المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دقائق معدوده


السميري
05-03-2003, 07:42 PM
تعتبر الدقائق المعدودة كما شاهدناها على شاشات الفضائيات العربية خلال انعقاد القمة العربية السبت الماضي في شرم الشيخ، دقائق تاريخية بكل معنى الكلمة. فعوضا عن مناقشة الأزمة العراقية وتداعياتها المتوقعة على الصعيدين العربي والإسلامي، انشغل العقيد القذافي والأمير عبدالله بن عبدالعزيز، كزعيمين من زعماء الأمة العربية، بتبادل الإتهامات المباشرة المبطنة لعمالة كل منهما للغرب والإستعمار. وإن لم يكن هذا هو عين النقاش البزنطي السيء الذكر، فماذا يكون إذًا ؟!



ونحن – كمواطنين مغلوب على أمرنا، وباعتبارنا من رعايا هذه الدول التي اختصرت في 22 زعيما – نجد أنفسنا - شعوريا أو لاشعوريا – مستدرجين للتعاطي مع هذه الأحداث أو الأزمات. وهذا ليس عيبا في حد ذاته، ولكن الطريقة التي يتم بها التفاعل أو الإستجابة للحدث هي نفسها محل نظر ونقد وتحليل.
* * *

خلال الساعات الأولى التي أعقبت التلاسن سيء الذكر بدأت تتضح بوادر طوفان هائل من ردود الأفعال. ومن الطريف في الأمر ما حدث في الأوساط السعودية والليبية غير الحكومية، أي المحسوبة على تيار النخب المعارضة بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث سيطر على الموقف الليبي لهذه الأوساط تأييد الأمير عبدالله بينما سيطر على الموقف السعودي الإنتصار للعقيد القذافي !!

وقد يتساءل المرء: ما الطريف في ذلك؟
وهذا سؤال وجيه رغم بساطته، ولا بأس من توضيح بعض الجوانب المتعلقة بهذا الحدث.

* * *

عملية تبادل المراكز هذه بين الليبيين والسعوديين أدت – بشكل نظري على الأقل – إلى نقل الخلاف بين السعوديين والليبيين أنفسهم!! فتأييد موقف الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وخاصة بشكل مبالغ فيه، يعتبره المعارضون السعوديون نوعا من التعدي على قضيتهم وتأييدا لخصمهم. وبالمقابل فإن النخب الليبية المعارضة تعتبر أي تأييد للعقيد القذافي أو تعاطف معه نوعا من التعدي على قضيتهم الليبية وتقوية لخصمهم، على الأقل معنويا.

وحتى هذه اللحظة لم يكتسب ذلك الأمر في حد ذاته – ومن وجهة نظري الشخصية على الأقل – أي أهمية. فنحن نتحدث عن جماهير وجموع ووسائل إعلام مأمورة في الغالب ومن طبيعتها الإنفعال والإندفاع بشكل عاطفي بعيدا عن العقل والإتزان، أو حتى الحقيقة. ذلك لأنها عادة ما تتصرف بناء على موروثات وترسبات جماعية وصور وأحكام مسبقة هي اشبه بالعادات والتقاليد.

ولكن ما أن ينتقل الحديث إلى مواقف النخب الليبية المعارضة حتى يأخذ النقاش منحىً مختلفا تماما. وعندما أتحدث عن النخب الليبية المعارضة فإنني أعني بها القيادات والرموز والمثقفين والمفكرين السياسيين، وكل من له أثر في صناعة المواقف والرأي العالم داخل الوسط الليبي المعارض في ليبيا وخارجها.

فانحياز أي إنسان بإرادته وقناعاته الذاتية إلى موقع المعارضة كي يطل من خلاله على الحياة السياسية ويتعاطى الشؤون العامة من معطيات ومنطلقات ذلك الموقع.. هذا الإنحياز هو موقف مشرف في زماننا هذا. ولكنه ليس هو الغاية أو نهاية المطاف، بل إنه البداية حيث تبدأ منه الإلتزامات والواجبات والمسؤوليات السياسية والنضالية والأخلاقية والوطنية. وهذه مساوية تماما لمسؤوليات الدولة والنظام الحاكم وإن بدرجة مختلفة ومن موقع مختلف كذلك.

ومن هنا أرى أننا يجب أن نخضع مواقفنا وتفاعلاتنا وردود أفعالنا بخصوص الملاسنة بين العقيد القذافي والأمير عبدالله إلى منطق آخر مختلف تماما عن منطق العادات والتقاليد والموروثات الجماعية.

فمن موقع المعارض للنظام الليبي والرافض للدكتاتورية والقمع ودولة اللجان الثورية وفلسفة اختصار الدولة والمجتمع في شخصية الزعيم.. من ذلك الموقع سوف أحاول أن أقف على خلفية هذه الأزمة ودلالاتها، واستنتاج الأثار والنتائج التي قد تترتب عليها. كما سأحاول التعرف على الأسباب الحقيقية لهذا التراشق الحادّ وغير المتوقعمن الأمير عبدالله بن عبدالعزيز.

* * *

ملاسـنة لـها دلالات:
لم يكن هذا التراشق بالإتهامات الأول من نوعه بين الرؤساء والزعماء العرب رغم أنه أسفر عن إفشال القمة وتوتر العلاقات بين طرابلس والرياض. ولكن ذلك الإشتباك على الهواء مباشرة بين العقيد القذافي والأمير عبدالله قد تكون له دلالات وخلفيات تجعله متميزا وذا أهمية خاصة. ذلك أنه يأتي في الوقت الذي تستعد فيه المنطقة لاستقبال موجة استعمارية جديدة لازال يكتنفها الكثير من الغموض والسرية، خاصة فيما يتعلق بأهدافها الحقيقية ذات الطابع الإستراتيجي.

ومن أهم الملاحظات التي يمكن استعراضها حول الأزمة من أجل استقراء ما قد يترتب عليها مستقبلا، ما يلي:

وقعت الملاسنة بين السعودية، ذات العلاقة التاريخية والمتميزة مع أمريكا، وليبيا التي تعتبر حسب بعض التوقعات الهدف الثاني بعد العراق للحملة الأمريكية. وحتى إن لم تكن في المرتبة الثانية فهي حتما مدرجة ضمن قائمة الأهداف الأمريكية.
تأكيد العقيد القذافي على أن سبب المشكلة الرئيسي هم العرب أنفسهم وليس أمريكا، وعلى أن دول الخليج – وعلى رأسها المملكة العربية السعودية – هي السبب في إحضار الأمريكان – على شكل تواجد عسكري – إلى المنطقة من أجل حماية أنظمتها.
وصف القذافي للملكة العربية السعودية (والكويت) بأنها مسلوبة الإرادة منتهكة السيادة في سياق إشارته للحديث الذي دار بينه وبين الملك فهد إبان حرب الخليج الثانية عام 1991.
وصفه للتحالف بين أمريكا والسعودية بأنه تحالف مع الشيطان، ولو بشكل غير مباشر. إلا أن ما قصده القذافي كان واضحا تماما.
اختار العقيد القذافي لحديثه مدخلا أبعد وأوسع من الأزمة العراقية في حد ذاتها. ولذلك راح يتحدث عن الوجود الأمريكي في المنطقة والتزام أمريكا بحماية بعض الأنظمة الحاكمة فيها وحرصها على السيطرة على منابع البترول.
أشار القذافي في مطلع حديثه إلى أن الأزمة الحالية أشبه بأزمة (خليج الخنازير) إشارة إلى المحاولة الأمريكية في بداية الستينيات لغزو كوبا وقلب نظام الحكم فيها. وقد انتهت تلك الحملة بفشل عسكري وسياسي ذريع. وهذه دلالة واضحة على توقعات – أو على الأقل تمنيات – القذافي للمشروع الأمريكي الراهن في المنطقة.
المحاور التي تطرق إليها حديث القذافي تدل دلالة واضحة على أنه كان يتحدث عن الأزمة (الليبية) قبل وقوعها.
الطريقة التي قاطع بها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز القذافي لم تكن متوقعة على الإطلاق، وفاجأ الأمير الجميع بخروجه عن إطار الدبلوماسية المتعارف عليها في مثل هذه المناسبات وعن ثقافة "المجاملات" العربية.
فهم الأمير عبدالله كلام القذافي على أنه اتهام للملكة بالعمالة للأمريكان.
استهدف الأمير عبدالله في رده العقيد القذافي شخصيا وبشكل مباشر متهما إياه بالعمالة والكذب، وموجها إليه أصبع الإتهام والتهديد.
لمّح الأمير عبدالله إلى موقفه من الأنظمة الإشتراكية والثورية وإلى كونها السبب في استعداء الغرب عندما خاطب القذافي بقوله أن كلامك هذه هو الذي جاء بالغرب... الخ.
تحذير الأمير عبدالله للقذافي بقوله: "القبر قدامك" يبدو في غاية الغرابة إذا حاولنا فهمه ضمن السياق العام لحديثه، حيث أنه لم يكن بصدد إلقاء موعظة دينية يذكر فيها القذافي بالآخرة أو بعذاب القبر. ولذلك فمن المرجح أن تلك العبارة تحمل دلالات أخرى غير التي تفهم من ظاهر الكلام.
رغم كلمات القذافي اللاذعة في حق السعودية، كان الوفد السعودي – على ما يبدو – الأكثر تأهبا واستعدادا وجاهزية للمواجهة والتضحية بالقمة، وعدم الحرص على سيرها بالشكل الطبيعي.
الأزمة لم تنته عند هذا الحد، بل تواصلات في جولات أخرى أشد ضراروة وشراسة لعبت فيها وسائل الإعلام – كعادتها – دور نصل السكين الذي لا يعرف من الذي يمسك بمقبضه.
* * *

هـل كان تراشـقا عـفويا؟
لازالت الأوساط الليبية المهتمة بالموضوع تبحث عن خلفيات الملاسنة بين العقيد والأمير، حيث أن الكثير ممن تحدثت إليهم غير مقتنعين بأن الأمر جاء عفويا أو تلقائيا. وفي هذه الحالة نحن مطالبون بالبحث عن أدلة أو قرائن أو حتى إستدلالات منطقية تعيينا على تفسير ما حدق وتقودنا إلى القول بأن هذا الأمر قد "دُبر بليل" كي لا نتهم بأننا من أنصار نظرية المؤامرة.

ونحن هنا أمام مجموعة إحتمالات منه:

أن الأمر فعلا كان تلقائيا، وأن تصرف الأمير لم يكن سوى رد فعل عنيف لما اعتبره إهانة وطعنا في بلده. ومثل هذه الخلافات والمشاحنات أصبح جزءً من الواقع العربي الرسمي منذ عشرات السنين.
أن يكون الأمير مدفوعا من قبل جهات أمريكية عليا لافتعال مشكلة مع القذافي تمهيدا لقطع العلاقة بين البلدين ومحاصرة القذافي عربيا واستعداء من يمكن استعداؤه ضده من الزعماء العرب كخطوة أولى لعزل النظام الليبي إقليميا وخلق أجواء عدائية أو سلبية تسهل مستقبلا نجاح المخطط الأمريكي في التعامل مع النظام الليبي.
والإحتمال الثالث هو وصول معلومات ذات قيمة عالية ومصداقية للمسؤولين السعوديين تؤكد لهم أن الإدارة الأمريكية ماضية قدما في إسقاط النظام الليبي. وربما كان إحساس السعوديين بأن الأمر قد حسم هو الذي شجع الأمير (وسعود الفيصل وزير الخارجية الذي كان يهمس في أذنه أثناء الملاسنة) بالتصدي للعقيد ومخاطبته بتلك اللهجة والعبارات غير المعهودة ولا المتوقعة من المسؤولين السعوديين.
وقد أكدت تصريحات تالية لمسؤولين سعوديين بأن حقبة المجاملات والمسايرة تجاه أنظمة وزعماء معينين قد انتهت. وهذا يفسر انفجار الأمير في وجه العقيد وأصبع الإتهام والتهديد بتلك الصورة الدرامية التي شاهدها الملايين على شاشة التلفزيون. ولعل إشارة الأمير إلى "القـبر" لم تكن زلة لسان بقدر ما هي للتخويف والوعيد.

ولعل ما جاء في وسائل الإعلام السعودية يعزز هذا الإحتمال، إذ نادى بعضها بـ "اجتثات" النظام الليبي، واتهمته بالعمالة والتواطؤ ضد مصلحة القضايا العربية... الخ.

* * *

في ضوء هذه الإحتمالات من الحكمة ألا نستعجل في الحكم والترجيح. وقد تكشف لنا الأيام القادمة حقيقة من يقف وراء هذا الأزمة.

الأزمـة إلى أيــن ؟؟
بناء على ما ذكر، ومن خلال إستقرائنا للواقع العربي، خاصة في مجال العلاقات العربية-العربية، يمكننا الإشارة إلى بعض الصور التي يمكن أو تصل إليها الأزمة.

أعتقد أن الأمور قد تتجه نحو محور من محورين: إما التهدئة أو التصعيد.

في حالة التهدئة:
يكون الهدف هو امتصاص الأزمة عن طريق المصالحة والإستجابة لتدخل أطراف عربية للتوسط وتقريب وجهات النظر. وربما كانت الخطوة الأولى لتعزيز إجراءات من هذا القبيل هي – عادة – وقف القصف الإعلامي المتبادل.

وربما جاءت المصالحة بمبادرة من أحد الطرفين: ليبيا أو السعودية، كأن ترسل ليبيا أحمد قذاف الدم إلى السعودية للإعتذار وفض الإشتباك كما فعل سابقا وبنجاح. أو أن يبادر مشؤول سعودي مثل الأمير سلطان أو الأمير سلمان أو الأمير بندر بن سلطان، ممن قد تكون لديهم وجهة نظر مختلفة عن الأمير عبدالله، وممن تربطهم علاقات أكثر ودية مع القذافي. وقد يكون هذا السيناريو هو الأقرب ما لم تكن هناك أيدي أو أطراف أجنبية من وراء الأزمة نتيجة للظروف الراهنة التي تمر بها المنطقة عموما.

في حـالة التصـعيد:
يمكن تصور مظاهر عدة للقطيعة منها سحب السفراء أو تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي أو قطع العلاقات ومواصلة وتصعيد الحرب الإعلامية. ويصاحب هذا اللجوء إلى أسلوب الدسائس والمؤامرات على الطريقة العربية المعروفة من خلال اللعب بأوراق معينة يضغط بها كل من الطرفين على الآخر.

وربما كان الموقف الليبي أكثر ضعفا نظرا للظروف السيئة والأجواء السلبية التي يعيش فيها النظام الليبي داخليا وخارجيا.. وسيزيد تفاقم هذا الوضع بالنسبة للنظام إذا ما كانت الأيدي الأمريكية هي المحرك الحقيقي للموضوع.

مـوقـف النـخب المعـارضة:
بغض النظر عن موقف النظام السعودي أو النظام الليبي فإن النخب الليبية المعارضة الواعية يجب أن تنطلق من مصلحة القضية التي هي تناضل من أجلها. وبما أن الجميع – كما يفترض - يناضل ويكافح ويجاهد من أجل مصلحة الوطن، وبشكل مجرد من الأهواء والعواطف والمصالح الشخصية أو الحزبية أو التكتلية، فإن المطلوب في هذا المنعطف يكون هو التضحية بالرأي والرغبة الشخصية. فكما أن التضحية بالنفس والمال والأهل من أهم سمات الإنسان الذي يتحرك من موقع المعارض، فإن التضحية بالمكاسب والرغبات الشخصية يجب أن يكون لها نصيب في تكوين هذا الإنسان وسلوكه ومواقفه.

إن المواجهة التي شاهدناها بين الأمير والعقيد لا يمكن فصلها عن السياق الكلي للمشهد العربي الراهن. وأي محاولة لنزع تلك الحادثة والحكم عليها بشكل جزئي هي نوع من التسطيح الذي يرفضه المنطق السياسي، ولا يقبله فقه الموقف. وأعتقد أن المناسب أن أذكر بأنه سبق للعقيد القذافي أن وجه ألفاظا جارحة ولاذعة للملك فهد وصلبت إلى حد تكفيره ووصفه مع بقية حكام دول الخليج بـ "خنازير الجزيرة". وعلى الطرف الآخر سعى النظام السعودي في الثمانينات إلى استصدار الفتاوى الشرعية التي نصت على تكفير معمر القذافي ووصفه بـ "رأس الحربة" الموجهة ضد الإسلام والمسلمين.

ورغم ذلك فقد عادت المياه إلى مجاريها (سمن على عسل)، وتطورت العلاقات الليبية السعودية تظورا فاق كل التوقعات. فتولت السعودية رعاية المصالح الليبية في بريطانيا إثر قطع العلاقات عام 1984 وحتى عام 1999. ولعبت المملكة دورا بارزا وفي غاية الأهمية في إحداث أنفراج كبير في أزمة لوكربي. كما تعاونت تعاونا وثيق من الأجهزة الأمنية الليبية وسلمتها أكثر من 48 مواطنا ليبيا من ضمنهم نساء وأطفال دون أي منبرر أو مسوغ شرعي أو قانوني.

لقد اصبح من الواضح – في تصوري – بعد كل هذا أن النخب الليبية المعارضة تواجه مأزقا حقيقيا في محاولتها بلورة موقف صحيح من الأزمة الليبية السعودية. فالأزمة قد تتبخر وتنتهي في غضون اسابيع قليلة، ولكنها قد تستمر لشهور أو سنوات. ولا مفر لمن يعمل في الميدان السياسي من مواجهة الناس والتاريخ بموقف صادق وشجاع ومنطقي يحفظ للعمل النضالي نصاعته واستقلاليته، وللوطن شرفه وكرامته.

Power Speak
06-03-2003, 09:29 AM
الله يعطيك العافية

يا ابو البراء على المقال الرائع