قبس التنزيل من هدايات المئين و المثاني ( ١٩)
بقلم الأستاذة / مضاوي القويضي *
بعون الله سأتناول شيئا من تدبر سورتي الدخان التي سميت بذلك لورود ذكر دخان فيها ، ﴿فَارتَقِب يَومَ تَأتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبينٍ﴾ من تفسير السعدي رحمه الله تعالى المسمى [تيسير الكريم الرحمن من تفسير كلام المنان ] وتدبر أواخر سورة الجاثية التي سميت بذلك لورود ذكر لفظة الجاثية فيها ، ﴿وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدعى إِلى كِتابِهَا اليَومَ تُجزَونَ ما كُنتُم تَعمَلونَ﴾ من المختصر في التفسير ( حم ) الدخان (1)
الدخان من الحواميم السبع التي تبدأ ب قوله تعالى(حم) وقد قلنا أن الحروف المقطعة ضرب من ضروب الإعجاز والتحدي القرآني نتوقف فيه عن الخوض في الكلام حوله فالله أعلى وأعلم بعلة سوقه إلينا (شرح بتصرف )
( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ) الدخان (2)
هذا قسم بالقرآن على القرآن.
( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) الدخان (3)
فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه أنه أنزله { فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي: كثيرة الخير والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام، بلغة العرب الكرام لينذر به قوما عمتهم الجهالة وغلبت عليهم الشقاوة فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه فيحصل لهم الخير الدنيوي والخير الأخروي ولهذا قال: { إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا } أي: في تلك الليل الفاضلة التي نزل فيها القرآن
( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) الدخان (4)
{ يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي: يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم الله به، وهذه الكتابة والفرقان، الذي يكون في ليلة القدر أحد الكتابات التي تكتب وتميز فتطابق الكتاب الأول الذي كتب الله به مقادير الخلائق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وأحوالهم، ثم إن الله تعالى قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه، ثم وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا وكل به كراما كاتبين يكتبون ويحفظون عليه أعماله، ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة، وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته وإتقان حفظه واعتنائه تعالى بخلقه.
( أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) الدخان (5)
{ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا } أي: هذا الأمر الحكيم أمر صادر من عندنا.
{ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } للرسل ومنزلين للكتب والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقداره.
( رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) الدخان (6)
{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } أي: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب التي أفضلها القرآن رحمة من رب العباد بالعباد، فما رحم الله عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل، وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة فإنه من أجل ذلك وسببه، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي: يسمع جميع الأصوات ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه فرحمهم بذلك ومن عليهم فله تعالى الحمد والمنة والإحسان.
( رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ) الدخان (7)
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي: خالق ذلك ومدبره والمتصرف فيه بما شاء. { إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } أي: عالمين بذلك علما مفيدا لليقين فاعلموا أن الرب للمخلوقات هو إلهها الحق .
( لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) الدخان (8)
{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي: لا معبود إلا وجهه، { يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي: هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } أي: رب الأولين والآخرين مربيهم بالنعم الدافع عنهم النقم.
( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) الدخان (9)
فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته بما يوجب العلم التام ويدفع الشك أخبر أن الكافرين مع هذا البيان { فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ } أي: منغمرون في الشكوك والشبهات غافلون عما خلقوا له قد اشتغلوا باللعب الباطل، الذي لا يجدي عليهم إلا الضرر.
( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ) الدخان (10)
{ فَارْتَقِبْ } أي: انتظر فيهم العذاب فإنه قد قرب وآن أوانه، { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ }
( يَغْشَى النَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الدخان (11)
[يَغْشَى النَّاسَ } أي: يعمهم ذلك الدخان ويقال لهم: { هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان، فقيل: إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة وأن الله توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم.
ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم وترهيبهم بذلك اليوم وعذابه وتسلية الرسول والمؤمنين بالانتظار بمن آذاهم. [ جميع ما سبق ذكره من تفسير الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى وتفسير الآية الأولى بتصرف يسير مني] وأنتقل الآن لتفسير المختصر في التفسير لتدبر أواخر سورة الجاثية
﴿وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدعى إِلى كِتابِهَا اليَومَ تُجزَونَ ما كُنتُم تَعمَلونَ﴾ [الجاثية: 28]
وترى - أيها الرسول - في ذلك اليوم كل أمة باركة على ركبها تنتظر ما يفعل بها، كل أمة تدعى إلى كتاب أعمالها الذي كتبه الحفظة من الملائكة، اليوم تجزون - أيها الناس - ما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشرّ.
- المختصر في التفسير
﴿هذا كِتابُنا يَنطِقُ عَلَيكُم بِالحَقِّ إِنّا كُنّا نَستَنسِخُ ما كُنتُم تَعمَلونَ﴾ [ الجاثية: 29]
هذا كتابنا - الذي كانت ملائكتنا تكتب فيه أعمالكم - يشهد عليكم بالحقّ فاقرؤوه، إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب ما كنتم تعملون في الدنيا.
- المختصر في التفسير
﴿فَأَمَّا الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُدخِلُهُم رَبُّهُم في رَحمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الفَوزُ المُبينُ﴾ [ الجاثية: 30]
فأما الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات فيدخلهم ربهم سبحانه في جنته برحمته؛ ذلك الجزاء الذي أعطاهم الله إياه هو الفوز الواضح الذي لا يدانيه فوز.
- المختصر في والتفسير
﴿وَأَمَّا الَّذينَ كَفَروا أَفَلَم تَكُن آياتي تُتلى عَلَيكُم فَاستَكبَرتُم وَكُنتُم قَومًا مُجرِمينَ﴾ [ الجاثية : 31]
وأما الذين كفروا بالله فيقال لهم تَبْكِيتًا لهم: ألم تكن آياتي تقرأ عليكم فتعاليتم على الإيمان بها، وكنتم قومًا مجرمين، تكسبون الكفر والآثام؟!
- المختصر في التفسير
﴿وَإِذا قيلَ إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسّاعَةُ لا رَيبَ فيها قُلتُم ما نَدري مَا السّاعَةُ إِن نَظُنُّ إِلّا ظَنًّا وَما نَحنُ بِمُستَيقِنينَ﴾ [الجاثية: 32]
وإذا قيل لكم: إن وعد الله - الذي وعد به عباده أنه سيبعثهم ويجازيهم - حق لا مِرْية فيه، والساعة حق لا شك فيها فاعملوا لها، قلتم: ما ندري ما هذه الساعة، إن نظن إلا ظنًّا ضعيفًا أنها آتية، وما نحن بمستيقنين أنها ستأتي.
- المختصر في التفسير
﴿وَبَدا لَهُم سَيِّئَاتُ ما عَمِلوا وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئونَ﴾ [ الجاثية: 33]
وظهر لهم سيئات ما عملوه في الدنيا من الكفر والمعاصي، ونزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به عندما يُحَذَّرون منه.
- المختصر في التفسير
﴿وَقيلَ اليَومَ نَنساكُم كَما نَسيتُم لِقاءَ يَومِكُم هذا وَمَأواكُمُ النّارُ وَما لَكُم مِن ناصِرينَ﴾ [ الجاثية: 34]
وقال لهم الله: اليوم نترككم في النار كما أنكم نسيتم لقاء يومكم هذا، فلم تستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح، ومستقرّكم الذي تأوون إليه هو النار، وليس لكم من ناصرين يدفعون عنكم عذاب الله.
- المختصر في التفسير
﴿ذلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذتُم آياتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتكُمُ الحَياةُ الدُّنيا فَاليَومَ لا يُخرَجونَ مِنها وَلا هُم يُستَعتَبونَ﴾ [الجاثية: 35]
ذلكم العذاب الذي عذبتم به بسبب أنكم اتخذتم آيات الله هزؤًا تسخرون منها، وخدعتكم الحياة بلذّاتها وشهواتها، فاليوم لا يخرج هؤلاء الكفار المستهزئون بآيات الله من النار، بل يبقون فيها خالدين أبدًا، ولا يردّون إلى الحياة الدنيا ليعملوا عملاً صالحًا، ولا يرضى عنهم ربهم.
- المختصر في التفسير
﴿فَلِلَّهِ الحَمدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الأَرضِ رَبِّ العالَمينَ﴾ [الجاثية: 36]
فللَّه وحده الحمد، رب السماوات ورب الأرض، ورب جميع المخلوقات.
- المختصر في التفسير
﴿وَلَهُ الكِبرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [ الجاثية: 37]
وله الجلال والعظمة في السماوات وفي الأرض، وهو العزيز الذي لا يغالبه أحد، الحكيم في خلقه وتقديره وتدبيره وشرعه.
- المختصر في التفسير
وأختم بقولي إن القرآن الكريم بمختلف وجوه إعجازه يجذبك إليه يجعل ترنو إلى ما عند الله من ثواب وتخشى العقاب يكفي أنه كلام الله المعجز إلى يوم القيامة سبحان منزله ﴿من له الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}
* بكالوريوس الآداب في الدراسات الإسلامية جامعة نورة بنت عبدالرحمن باحثة ماجستير في القرآن الكريم وعلومه جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض