء إلى المستوى الذي يجعله أهلاً لحمل الأمانة، والقيام بالخلافة على الأرض وإعمارها.

فالهدف يولد المسؤولية، التي تولد بدورها نوعاً خاصاً من الشعور بالالتزام الذي اقتضاه التكليف. فيتجسد إحساسه بالمسؤولية في كل لحظة من لحظات حياته، فيحقق بذلك تحمله الحقيقي للأمانة، التي قال فيها الله تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب:72].

هذه المسؤولية هي موقف يتطلب من الإنسان أن يكون جديراً بحملها، مسؤولية أمام ربه، أمام نفسه، أمام غيره، أمام أمته، إنها مسؤولية أخلاقية، ومسؤولية اجتماعية، تنتهي في خضم المسؤولية الدينية التي تلزم الإنسان نتيجة عمله واختياره، إنها مسؤولية الفردية في إيجاد المسلم الصالح، والمسؤولية الاجتماعية في تحقيق المواطن الصالح.. إنها المسؤولية الشاملة لظاهر عمل المسلم، وباطن قلبه وفكره وملكاته وقدراته، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].

هذه المسؤولية الشاملة، النابعة من ذلك الهدف الأسمى، تجعل المسلم محاسبا على مواقفه السلبية تجاه نفسه، ومجتمعه، وأمته، بسكوته عن الخطأ، أو إقراره للانحراف. وإذا كان هناك من ينسى مسؤوليته الفردية الشخصية، ويقصر فيها؛ فإن هنالك في المقابل من يتجاوز حدود مسؤولياته إلى مسؤوليات الأمة؛ فتقع الفتنة.

إن جهل المسلم بمسؤولياته وارتباط تلك المسؤوليات بالهدف الأسمى، يفقده القدرة على الموازنة بين المسؤولية الفردية، والمسؤولية الجماعية؛ فتختلط الحدود، ويفتح باب الهوى والاتباع عن جهل أو هوى، فيدخل الشيطان من مداخل الهوى، أو مداخل الجهل فيزين الفتنة، ويجمل الضلال.

فمناهج الله الذي حدد الهدف، حدد المسؤولية الفردية والجماعية، ومسؤولية الأمة، ووازن بينها، ونسق وربط بينها، بصورة لا تلغي أيا منها، وإنما تقويها وتبرزها.

هذه المسؤولية النابعة من تحمل الرسالة، والعيش في إطار الهدف الأكبر، لها شروط لابد من توافرها لتحقيق معناها.

أولاً: الإيمان:
ويقصد به الإيمان الحقيقي الراسخ، القائم على أساس العبودية الحقيقية لله، وإفراده بالربوبية، وتوحيده بلا شريك، وترسيخ معانيه الحقيقية في ضمير المسلم؛ حتى يستيقنها قلبه، وتكون حقيقة في واقعة، وعقيدة يقوم عليها فكره، ونشاط حياته، وحركته، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].

وبترسيخ هذه القاعدة الإيمانية، وثباتها في النفس، تكون هي الدافع الحقيقي للعمل والحركة، والنشاط، والإبداع، وفق المنهاج الرباني الفريد.

حين ترسخ هذه القاعدة بالصورة التي قررها الإسلام؛ فإنها تدفع إلى العمل، والعبادة والجهاد، والطاعة، وهذا ما لا يمكن أن يتأتى إلا من الفهم الصحيح لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: العلم بمنهاج الله وفهمه:
منهاج الله متكامل، لا يجزأ، ولا يفرق، وفهمه لا يكون بالتناول السطحي، أو العرض الضحل. من خلال الأحاديث العامة، والمجالس، أو من خلال الندوات والمحاضرات. لكنه التزام، وعمل، وجهد، وبذل، وطاعة، وعبودية. إن الأصل في هذا المنهاج ارتباط آيات الكتاب, وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وترابطها في الصدر، وفي الفهم، وفي العمل؛ فتحدد السلوك، وتقرر المنهاج، وتوضح المسؤولية، والأمانة، والغاية.

إن الفهم الصحيح لمنهاج الله، والتطبيق السليم له، وربطه بمجالات الحياة كلها؛ يحول العبادات إلى باب لحسن المعاملات وصدقها، والمعاملات إلى لون من الطاعة والعبادة.. وهكذا، حتى تصهر جميعاً في خضم الهدف الأكبر، والغاية العظمى.

فالعلم بمنهاج الله وفهمه وتطبيقه يكوّن المؤمن العاقل، الواعي، روحاً وفكراً، وتصوراً وعقيدة، وسلوكاً وحركة ونشاطاً، وينتهي إلى إيجاد حسن المسؤولية، والالتزام بها، وتحمل الأمانة، وتحقيق الخلافة، وتجسّد الهدف والغاية.

ثالثاً: العلم بالواقع المحيط وفهمه:
العلم بالواقع المحيط وظروفه، ومستلزمات العصر، أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يعين على التحرك الفطن السليم في نطاق الضوابط الربانية في منهاج الله والتزامه، ومن ثم القيام بالمسؤولية على أكمل وجه.

دراسة الواقع ليست مهمة فردية بحتة، لكنها جهد فردي يقوم به أفراد الجماعة والأمة، وهي دراسة مستمرة دائمة لا تقف عند حد معين، ولا تقتصر على جانب دون سواه، لكنها شاملة للجوانب كلها: الاجتماعية، والنفسية، والسياسية، والاقتصادية، والعلمية، والفكرية، وغيرها، بحيث يعي كل فرد مسلم الجزء الذي يتناسب مع طاقاته وإمكاناته، وحدود مسؤولياته واختصاصاته، ليتولى القيام بما يناسب المقام من متطلبات.

فدراسة الواقع تعين على تكوين الشخصية المسلمة المؤمنة، العاملة، اليقظة، المتفتحة، التي تعي أين هي؟ وماذا يجري حولها وما دورها؟ فتقوم بمسؤولياتها المناطة بها على الوجه الأكمل؛ فتحمل الأمانة، بممارستها لمنهاج الله في واقع الحياة المعاشة، بفهم إيماني صحيح، يحقق الهدف والغاية، ذلك أن غياب العقل المسلم عن تتبع مجريات الأحداث في مجتمعه الإسلامي الكبير، يخرجه من دائرة التحدي إلى الاكتفاء بالمشاهدة فيسقط عن نفسه واجب التكليف الذي فرضه الله عليه.

رابعاً: المعرفة الصحيحة بالحقوق والواجبات الفردية والجماعية:
التي من خلالها ترسم صلات المسلمين بعضهم ببعض، وتنضبط علاقاتهم، ويتحدد سلوكهم، واتجاههم، ومكان كل منهم ومداه، ومنزلته، وحدوده التي يلتزم بها، لا يتجاوزها.

وهكذا، نصل إلى أن الإحساس بالمسؤولية يقتضي تحمل الأمانة، وتحمل الأمانة يعني تحقيق الخلافة على الأرض بالصورة التي أرادها الله، وهذه بدورها لا تتحقق إلا إذا امتلأت النفس بهدف أكبر، وغاية عظمى، وهذا الهدف أو الغاية لا تتضح معالمه، إلا إذا تعمق الفهم، وامتدت الرؤية لتنفذ إلى ما وراء الظاهر.

أما العوامل التي رسخت السطحية وغيبت الهدف، فهي: التربية (بكل جوانبها)، البيت، التعليم، الإعلام، المجتمع، كلها عملت مجتمعة على تسطيح الفكر، وتغييب الهدف، وتحولت إلى وسائل عبثية، لا تربوية.

أما الحل، فيكون بإعادة صياغة التربية من جديد؛ تمهيداً لإعادة صياغة العقل المسلم، على أن يتم ذلك وفق المنهاج الإسلامي التربوي التعليمي الصحيح، في إطار أهداف واضحة محددة تكون محوراً للانطلاقة الجديدة في العمل على تصحيح النظرة وتقويم الفكر. فعملية الدفع الحضاري تحتاج إلى رؤية عقدية بناءة، وتفوق فكري فعال.

فالمسلم اليوم بحاجة إذاً إلى إعادة ترتيب عقليته وتشكيها من جديد، وصياغتها في إطار إسلامي صحيح يعينها على التخلص من القيود، والأسوار، والسطحية التي تعاني منها، وتخليصها أيضاً من ذلك الركام الهائل، الذي أفقدها الرؤية الصحيحة للأشياء، وغيبها في خضم مفهومات مغلوطة، واهتمامات زائفة، وغايات وقتية مادية غيبت الهدف الحقيقي!




المصدر

http://www.lahaonline.com/Studies/QandA/a3-17-08-2003.doc_cvt.htm

أبو رائد
17-11-2003, 02:06 AM
الله يعطيك العافية المسااافر


وتسلم يالغالي على المواضيع الطيبة

احسـ العالم ـاس
17-11-2003, 04:14 PM
تسلم يدك اخوي المسافر

لك بصمه مميزه في المنتدي المسافر

تحياتي

الحالمه
18-11-2003, 10:09 PM
أهلا المسافر

وألف شكر لك على مواضيعك الراائعة :)

المسافر
18-11-2003, 10:21 PM
كل الشكر لكم أخواني

أبو رائد


احسـ العالم ـاس


الحالمه

على ردودكم الأكثر من رائعة

وعلى ما يحظى به أخوكم المسافر من دعم متواصل من أخوان له في هذا المنتدى والذين من الواضح اهتمامهم بكل عضو مشارك وهذا ما يجعل جميع الأعضاء وأنا منهم أن يرتاحون من هذا المنتدى بسبب الأسلوب الراقي الذي يعاملون به


فلكم مني كل تحيه وتقدير وأتمنى أن أكون عند حسن ظنكم






أخوكم المسافر