طفل ميتم بملامح تلملم ما مزقته السنين
بقلم الكاتبة / وفاء محمد سالم *
أصبحت معلمة بإحدى المدارس المجاورة لمنزلي الجديد ببلدة جديدة أيضاً ، أحيانا يقال بأن الحظ قد يحذفك لبلدان ولا يحضرك ما وراء هذا كل ما في الأمر وكل ما تعلمه أن هناك شيئاً ما يسمى بالصدف القدرية ، وصلت لمدينتي وباشرت بالعمل .
ذات يوم دخلت لأطفالي الجدد الذين سيكبرون عقلاً ليس عمراً فقط على يدي وحينما دخلت سقطت عيناي على طفل كان يثرثر بالكلام مع أحد أصحابه وشديد الحماس حتى أنه لم يصمت لدخولي بكل احترام انتظرته يكمل حديثه وقد شغفني حب حماسه كنت أنظر إليه بابتسامة وأصدقاءه من حوله كادوا أن يمزقوا ملابسه حتى يستدير لينظر من يقف أمامه ولكنه كان يصارع ليكملها ، بدأنا جميعاً تتعالى صوت ضحكاتنا أنا وتلاميذي الصغار وحينما استدار بنظره إليّ شعرت وكأن شيئاً ما قد مزق قلبي وبدأ يحفر بأجود أنواع الخناجر داخلي رأيت عين شخصٍ كبير قد رُسمت لطفل ، رأيت ابتسامة وملامح وموقف كان قبل ٢٠ عاما رحلت بعيداً بذاكرتي ذهبت ليومٍ دخلت فيه إحدى القاعات في جامعتي حيث أني تأخرت ودخلت أنا ودكتور الهندسة من الباب معاً وكان هناك طالب يشتد بحديثه مع أصحابه وقد ألقى الدكتور التحية لعدة مرات ولكن الطالب لشدة حماسه لم يسمع أحد من حوله وحينما صرخ عليه صديقه استدار ظهره ولكنه لم ينظر للدكتور الذي كنت انتظر أنا منه الإذن للدخول كان يحدق بابتسامة وسط عيني ، تكسر حينها الكلام بفمي حتى نسيت الاسم الذي يلي اسمي ذهبت للجلوس وكان الكرسي الوحيد الفارغ بجانبه جلست به وكأن العالم بنظري يتأرجح يميناً ويساراً لشدة قلقي حينما أوشكت المحاضرة على الانتهاء كتب لي بطرف ورقه مزقتها أنا طوال المحاضرة رقمه وأخبرني بأنه سيدلني على كل شيء إن احتجت لذلك وحمل كتابه وقلمه مبتسماً لي ومن ثم ذهب.
شعرت وكأن الراحة تركض داخلي وتنشر بذور السعادة التي لن تنمو يوماً إلا أن ترتوي منه وتصاب بدفء شمسه كانت أحداث الجامعة جميعها معه وتعنيه ولأجله حتى أني لم أقف يوماً أمام جاكيت لي لأرتديه بجامعتي إلا وقد تخيلت نظرته لي حينما يراني ويبتسم ، كان شديد الانتباه لأدق ما أرتديه حتى أتعبتني دقته ولكنه كان يغرم دائماً بها ويقوم بنزع عقدي وخاتمي ويضعها بجيبه ليعود لمنزله ويرتديها ومن ثم يلتقط صورة ليريني هذا ضاحكاً ويتصل بي ويخبرني أنه سيقوم بارتدائها داخل غرفته فقط ما إن اشتاق لي وينزعها لينام ، كنت أعلم بأن السبب الذي يرضيه في كل مرة أن أنزع شيئاً مني واضعه داخل جيبه ليعود لمنزله مبتسماً ويأتي اليوم التالي أيضاً مبتسماً .
وفي يوم ما حيث كانت السماء تمطر بشدة وقد ألغت جميع المحاضرات خرجنا معاً وأخبرته بأني سأعود بمفردي وذهبت ، و إذ به يمسك بيدي بشدة أمام الجميع ويصرخ بأني سآتي معه رغماً عني ، حينها علمت بأني قد بليت بحب أكثر المخلوقات عناداً ، أخبرته أني سآتي معك ولكن اصمت قليلاً كان المراد فقط أن يوصلني لمنزلي ولكنه كان يتناسى الطريق عمداً ويتجول بي ، كنت سعيدة من داخلي وأعلم أنه يتغابا الطريق الصحيح حتى يطيل المسافة ، اقترب المساء وبدأ الظلام يخفي ملامح حبيبي بجانبي أزعجني هذا الأمر وبدأت أبحث داخل سيارته لأجد نوراً حيث أنه ذهب ليأتي ببعض أعواد الحطب ليشعل النار وجدت داخل سيارته عقداً لم ارتديه يوماً ، جن جنون غيرتي وقبض بحنجرتي البكاء كان يناديني لمساعدته حتى يشعل النار ولمح بعيناي الدموع عن بعد وأتاني مسرعاً حنيت رأسي وضربت بالعقد على صدره لأذهب ولكنه كان يمسك بي حالفاً بأنه كان سيقدمه لي ما إن أشعل النار في تلك اللحظة أيقنت بأني لن أحتمل يوماً أن يكون معقوداً بقران مع غيري احتضنني وكان يقبلني بشدة لتخبرني قبلاته أنها لي بمفردي ويلبسني ذلك العقد .
عدت لمنزلي بعد أن بلغ الليل نصفه تلك الأيام كانت آخر أيام الدراسة وقد اقترب تخرجنا ومضت الأيام سريعاً وكنت بمساء سيكون صباحه تخرجنا معاً كان هناك محادثة بيني وبين أحد أصدقائه أخبرني فيها بأن فلان سيتقدم لك حينما ينتهي حفل التخرج بهذا وتصبحين شريكة حياته وقد الصق مع كلامه صوره لخاتم جميل جداً قمت بالرد عليه وأنا بأقصى مراحل غضبي لماذا يفسد هذا ، أتى الصباح وارتديت عباية تخرجي وبعضاً من عطر العود الذي يحبه وعقداً كنت على ثقه بأنه سيأخذه مني فعلت كل اللازم مستعدة لتلك اللحظة بشغف كنت انظر للثواني وكأنها تمشي بوقود من جسدي وأنفاسي مضت ساعة وساعتان وساعات إلى أن انتهى الحفل ولم يأتِ ذهبت للمنزل وكنت سأجن غضباً وألماً متوقعة بأنه في سبات النوم كالمعتاد ، ولم يأتي لأهم يوم في حياتي حيث أنه ليس يوم تخرجي فقط بل يوم سيمتلكني فيه بين هذا وهذا وتفكير سيء وتبرير لما فعله أتاني اتصال لحسم الأمر - زوجة فلان؟؟ أخبرته نعم زوجته أنا ، وأخبرني بأن اسمي بهاتفه يوحي بذلك واكمل حديثه قائلاً "صار عليه حادث وهو بمستشفى ....في شارع...." ذهبت لذلك المشفى وكأن الشوارع بأكملها لا تحمل أي معالم ولا يوجد بها أي مارة كان تركيزي لذلك المبنى فقط وكيف سأراه .
حينما وصلت أخبرني أحد أفراد عائلته بأن حالته خطيرة جداً وسينقل لخارج البلاد وقد ذهبوا به ، دخل هذا الكلام ليصل لقلبي ويقوم بنزع كل ما حصدته من تلك البذور ويطفئ أنواره ليجعله معتماً دائماً دخل لتخرج روحي بدلاً عنه دخل وسط دماغي وكان أصعب ما حاربه دماغي ليفسره لباقي جسدي ، كنت أتخيل منظر الحادثه فصعق داخلي شيئاً ذهب بي لذلك المكان رأيت حديد سيارته محطماً فزارني تفكير كيف بحال جسده قمت بتفتيش المكان وجدت عباية تخرجه ممزقة ممتلئة بالدماء وهناك صندوقاً على بعد ما يقارب 30متر حملته لمنزلي،هذا كان آخر ما حدث بيننا انتظرته لـ ٢٠ عاماً ولم يجمعني به إلا هذا الطفل كدت أن أسقط أرضاً أمامهم حينما رأيت عناده ليكمل حديثه وحينما رأيت عيناه بدأت مسرعة بسؤالهم جميعاً ما اسمك واسم والدك حتى أصل لهذا الطفل واخبرني - انا فلان ابن فلان وقبل ان يكمل اسم جده تقفل فمي بشده وماء عيني قد محت ملامحه ، أصبح لديك طفل وأصبحت أستاذته وأنا لازلت انتظر واغفو لأصحى بفزعه أتخيلك تقف أمامي بذلك الخاتم أصبحت أباً من امرأة غيري؟ سمعت يوماً صرخات طفل كنت دائماً تخبرني بأني سأكون أمه مهما حدث ، ابنك يشبهك جدًا وهذا كل ما تمنيته أن أكون أماً لطفل يحمل عنادك وكبريائك وبعد حاجبك عن عيناك وحدة نظرك وحنان قسوتك وابتسامتك التي كانت بمثابة محفز السيروتونين بداخلي .
مرت الأيام وكانوا جميع الطلاب أبنائي إلا ذلك الطفل كان مصدر انكساري وألمي كان مصدر خدشات صدري كل يوم كان اهتمامي ينجذب نحوه دون أي شعور مني ، ابنك يحبك بشدة فكل حديثه أبي يفعل كذا وسأصبح مثله كان يخبرني كيف تقوم بتدريسه وضرب يده حينما يجن غضبك في كل مرة كنت أتذكر تفاصيلك وصوتك تشرح لي بإحدى القاعات الخالية وتقوم بضرب يدي وتعود مسرعاً لتقبلها ، أتى ابنك ذات يوم ولم يقوم بحل واجبه وقد انهك جسدي فضولي كيف أصبحت الآن وكيف هي ملامحك سألته لماذا وأخبرني "ابي مريض" وجدتها من أقوى الفرص لأكتب مرسولاً لك لتحظر للمدرسة وقد كتبت أسفل رسالتي اسمي ووقعت بكل وضوح لأول مره حتى تعرف هذا وتأتي .
في اليوم التالي ارتديت أفضل ما لدي لألتقي بك وحينما لبست عقدي حلق داخلي ذلك الشعور الذي سُحقت لذته الـ ٢٠ عاماً كان دوامي من أصعب ما يكون حتى لمحت من أعلى الطوابق رجلاً وسيماً جداً بطوله وعرض أكتافه بهيبة خطواته داخلاً للمدرسة ، قفز قلبي وعلمت بأنه أنت ألقيت نظره لمظهري ونزلت نحوك وكأن بقدمي حذاء تزلج وسط ذلك الدرج وصلت إليك وكان للوهلة الأولى سيوقف نبضي رفعت رأسك لألمح حدة النظر عينها ورسمت حاجبيك ولون شعرك شديد السواد كان حزن ملامحك بالنسبة لي بمثابة أجمل وجه يعبس من الحياة باستثناء ألمي لحزنك وحينما تغمض نصف عينك وتعقد حاجبيك وتقفل فمك لتركز بعيناي أجن هياماً ، كم اشتقت لهذا بك، وقفنا لبضع دقائق ننظر لما غيرته الحياة بنا ومن ثم قمت بمد يدك إليّ ، امسكت بها وكأني أمسكت بنفسي من حافت سقوطها من جديد أمسكت بأملي وأماني امسكت بعهداً مزقته السنين امسكت ببذور ورد عادت لتنبت بقلبي من جديد حاولت أن أكون كتلك المرأة القوية بنظرك الذي لا يربكها شي حاولت استعادت صوتي وترتيب كلامي وأخبرتك تفضل تريد مكتبي أم حديقة المدرسه لنتحدث بشأن ابنك وابتسمت ، وجدتك تنظر لتسريحة شعري ومن ثم عيناي لتصل لعقدي وتبتسم وتكمل نظرك لباقي جسدي ، بالرغم من جمال اني وجدت الماضي فيك لازال حياً الا ان وجع فقدي لهذا لأعوام طويله يشنق كل ما بداخلي أخبرني بأنه يريد الحديقه وكان صوته يذبل في كل حرف حينما ذهبنا وجلست أمامه كنت سأحدثه عن ابنه بالفعل ولكنه سبقني بقوله هو ليس ابني ، آسفه لاني لم اظهر بقوتي السابقه ولكني حينما سمعت هذا بدأت بالبكاء كالطفله وأتيت لحضنه الذي حرمت منه لـ٢٠ عاماً أتيت إليه وكأني عدت لمأواي شعرت بأني استنشق الاكسجين حقاً وان كل ما قبل هذا مجرد هواء يدخل لأعيش كنت أشد يدي من خلفه وأردد ببكاء كنت أثق بأنك لن تخلف وعداً قطعته لي كنت أعلم بأنك لن تكون أباً من إم غيري ودفعته لأنظر لعيناه لأسأله عن أمر الطفل وكيف يشبهه لم يجيبني على سؤالي وكان ينظر فقط لعقدي وتذرف دموعه مقترباً مني من الخلف لياخذ العقد مني ويضعه داخل جيبه امسكت بيداه وأنا أبكي وأضحك معاً وأخبرته باني حينما ارتديته تمنيت هذا ومن ثما جلس يخبرني بان الطفل هو تبناه فقط حيث كانت رغبت والدته حينها قمت بضرب نفسي متحدثه له بأني لم أسال ابنك عن امه ابداً فقط كنت أتالم منها ولم يخطر لي لماذا لم يحدثني عنها يوماً ، أجابني بأبتسامه مازلتي تضربين نفسك حينما تكتشفين بانك اخطئتي في امراً ما ضحكت بخجل وحب لقوة استراجعه ادق التفاصيل ، طال حديثنا أخبرته بان هذا المكان ليس مناسباً للحديث عن أدق التفاصيل ومن ثم ذهبنا معاً وحينما كان يخبرني عن الحادثه استرجعت ذلك الصندوق القديم الذي اجزمت أن لا أقوم بفتحه إلا ونحن معاً أو أن يبقى تراثاً إلى أن يحتضنني الثراء ، أخبرته كم مرة تمنيت أن أقوم بفتحه ولكني احتضنه ببكاء خوفاً من أن يكون بداخله شيئاً يتطلب مني وجوده... انتهى ذلك اليوم وكان هذا لقائي به بعد ٢٠ عاماً والجميل الان بأني اصبحت اماً لأبنه الحقيقي..
* كاتبة سعودية
2 pings