أعلنت عليك الحب
بقلم الدكتور / عبدالله العرفج
عندما تكون الأشياء كبيرة المبنى والمعنى، وقريبة جدًا من النفس والقلب والروح، تعجز الكلمات عن التعبير، و" تنشب" الحروف غصة في الحلق، وتبقى تتجلجل محبوسة في الداخل، خجلًا ووجلًا في أن لا تكون " قد المقام " وتتعثر الأقلام قاصرة عن تسطير ما يعبر عن حال الموصوف.
ومن أكبر الأشياء وأجلها قيمةً الوطن، ولذلك فمهما كانت المشاعر صادقة ونبيلة وجياشة، ومحفورة في أعماقنا نحن المسكونين بهذا العشق الأصيل المقيم، فهي لا تخرج بسهولة خشية أن تكون أقل جمالًا ورونقًا، ومهما كانت العبارات جميلة وأنيقة وراقية، فهي قليلة وصغيرة بحق الوطن.
ما أحوجنا في هذه الأيام لحملة وطنية خاصة بالوطن، لا يكفي يوم واحد في السنة لنحتفل بالوطن، ولا تكفي حصة واحدة في الأسبوع لتعلمنا أبجديات حب الوطن، يجب أن تكون أيامنا كلها منذورة للوطن، وإمكانياتنا بكل تنوعها مسخرة لخدمة الوطن، حتى يختلط بدمنا ومشاعرنا ويصير جزءًا منا.
حب الوطن، يجب أن نرضعه مع حليب الأمهات، وأن يسكب في وجداننا ونحن نحبو في أفنية بيوتنا، ونزهو بنطقه ونحن نلثغ بكلماتنا الأولى، ونلهج بحروفه ونحن نخطو خطواتنا الأولى المتعثرة، ونتغنى فيه مع نطق أول جملة مكتملة المعنى، نتشرب حبه مع قواعد السلوك التي يعلمنا إياها الآباء والأمهات، ثم لا نكف ولا نتوقف أبداً عن حبه، في جميع مراحل العمر، وفي كل الفضاءات: في البيت، والمدرسة، والمؤسسات التي نعمل فيها، نتعلم فيها كيف نحب الوطن، وكيف نحافظ على مكتسبات الوطن، وكيف نضحي من أجل الوطن، نحبه سلوكا حضاريا يرفع من شأنه، وليست مجرد كلمات نرددها.
الوطن ليس ترابًا نمشي فوقه، أو هواءً نتنفسه، أو ماءً نشربه، وليس جبالًا، وتلالًا، وصحارى، وبحارا، وأشجارا.. الوطن هو كل تلك الجغرافيا معجونا بتاريخ من العواطف والألفة ليكون حبًا وعشقًا، يدفع دومًا نحو العطاء والتضحية.
لا تقل ماذا أعطاني الوطن، بل قل ماذا قدمت للوطن. لا تقل ماذا سوف يعطيني الوطن، بل قل ماذا سوف أقدم للوطن. الوطن أنت وأنا، هو وهي، الوطن نحن كيانًا واحدًا متماسكًا؛ من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب اسمه المملكة العربية السعودية.
وأستبعد أن يكون منا من يحب الوطن، ويتقرب منه، ويتغزل فيه في رغد العيش ويقصر في حبه عند العوز. وإذا كان منا من يجحد وينكر، ويكفر ولا يشكر، فان الوطن كريم معطاء، يعطي ولا يبخل. بل يجزل في العطاء ويغدق على المحبين الصادقين الذين يوغلون في حبه في جميع أحواله.
من حقنا كسعوديين، أن نفخر بهذه المعجزة التي قامت فوق الرمال، وصارت راسخة، مثل طويق والسروات. جمعت ما تفرق، ووحدت ما تعدد، وصهرت ما قسى وتصلب، في جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، في مجتمع واحد يمتد من البحر إلى البحر اسمه المملكة العربية السعودية، في تجربة تاريخية فريدة ونادرة، من حقه علينا أن ننقلها لعقول ووجدانات أبنائنا.
الوطن ليس نبتة برية منبتة لا أصل لها، هذا الوطن موغل و متجذر في التاريخ. التاريخ الإسلامي بالتحديد، والعقيدة الإسلامية البسيطة الصافية، ومنغمس في أعماقنا مع العاطفة الدينية السامية، فصار الوطن والإسلام متآلفين لا متنافرين، فرأينا الوطن محلقًا في سماء الحداثة دون أن يفقد أصالته، محققًا المعادلة الصعبة.
وطني، بعض الكلمات لا تخرج من قلوب الرجال بسهولة، مثل أحبك، يظنون بها، ويظنون أنها تخدش كبرياءهم، وكم من عاشق مات كمداً دون أن يقولها، ولكنها تنساب كجدول ماء رقراق في طريقها إليك يا وطني، دون إحساسٍ أو شعورٍ بامتهان الكرامة، ونقصٍ في الكبرياء، فاسمح لي أن أقولها بكل فخر وشموخ وبصوت عالٍ: كم احبك يا وطني.
ولأني أحبك يا وطني، فإني أتمنى أن تكون أبهى وأقوى وأجمل الأوطان، ومن هذا المنطلق فإن من الحب أيضا، أن لا أغض النظر عن البقع السوداء الصغيرة فيما لو تتناثرت هنا وهناك على ردائك الأبيض الطاهر لنغسلها معًا، حتى يظل الرداء ناصع البياض كالثلج كما هو دائمًا، وحتماً فإن تبيان المحب يدفع للأمام، أما تصريح الحاقد فيسحب للوراء.
أرأيتم ! ألم أقل لكم في البداية أن التعبير عن الأشياء الأثيرة والحميمة والقريبة من النفس والعظيمة يصعب على المحبين، ويخرج مرتبكًا خجولًا مثل تعبيري هذا في حضرة الوطن، فلتعذروني وليعذرني الوطن.