أحقّاً نريد السعودة .؟!
الأربعاء 03, نوفمبر 2010
حسين بن علي القحطانيّ
لجينيات ـ اطّلعت على أكثر ما كتب وعلّق حول منع غير السعوديّين من العمل في حلقات تحفيظ القرآن الكريم ، وما ترتّب على ذلك من حرمان عشرات الآلاف من أبنائنا من حفظ القرآن الكريم ، وتعلّم قراءته وتجويده .. وأرى أنّ كثيراً ممّا كتب عالج بعض جوانب الموضوع ، وأهمل أخرى ، وأخطأ في معالجة ثالثة .. والسؤال الذي أحبّ أن أفتتح به ملاحظاتي : عندما تقرّر أسرة ما أن لا ترسل ابنها إلى المدرسة ، وتضعه في البيت ، بلا تعليم ولا تربية .. من المتضرّر أوّلاً وآخراً .؟! إنّه لا يشكّ أحد من العقلاء أنّ الضرر الأكبر على الطفل ، وأنّ تضرّر المدرسة لا يذكر أمامه .. وكذلك لو قرّر مجموعة من الأسر هذا القرار ، وحتّى لو تسبّبوا في إلغاء وظيفة معلّم من المدرسة ، وتسريحه من العمل ، فالمتضرّر الأكبر كذلك هم أولئك الأطفال .. وضرر المعلّم لا يصحّ أن يقارن بضررهم ، لأنّه بكلّ بساطة يستطيع بما معه من سلاح العلم والخبرة أن يبحث عن مدرسة أخرى ، أو باب آخر للرزق .. وهؤلاء الأطفال عندما يفوتهم التعليم في هذا السنّ الغضّ المبكّر ربّما يتحدّد مسار حياتهم أن يكونوا في ركاب الجهل مدى العمر ..
وألخّص رؤيتي لهذا القرار بالملاحظات التالية :
ـ إذا كانت السعودة يراد منها نفع البلاد والعباد ، وتحقيق المصالح ودفع المفاسد .. فهذا القرار ضارّ بالسعودة والسعوديّين أوّلاً ، وثانياً وثالثاً ورابعاً .. وإن شئت فخامساً .. ضارّ بالسعوديّين أوّلاً لأنّه حرم عشرات الآلاف من أبنائنا من حفظ القرآن الكريم ، وتعلّم قراءته وتجويده .. ولم يهيّئ لهم البديل عن هذا الحرمان الخطير على دينهم وحسن نشأتهم وسلامة سلوكهم .. وضارّ بالسعوديّين ثانياً لأنّه أضرّ مع الأبناء الآباء والأمّهات وجرح قلوبهم ، وقد كانت أمنيتهم أن يروا أبناءهم حفظة لكتاب الله عزّ وجلّ ، أو مهرة في تلاوته وتجويده على الأقلّ .. وضارّ بالسعوديّين ثالثاً كشعب متميّز بتديّنه ، له سمعته بين شعوب الأمّة الإسلاميّة .. فنحن أيّها السادة شعب متديّن بفطرته ، لا يقدّم شيئاً على دينه ، وكتاب ربّه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ، وأقول ذلك وأشهد والله لا من حماسة أو عصبيّة ، ولكنّني من واقع العمل التربويّ الميدانيّ ، فقد عملت في التعليم أكثر من خمسة عشر عاماً ، كما عملت في إدارة التعليم الأهليّ ، وكنت وثيق الصلة باتّصال الآباء والأمّهات من أولياء أمور الطلاّب ، وكان أولياء الأمور من السعوديّين أكثر الجنسيّات حرصاً على تعليم القرآن لأبنائهم ، وفرحاً باهتمام المدرسة بذلك .. ثمّ هذا القرار ضارّ بالسعوديّين رابعاً .. فيما أكرمهم الله وخصّهم به من احتضان الحرمين الشريفين ، وشرف رعاية شعيرة الركن الخامس من أركان الإسلام ، وخدمة ضيوف الرحمن ، وهذا الشرف العظيم جعل ولاة أمرنا حفظهم الله ورعاهم لا يرتضون وصفاً لهم سوى خدمة الحرمين الشريفين .. وهذا القرار أيضاً ضارّ بالسعوديّين خامساً ، لأنّه ينال من سمعة ولاة أمرهم ويسيء إليها ، إذ لا يمكن أن يبرّر أو يفسّر بحسنة نيّة .. ومن شكّك في ذلك فليدخل فضاء النت ، وليرَ ما يكتب فيه ، يجد الدليل المادّي الذي لا يماري فيه عاقل .. وهو بذلك يهيّئ فرصة ذهبيّة لمن كان في قلبه مرض ، من خفافيش الظلام ، وأصحاب الفكر الضالّ ، ليصطادوا في الماء العكر ، وتكون في أيديهم مادّة دسمة للتشويش والتشويه .. وفي الأثر : « رَحِمَ الله امْرَأً جَبَّ الغِيبَةَ عَنْ نَفْسِهِ » .
وهذا القرار ضرر قبل ذلك كلّه وبعده على السعوديّة والسعوديّين إيمانيّاً وروحيّاً ، إذ كيف لنا أن نستنزل عون الله وتأييده ، ورعايته وتوفيقه ، ونحن نمنع ألفاً ومئتين من حلق القرآن الكريم من بيوت الله تحت أيّ ذريعة كانت .. وبجرّة قلم .! يتسكّع أبناؤنا في الشوارع ، وتقفر المساجد ، بعد أن كان لها دويّ بالقرآن كدويّ النحل .؟! فهذا والله من أخصّ حمى الله ، الذي لا يمكن بحال من الأحوال أن ينتهك .. وهل لنا بعد ذلك أن ندعو فيستجاب لنا ، أو نستغيث فنغاث .؟!
ـ إنّ منع غير السعوديّين من العمل في هذا الميدان لم يوفّر لأبنائنا السعوديّين فرصة من العمل المناسب كانت محجوبة عنهم ؛ لأنّ أكثر أبنائنا من السعوديّين المؤهّلين شرعاً للعمل في هذا الميدان لا يرتضون أخذ مكافأة على هذا العمل ، ومن يقوم به محتسباً متطوّعاً ، لا يلتزم بعمله كما يجب ، إذ إنّه متطوّع محتسب ، ولسان حاله وقاله يقول : « ما على المحسنين من سبيل .. » والقلّة القليلة التي ترضى العمل في هذا الميدان لا تشدّها هذه المكافأة المتواضعة ، وما تتطلّبه من جهد كبير .. وأذكر أنّ بعض أولياء أمور الطلاّب زار حلقة ابنه في بعض المساجد ، وجلس في الحلقة ليرى المدرّس كيف يدرّس ، وعندما رأى جهده ومعاناته قال للمسؤول عن التحفيظ : " يا أخي حرام عليكم .. والله لو كنت مكان هذا المدرّس لما عملت عندكم بأقلّ من ألف وخمسمئة ريال ..! " .
وقد روي أنّ الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه أعطى الشيخ الذي حفّظ ولده سورة الفاتحة خمسمئة درهم ، وهي تساوي في قيمتها الشرائيّة اليوم أكثر من عشرة آلاف ريال ، وعندما تعجّب ذلك الشيخ قال له الإمام : " والله إنّ هذا قليل في جنب كتاب الله " .
ـ وبناء على هذه الملاحظة فإنّ هذه المهمّة الشاقّة غير قابلة لما يسمّى " السعودة " بحال من الأحوال .. كما أنّنا لا نرضى لأبنائنا بهذا العمل مع شدّة تقديرنا وتعظيمنا له عن ترتيب أوضاعهم الاجتماعيّة ، وبناء مستقبلهم بما يكفل لهم العيش الكريم .. وما حجب بهذا القرار من الخير عن أبنائنا والله لا يقدّر بأضعاف مضاعفة ممّا يبذل من هذه المكافأة الزهيدة ، التي لا أعتقد أنّ عاقلاً من العقلاء يستكثرها على تحفيظ أبنائه القرآن وتعليم تلاوته وتجويده ، ممّا يحفظ دينهم وأخلاقهم ، ويحصّن نفوسهم من مزالق الضلال والفساد .. ونحن نعلم أنّ المقتدرين من أبناء هذا البلد يحضرون مدرّساً خاصّاً إلى بيوتهم بمكافآت أضعاف هذه المكافأة ، ليعلّم أبناءهم القرآن بالدرجة الأولى ، ويتابعهم في دراستهم .. وما كلّ شعبنا بقادر على ذلك ..
ـ وهمسة لأولئك المتكرّهين من وجود الوافدين بيننا ، الذين يظنّون أنّهم يزاحمون أبناءنا في فرص أعمالهم : إنّ هذا القرار لم يضرّ هؤلاء الوافدين في شيء .. وإنّما كما أسلفت ضرره أوّلاً وآخراً علينا ، فمن حرم نفسه خير كتاب الله فقد حرم نفسه كلّ خير .. وهؤلاء المحفّظون محسنون لنا ، متفضّلون علينا .. وهل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان .؟! وهم لم يتضرّروا مادّيّاً إلاّ بشيء يسير ، لأنّ أكثرهم يعملون في النهار أعمالاً أخرى من التدريس وغيره ، ومنعهم من التحفيظ لا يلغي وجودهم النظاميّ في البلد ، فلا معنى لهذا القرار إذن بأيّ اعتبار ..
ـ ثمّ إنّ هذا القرار لا يلتقي في شيء مع المزايا الكريمة التي تتمتّع بها المملكة : قيادة وشعباً ، محلّيّاً وإسلاميّاً ودوليّاً ؛ فولاة أمرنا بحمد الله بدءاً من خادم الحرمين الشريفين ، ووليّ عهده الأمين والنائب الثاني حفظهم الله ورعاهم ، ونظام الحكم القائم على تحكيم كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ، وانتهاء بكلّ الوزارات والإدارات الحكوميّة ، ثمّ ثقافة هذا الشعب ، الذي يجلّ كتاب الله عزّ وجلّ ويعظّمه غاية التعظيم ، ولا يؤثر عليه شيئاً في الدنيا .. كلّ ذلك لا يلتقي مع هذا القرار ، ولا يصدّق صدوره بحال من الأحوال .. وهل يعقل أنّ المملكة التي تتكلّف مئات الملايين في طباعة المصحف الشريف ، وترجمة معانيه إلى مختلف اللغات ، ونشره في أرجاء العالم ، تغلق حلق تحفيظ القرآن الكريم في مساجدها ، ويحرم أبناؤها من تعلّمه وتجويده .؟! وهي تتّخذ شعاراً على مدخل عاصمتها المقدّسة ، وبوّابتها من جهة جدّة كرسيّ مصحف ، عليه مجسّم المصحف الشريف ، يملأ عرض الطريق ، ويدخل كلّ قاصد مكّة المكرّمة من تحته .. وهل يعقل أنّ كلّ من حولنا من الدول العربيّة التي تعلن علمانيّة نظامها السياسيّ ، ومع ذلك فهي تسمح بحلق القرآن الكريم في مساجدها ، وحلقات القرآن الكريم فيها عامرة ، ونشاطها في ذلك محلّ تقدير واعتبار .. بينما تغلق حلق تحفيظ القرآن الكريم في مساجدنا ، ويصرف أبناؤنا إلى بيوتهم بحجّة السعودة .؟! فهلاّ كانت السعودة في مجالات أهمّ من ذلك وأجدى .؟!
وكلمة أخيرة أهمس بها لأمير مكّة ، الرجل الماجد النبيل ، سليل الأماجد الكرام ، الذي شرّفه الله تعالى بهذا المنصب الجليل ، وأنا أعلم وكلّ الناس يعلمون أنّه ليس بحاجة إلى ثناء المثنين ، ولا مدح المادحين ، ولن آتيه من ذلك بجديد .. وإنّما هو بحاجة إلى نصح الناصحين المشفقين ، وخير نصيحة أزجيها إليه قول الخليفة الراشد عمر بن الخطّاب في كتابه عن القضاء إلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهما : " .. وَلَا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْت فِيهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْت فِيهِ رَأْيَك فَهُدِيت فِيهِ لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ .. " .
أسأل الله العليّ القدير بأسمائه وصفاته أن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا ، ويحفظ بلادنا خاصّة وبلاد المسلمين عامّة من كلّ فتنة وبلاء ، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه ، إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب . والحمد لله ربّ العالمين .
وكتبه المفتقر إلى رحمة ربّه حسين بن علي القحطانيّ أبو براء
معلّم وتربويّ متقاعد 22/11/1431 هـ
المواضيع المتشابهه
وفقك الباري 
العرض العادي
