سلسلة الأحاديث الصحيحة ــ المجلد الأول
للشيخ الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى
الحديث رقم 357
" من أحب أن يتمثل له الناس قياماً , فليتبوأ مقعده من النار " .
قال الألباني في السلسلة الصحيحة 1 / 627 :
أخرجه البخاري في " الأدب " ( 977 ) وأبو داود ( 5229 ) والترمذي ( 2 / 125 ) والطحاوي في " مشكل الآثار " ( 2 / 40 ) واللفظ له وأحمد ( 4 / 93 , 100 ) والدولابي في " الكنى " ( 1 / 95 ) والمخلص في " الفوائد المنتقاة " ( ق 196 / 2 ) وعبد بن حميد في " المنتخب من المسند " ( ق 51 / 2 ) والبغوي في " حديث علي بن الجعد " ( 7 / 69 / 2 ) وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " ( 1 / 219 ) من طرق عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز قال : " دخل معاوية بيتاً فيه عبد الله بن الزبير , وعبد الله بن عامر , فقام ابن عامر , وثبت ابن الزبير , وكان أدر بهما فقال # معاوية # : اجلس يا ابن عامر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فذكره .
وقال الترمذي : " حديث حسن " .
قلت : بل هو حديث صحيح , رجال إسناده ثقات رجال الشيخين , وأبو مجلز اسمه لاحق بن حميد , وهو ثقة , وحبيب بن الشهيد ثقة ثبت كما في " التقريب " , فلا وجه للاقتصار على تحسينه , وإن سكت عليه الحافظ في " الفتح " ( 11 / 42 ) , لاسيما وله طريق أخرى , فقال المخلص في " الفوائد " : حدثنا عبد الله أنبأنا داود : أنبأنا مروان أنبأنا مغيرة بن مسلم السراج عن عبد الله بن بريدة قال : " خرج معاوية فرآهم قياماً لخروجه , فقال لهم : اجلسوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من سره أن يقوم له بنو آدم , وجبت له النار " .
قلت : وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير شيخ المخلص عبد الله , وهو الحافظ أبو القاسم البغوي , ومغيرة بن مسلم السراج وهما ثقتان بلا خلاف وداود هو ابن رشيد , ومروان هو ابن معاوية الفزاري الكوفي الحافظ .
وقد تابعه شبابة بن سوار حدثني المغيرة بن مسلم به إلا أنه قال : " من أحب أن يستجم له الرجال ... " والباقي مثله .
أخرجه الطحاوي ( 2 / 38 - 39 ) والخطيب في تاريخ بغداد ( 13 / 193 ) .
وللحديث عنده ( 11 / 361 ) شاهد مرسل في قصة طريفة , أخرجه من طريق عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد قال : سمعت أبي يقول : " لما أحضر المأمون أصحاب الجوهر , فناظرهم على متاع كان معهم , ثم نهض المأمون لبعض حاجته , ثم خرج , فقام كل من كان في المجلس إلا ابن الجعد , فإنه لم يقم , قال : فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب , ثم استخلاه فقال له : يا شيخ ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك ? قال : أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : وما هو ? قال علي بن الجعد : سمعت المبارك بن فضالة يقول : سمعت الحسن يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فذكره باللفظ الأول ) قال : فأطرق المأمون متفكراً في الحديث , ثم رفع رأسه فقال : لا يشترى إلا من هذا الشيخ , قال : فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار " .
قلت : فصدق في علي بن الجعد ( وهو ثقة ثبت ) قول الله عز وجل : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً , ويرزقه من حيث لا يحتسب ) .
ونحو هذه القصة ما أخرج الدينوري في " المنتقى من المجالسة " ( ق 8 / 1 - نسخة حلب ) : حدثنا أحمد بن علي البصري قال : " وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل وغيره من العلماء فجمعهم في داره , ثم خرج عليهم , فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل , فقال المتوكل لعبيد الله : إن هذا الرجل لا يرى بيعتنا , فقال له : بلى يا أمير المؤمنين ولكن في بصره سوء , فقال أحمد بن العدل : يا أمير المؤمنين ما في بصري من سوء , ولكنني نزهتك من عذاب الله تعالى , قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده في النار " , فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه " .
وروى ابن عساكر في " تاريخ دمشق " ( 19 / 170 / 2 ) بسنده عن الأوزاعي حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز قال : " خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة , فلما رأيناه قمنا , فقال : إذا رأيتموني فلا تقوموا , ولكن توسعوا " .
فقه الحديث :
دلنا هذا الحديث على أمرين .
الأول : تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له , وهو صريح الدلالة بحيث أنه لا يحتاج إلى بيان .
والآخر : كراهة القيام من الجالسين للداخل , ولو كان لا يحب القيام , وذلك من باب التعاون على الخير , وعدم فتح باب الشر , وهذا معنى دقيق دلنا عليه راوي الحديث معاوية رضي الله عنه , وذلك بإنكاره على عبد الله بن عامر قيامه له , واحتج عليه بالحديث , وذلك من فقهه في الدين , وعلمه بقواعد الشريعة , التي منها " سد الذرائع " , ومعرفته بطبائع البشر , وتأثرهم بأسباب الخير والشر , فإنك إذا تصورت مجتمعاً صالحاً كمجتمع السلف الأول , لم يعتادوا القيام بعضهم لبعض , فمن النادر أن تجد فيهم من يحب هذا القيام الذي يرديه في النار , وذلك لعدم وجود ما يذكره به وهو القيام نفسه , وعلى العكس من ذلك إذا نظرت إلى مجتمع كمجتمعنا اليوم , قد اعتادوا القيام المذكور , فإن هذه العادة لاسيما مع الاستمرار عليها فإنها تذكره به , ثم إن النفس تتوق إليه وتشتهيه حتى تحبه , فإذا أحبه هلك , فكان من باب التعاون على البر والتقوى أن يترك هذا القيام , حتى لمن نظنه أنه لا يحبه خشية أن يجره قيامنا له إلى أن يحبه , فنكون قد ساعدناه على إهلاك نفسه وذا لا يجوز . ومن الأدلة الشاهدة على ذلك أنك ترى بعض أهل العلم الذين يظن فيهم حسن الخلق , تتغير نفوسهم إذا ما وقع نظرهم على فرد لم يقم له , هذا إذا لم يغضبوا عليه ولم ينسبوه إلى قلة الأدب , ويبشروه بالحرمان من بركة العلم بسبب عدم احترامه لأهله بزعمهم . بل إن فيهم من يدعوهم إلى القيام , ويخدعهم بمثل قوله " أنتم لا تقومون لي كجسم من عظم ولحم , وإنما تقومون للعلم الذي في صدري " ! ! كأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يكن لديه علم ! ! لأن الصحابة كانوا لا يقومون له , أو أن الصحابة كانوا لا يعظمونه عليه السلام التعظيم اللائق به ! فهل يقول بهذا أو ذاك مسلم ? ! ومن أجل هذا الحديث وغيره ذهب جماعة من أهل العلم إلى المنع من القيام للغير كما في " الفتح " ( 11 / 41 ) ثم قال : " ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام , ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس , ولو كان في شغل نفسه , فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها , فتتلقاه وتنزع ثيابه , وتقف حتى يجلس ? فقال : أما التلقي فلا بأس به , وأما القيام حتى يجلس فلا , فإن هذا فعل الجبابرة , وقد أنكره عمر بن عبد العزيز " .
قلت : وليس في الباب ما يعارض دلالة هذا الحديث أصلاً , والذين خالفوا فذهبوا إلى جواز هذا القيام بل استحبابه , استدلوا بأحاديث بعضها صحيح , وبعضها ضعيف والكل عند التأمل في طرقها ومتونها لا ينهض للاستدلال على ذلك , ومن أمثلة القسم الأول حديث " قوموا إلى سيدكم " . وقد تقدم الجواب عنه برقم ( 67 ) من وجوه أقواه أنه صح بزيادة : " فأنزلوه " فراجعه .
ومن أمثلة القسم الآخر حديث قيامه صلى الله عليه وسلم حين أقبل عليه أخوه من الرضاعة فأجلسه بين يديه .
فهو حديث ضعيف معضل الإسناد , ولو صح فلا دليل فيه أيضاً وقد بينت ذلك كله في " الأحاديث الضعيفة " ( 1148 ) .