الموضوع: وسائل الثبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 22-02-2003, 03:07 PM   رقم المشاركة : 3
ابوسعود
مؤسس قديم
 
الصورة الرمزية ابوسعود
الملف الشخصي







 
الحالة
ابوسعود غير متواجد حالياً

 


 

الرابع عشر : وصية الرجل الصالح :

عندما يتعرض المسلم لفتنة ويبتليه ربه ليمحصه ، يكون من عوامل الثبات أن يقيض الله له رجلاً صالحاً يعظه ويثبته ، فتكون كلمات ينفع الله بها ، ويسدد الخطى ، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله ، ولقائه ، وجنته ، وناره .

وهاك أخي ، هذه الأمثلة من سيرة الإمام أحمد رحمه الله ، الذي دخل المحنة ليخرج ذهباً نقياً .

لقد سيق إلى المأمون مقيداً بالأغلال ، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه ، حتى لقد قال خادم للإمام أحمد : ( يعز عليّ يا أبا عبد الله ، أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك ، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف ) البداية والنهاية 1/332 .

وهنا ينتهز الأذكياء من أهل البصيرة الفرصة ليلقوا إلى إمامهم بكلمات التثبيت ؛ ففي السير للذهبي 11/238 عن أبي جعفر الأنباري قال : " لما حُمِل أحمد إلى المأمون أخبرت ، فعبرت الفرات ، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه .

فقال : يا أبا جعفر تعنيت .

فقلت : يا هذا ، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك ، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق ، وإن لم تُجب ليمتنعن خلق من الناس كثير ، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك ، فإنك تموت ، لابد من الموت ، فاتق الله ولا تجب . فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله . ثم قال : يا أبا جعفر أعِد ..

فأعدت عليه وهو يقول : ما شاء الله ... أ.هـ "

وقال الإمام أحمد في سياق رحتله إلى المأمون : " صرنا إلى الرحبة منها في جوف الليل ، فعرض لنا رجل فقال : أيكم أحمد بن حنبل .

فقيل له : هذا . فقال للجمال : على رسلك .. ثم قال : " يا هذا ، ما عليك أن تُقتل ها هنا ، وتدخل الجنة " ثم قال : أستودعك الله ، ومضى .

فسألت عنه ، فقيل لي هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له : جابر بن عامر يُذكر بخير " سير أعلام النبلاء 11/241 .

وفي البداية والنهاية : أن أعرابي قال للإمام أحمد : " يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم ، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه ، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله ، فاصبر على ما أنت فيه ، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل " .

قال الإمام أحمد : وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه . البداية والنهاية 1/332

وفي رواية أن الإمام أحمد قال : " ما سمعت كلمة وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي كلمني بها في رحبة طوق وهي بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات ، قال : " يا أحمد إن يقتلك الحق متّ شهيداً ، وإن عشت عشت حميداً .. فقوي قلبي " سير أعلام النبلاء 11/241 .

ويقول الإمام أحمد عن مرافقة الشاب محمد بن نوح الذي صمد معه في الفتنة :

ما رأيت أحداً - على حداثة سنه ، وقدر علمه - أقوم بأمر الله من محمد بن نوح ، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير .

قال لي ذات يوم : " يا أبا عبد الله ، الله الله ، إنك لست مثلي ، أنت رجل يُقتدى بك ، قد مد الخلق أعناقهم إليك ، لما يكون منك ، فاتق الله ، واثبت لأمر الله . فمات وصليت عليه ودفنته . سير أعلام النبلاء 11/242 .

وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مقيد ، قد ساهموا في تثبيته .

فقد قال الإمام أحمد مرة في الحبس : " لست أبالي بالحبس - ما هو ومنزلي إلا واحد - ولا قتلاً بالسيف ، وإنما أخاف فتنة السوط "

فسمعه بعض أهل الحبس فقال : " لا عليك يا أبا عبد الله ، فما هو إلا سوطان ، ثم لا تدري أين يقع الباقي " فكأنه سُرِّي عنه . سير أعلام النبلاء 11/240 .

فاحرص أيها الأخ الكريم على طلب الوصية من الصالحين : وأعقلها إذا تليت عليك .

- اطلبها قبل سفر إذا خشيت مما قد يقع فيه .

- اطلبها أثناء ابتلاء ، أو قبل محنة متوقعة .

- اطلبها إذا عُينت في منصب أو ورثت مالاً وغنى .

وثبت نفسك ، وثبت غيرك والله ولي المؤمنين .

الخامس عشر : التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت :

والجنة بلاد الأفراح ، وسلوة الأحزان ، ومحط رحال المؤمنين والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب ، ويذلل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق .

فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل ، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض ، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه ، ففي الحديث الحسن الصحيح مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذن في الله تعالى فقال لهم : ( صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) رواه الحاكم 3/383 ، وهو حديث حسن صحيح ، انظر تخريجه في فقه السيرة تحقيق الألباني ص103 .

وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار : ( إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) متفق عليه .

وكذلك من تأمل حال الفريقين في القبر ، والحشر ، والحساب ، والميزان ، والصراط ، وسائر منازل الآخرة .

كما أن تذكر الموت يحمي المسلم من التردي ، ويوقفه عند حدود الله فلا يتعداها . لأنه إذا علم أن الموت أدنى من شراك نعله ، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات ، فكيف تسول له نفسه أن يزل ، أو يتمادى في الانحراف ، ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) رواه الترمذي 2/50 وصححه في ارواء الغليل 3/145 .

مواطن الثبات

وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل ، نكتفي بسرد بعضها على وجه الإجمال في هذا المقام :

أولاً : الثبات في الفتن :

التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن ، فإذا تعرض القلب لفتن السراء والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم .

ومن أنواع الفتن :

- فتنة المال : ( ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ) التوبة /75،76

فتنة الجاه : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً ) الكهف /28 .

وعن خطورة الفتنتين السابقتين قال صلى الله عليه وسلم : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) رواه الإمام أحمد في السند 3/460 وهو في صحيح الجامع 5496 . والمعنى أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدين من الذئبين الجائعين أرسلا في غنم .

- فتنة الزوجة : ( إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ) التغابن /14 .

- فتنة الأولاد : ( الولد مجبنة مبخلة محزنة ) رواه أبو يعلى 2/305 وله شواهد ، وهو في صحيح الجامع 7037 .

- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم : ويمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل : ( قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد ) البروج 4-9 .

وروى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ، فقال عليه السلام : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيُجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، من دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه ( رواه البخاري ، انظر فتح الباري 12/315 .

- فتنة الدجال : وهي أعظم فتن المحيا : ( يا أيها الناس إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال .. يا عباد الله ، أيها الناس : فاثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي .. ) رواه ابن ماجه 2/1359 انظر صحيح الجامع 7752.

وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى يصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، إلا ما أشرب من هواه ) رواه الإمام أحمد 5/386 ، ومسلم 1/128 واللفظ له . " معنى عرض الحصير : أي تؤثر الفتن في القلب كتأثير الحصير في جنب النائم عليه . ومعنى مربداً : بياض شديد قد خالطه سواد ، مجخياً : أي مقلوباً منكوساً . "

ثانياً : الثبات في الجهاد :

( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) الأنفال /45 . ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف وكان عليه الصلاة والسلام وهو يحمل التراب على ظهره في الخندق يردد مع المؤمنين : ( وثبت الأقدام إن لاقينا ) رواه البخاري في كتاب الغزوات ، باب غزوة الخندق انظر الفتح 7/399 .

ثالثاً : الثبات على المنهج :

( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلاً ) الأحزاب /23 مبادئهم أغلى من أرواحهم ، إصرار لا يعرف التنازل .

رابعاً : الثبات عند الممات :

أما أهل الكفر والفجور فإنهم يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربة فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت ، وهذا من علامات سوء الخاتمة كما قيل لرجل عند موته : قل لا إله إلا الله فجعل يحرك رأسه يميناً وشمالاً يرفض قولها .

وآخر يقول عند موته : " هذه قطعة جيدة ، هذه مشتراها رخيص " ، وثالث يذكر أسماء قطع الشطرنج . ورابع يدندن بألحان أو كلمات أغنية ، أو ذكر معشوق .

ذلك لأن مثل هذه الأمور أشغلتهم عن ذكر الله في الدنيا .

وقد يرى من هؤلاء سواد وجه أو نتن رائحة ، أو صرف عن القبلة عند خروج أرواحهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

أما أهل الصلاح والسنة فإن الله يوفقهم للثبات عند الممات ، فينطقون بالشهادتين .

وقد يُرى من هؤلاء تههل وجه أو طيب رائحة ونوع استبشار عند خروج أرواحهم .

وهذا مثال لواحد ممن وفقهم الله للثبات في نازلة الموت ، إنه أبو زرعة الرازي أحد أئمة أهل الحديث وهذا سياق قصته :

قال أبو جعفر محمد بن علي ورّاق أبي زرعة : حضرنا أبا زرعة بما شهران قرية من قرى الري وهو في السَّوْق أي عند احتضاره وعنده أبو حاتم وابن واره والمنذر بن شاذان وغيرهم ، فذكروا حديث التلقين ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه ، فقالوا تعالوا نذكر الحديث ، فقال ابن واره : حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح ، وجعل يقول ابن أبي - ولم يجاوزه - فقال أبو حاتم : حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح ، لم يجاوز ، والباقون سكتوا ، فقال أبو زرعة وهو في السَّوْق " وفتح عينيه " حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح ابن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) وخرجت روحه رحمه الله . سير أعلام النبلاء 13/76-85 .

ومثل هؤلاء قال الله فيهم : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) فصلت /30 .

اللهم اجعلنا منهم ، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .







رد مع اقتباس