واحَةُ الذاتِ المُقَدَسة ..!!
بقلم الأستاذ / أحمد النجار *
للقُدسية معانٍ كثيرة واستخداماتٍ عدة , وهذا المُصطلح وإن ارتبط في أذهان الكثير بالله - جل في علاه – وماتعلقَ بهِ – سبحانه – وماقَدَسَهُ هو بحكمته وعلمه .., إلا أن هذا المصطلح - بما يحمل من معاني الطهارة والحُرمَة – يمكن استخدامه مع ذواتنا وبكل أريحية ..
وقبلَ أن أشرعَ في شرحِ فلسفتي هذه لابُد من توطئةٍ تكون مدخلاً لهذه الفلسفة ..
وتبدأ القصة مع آدم - عليه السلام – فالله – سبحانه وتعالى – خلقَ آدم وحيداً ولم يخلق معه أحداً من جنس البشر أبداً , حتى جاءت حواء - عليها السلام – ثم حدث النزول والذي كان معلوماً عند علام الغيوب – سبحانه - قبل أن يُخلقَ آدمَ - عليه السلام – فقال عز من قائل :
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } هذا الخطاب كان قبلَ أن يُخلقَ آدم - عليه السلام - , ثم حدث النزول والتكاثر لإعمار الأرض , وماتبع ذلك من صدمات وتصالحات واتفاقات وخلافات ..!!
كل هذا الحراك كان من الطبعي أن يتسبب – ومع الوقت – في ابتعاد الإنسان عن كونه خُلِقَ – في الأصل - وحيداً , ليتحول إلى كائنٍ اجتماعي يحتاج إلى التواجد ضمن مجموعة تربطه بهم وتربطهم بهِ مجموعة منافع ومصالح مادية ومعنوية , ومن هنا بدأت رحلة انفصال الإنسان عن ذاته تصل إلى حد التماهي Identification مع ذوات الآخرين , عبر الترابط والتمازج وحتى الانصهار ..!!!
والشريعة الإسلامية العبقرية جاءت – بأمر الله – بضوابط ذكية للغاية تُنَظِمُ هذا التماهي وتضع له حداً وتحوله إلى أمرٍ إيجابي , وفي نفس الوقت تُعززُ لدى الفرد فكرة كونه وحيداً ولابد أن يتصل بذاته ليتم من خلال ذلك اتصاله بالله عز وجل ..
ففي الوقت الذي حث الله سبحانه وتعالى على الترابط والتماسك واجتماع الكلمة واتحاد الصف
عبر سلسلة من التشريعات , في الوقت نفسه حذر من التبعية العمياء والتعصب للجماعة , بل وقد أعلن صراحة أن الكثرة لاتعني الحق ولا الصواب ..!!
قال تعالى: { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } وقال جل وعلا: { وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ..
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يد الله مع الجماعة)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا. فيرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تَفرَّقوا. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)
وفي الجانب الآخر حذر - سبحانه وتعالى – من الانقياد الأعمى للكثرة , فلو بحثت عن كلمة ( أكثر الناس ) في القرآن الكريم لوجدت بعدها ( لا يعلمون - لا يشكرون - لا يؤمنون )
ولو بحثت عن كلمة ( أكثرهم ) لوجدت بعدها ( فاسقون - يجهلون - معرضون - لا يعقلون - لا يسمعون ) ..!!!
هذا التوازن العبقري هو ماينظم ( التماهي ) الذي تحدثت عنه ويجعل له ضوابط حق وخير وجمال ونور , ويجعل للفرد مكانه المميز من الجماعة دون أن ينسلخ من ذاته ويُسلب إرادته ..
ولو نظرنا لكافة التشريعات التي كان محورها الفرد ذكراً كان أو أنثى فسنجدها تعزز عودة الإنسان إلى ذاته والاتصال بها , وحتى إن أمتدَ , فهو يمتد امتداداً صحياً نحو ذوات أخرى , وليس ذوباناً كاملاً فيها ..!!
فكل النُسك – حتى وإن كان يؤدى جماعة – إلا أنه في الأصل يؤديه الفرد بنفسه ولاأحد معه , فالصلاة – وإن كانت تؤدى جماعة – إلا أن الفرد مطلوبٌ منه أن يقوم لوحده بكل متطلباتها وليس شخصاً آخر , وقس على ذلك الصيام والحج وكافة الأعمال وبلا استثناء ..
وهنا حافظ على ارتباط الإنسان بذاته وعدم انسلاخه منها بشكلٍ رائع وعبقري للغاية ..!!
وهذا المعنى يتضح جلياً عندما ننظر لبعث الإنسان لوحده يوم القيامة , ويأتي الإعلان الصريح الذي لا لبس فيه عندما يقول عز من قائل : { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه } { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } ..!!!
هذه التوطئة لابد أنها ألهمتك – كما ألهمتني – وألقت لك بعض الضوء على فلسفة ( واحة الذات المُقدسة ) ..
فنحن وبسبب غرقنا في الحياة المادية ثم دخولنا القوي والمفاجئ في عوالم البث الفضائي والأجهزة الذكية والتقنية التي مدت ذراعها الميكانيكية القوية وأمسكت بتلابيب الإنسان ورمت به بعيداً عمن يجب أن يكون قريباً منهم , ثم بلغت من الوقاحة أنها نزعته حتى من ذاته ..!!
أتظنُ أن يُمسك ( الريموت ) أو يتشبث بجهازه الذكي متنقلاً من موقعٍ لموقع ومن تطبيق لتطبيق لساعاتٍ وساعاتٍ , هو باحثٌ عن علم أو منفعة فقط ؟!!
كم أنت طيب القلب ياسيدي ..!!!
إنما جزء كبيرٌ من ذلك هو نوع من أنواع الفرار المُبرر نفسياً – عنده على الأقل – من ظروفه ومصاعب حياته وهمومه , والكارثة الأخطر هو هروبه من ذاته ..!!!
فكثيرٌ منا بات يفر من الحديث مع ذاته والجلوس مع نفسه , وحتى وإن فعل ذلك فهو لايتمالك نفسه أن يعود مسرعاً في أحضان جهازه الذكي بعد أن شعر بحكة في أصابعه ..!!!
وهنا لابد أن نعتمد فلسفة ( واحة الذات المقدسة ) ..
فدائماً كنت أطلب من الناس أن يتصلوا كثيراً بذواتهم عبر استراتيجيات خاصة , منها فهم الذات وتقديرها والاصطلاح معها , ومنها – أيضاً – تخصيص منطقة نفسية خضراء آمنة غناء كالواحة في الصحاري القاحلة , وجعلها منطقة مقدسة لايطأها كائنٌ من كان , ولايستطيع الوصول إليها أي شخصٍ في الدنيا مهما كانت درجة قرابته ..!! ولايستطيع كائناً من كان أن يوصل أذاه إليها مهما بلغت درجة الأذى ..!!
هذه المنطقة هي التي تستطيع الدخول إليها كلما دعتك الحاجة لذلك لتستعيد قواك وتعيد ترتيب حساباتك ولملمة أشتاتك , لكي تتصل بذاوات من حولك اتصالاً إيجابياً فتبر أمك وأبيك وتعطي كل ذي حقٍ حقه وتنزل كل شخصٍ في المكان الذي لابد أن يكون فيه ..!!
تجهيز هذه الواحة ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى درجةٍ عالية من الحرية النفسية والتدرب , وأول خطوة في إعداد هذه الواحة : هي تخصيص مكانٍ خاصٍ بك في منزلك في مكتبك في مُصلاك في أي مكان تختاره , وتحديده ليكون مكاناً للجلوس المريح فيه , بعيداً عن الإزعاج والشواغل قدر المستطاع , واجلس في هذا المكان ولو لفترة بسيطة كل يوم مارس فيه صلاتك وأقرأ فيه القرآن أو أي كتاب تشاء وأقم فيه نوافلك وأذكارك , أو أجلس فيه ساكناً فقط متفكراً في حياتك ومن حولك .., ولكن قبل دخولك إلى هذه الواحه ( اخلع ) جهازك الذكي , أو اجعله للأمور الهامة جداً فقط ..!!!
ومع الوقت – وثق بي – ستجد أن واحتك بدأتْ تتضح معالمها , وبدأتَ تجد ذاتك بها وتتصل بها , وعندها ستكتشف قيمة هذه الفلسفة وستشكرني عليها كثيراً ..
** وهاهو رمضان المعظم قد أقبل ، وهو أروع وأجمل فرصة للبدء في تأسيس واحتك الخاصة بك مهما كانت مشاغلك ..
في هذا الشهر يحبس الله الشيطان عنك ليدعك واقفاً وجهاً لوجهٍ أمام ذاتك , فمن كنت تتحجج به قد حُبِسَ , وهذه فرصة عظيمة لمعرفة أين يكمن الخلل الحقيقي ..!!!